الموطأ: تصنيفه، وأهميته وميزته الخاصة به، ومنهجه، ونماذج منه
ومن أمثلة التصنيف على الأحكام وطريقة الفقه في القرن الثاني الهجري, وهو من أوائل المصنفات: (موطأ الإمام مالك بن أنس) رحمه الله.
روى ابن عبد البر بسنده عن الفضل بن محمد بن حرب أنه قال: أولُ من عمل كتابًا بالمدينة على معنى (الموطأ) -من ذكر ما اجتمع عليه أهل المدينة- عبدُ العزيز الماجشون، وعمل ذاك كلامًا بغير حديث؛ فأتي به مالك فنظر فيه فقال: ما أحسن ما عمل! ولو كنت أنا الذي عملت لبدأت بالآثار، ثم سدّدت ذلك بالكلام. ثم صنف موطأه؛ فعمل من كان بالمدينة من العلماء (الموطآت)؛ فرأى مالك ذلك ثم نبذه وقال: “لتعلمُنّ أنه لا يرتفع من هذا, إلا ما أريد به وجه الله”.
قال ابن العربي: ذكر القاضي ابن المنتاب أن مالكًا روى مائة ألف حديث، جمع منها في موطئه عشرة آلاف، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة ويختبرها بالآثار والأخبار حتى وصلت إلى خمسمائة. وفي (المدارك) عن سليمان بن بلال أنه قال: ألّف مالك (الموطأ) وفيه أربعة آلاف حديث أو أكثر، ومات وهي ألف حديث ونيف، يخلصها عامًا عامًا بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين وأمثل في الدين.
وقال أبو بكر الأبهري: جملة ما في (الموطأ) من الآثار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن الصحابة والتابعين ألف وسبعمائة وعشرون حديثًا: المسند منها ستمائة حديث، والمرسل مائتان واثنان وعشرون حديثًا، والموقوف ستمائة وثلاثة عشر، ومن قول التابعين مائتان وخمسة وثمانون، وقال الغافقي: مسند (الموطأ) ستمائة حديث وستة وستون حديثًا، وقال إِلْكِيا الهِرَّاسي: إن (موطأ مالك) كان اشتمل على تسعة آلاف حديث؛ ثم لم يزل ينتقي حتى رجع إلى سبعمائة.
والاختلاف بين هذه الأعداد للأحاديث إنما هو بحسب ما عدّه الباحث من أحاديث (الموطأ)؛ فقد اختلف رواتها في عدد الأحاديث وفي بعضها؛ لأن مالكًا كان دائم التهذيب والتقويم لكتابه.
وقد تبين لنا لماذا سمي (الموطأ)؛ فقد سمي بهذا لأنه يجمع الآراء التي تواطأ واجتمع عليها أهل المدينة, لكن أبا حاتم الرازي يقول: معنى (الموطأ) شيءٌ وضعه ووطأه للناس؛ حتى قيل: (موطأ مالك) كما قيل: (جامع سفيان)، وما ذكرناه قبل ذلك -في نظرنا- أولى مما قاله أبو حاتم؛ فلو كان الأمر كما يقول, لكان كل كتاب تهيأ للناس وضعه ليسمى موطأ؛ لكن إذا قلنا: إن المراد بـ(الموطأ) الآراءُ التي اجتمع عليها علماء المدينة واعتمدوها؛ فإن ذلك يكون خاصًّا بكتاب مالك -رحمه الله.
قال بعض المشايخ: قال مالك: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة, فكلهم واطأني عليه؛ فسميته (الموطأ). وهو رأي آخر مهم في سبب تسميته (الموطأ)، قال ابن فهرٍ: لم يسبق مالكًا أحد إلى هذه التسمية؛ فإن من ألف في زمانه بعضهم سمى الجامع، وبعضهم سمى المصنف، وبعضهم سمى المؤلف، ولفظة (الموطأ) بمعنى: الممهد المنقح، وابن فهر أيضًا بهذا لم يحدد خاصة كتاب (الموطأ).
وروى أبو مصعب أن أبا جعفر المنصور قال لمالك: ضع للناس كتابًا أحملهم عليه، فكلمه مالك في ذلك فقال: ضعه، فما أحد اليوم أعلم منك؛ فوضع (الموطأ) فما فرغ منه حتى مات أبو جعفر، قال المفضل بن محمد بن حرب المدني: إنه رأى الكتاب الذي ألفه عبد العزيز بن عبد الله الماجشون من ذكر ما اجتمع عليه أهل المدينة، حيث قال: رأيت بعض ذلك الكتاب وسمعته ممن حدثني به، وفي (موطأ ابن وهب) منه شيء، وقال ابن وهب: حدثني مالك قال: كان أبو بكر بن حزم على قضاء المدينة وولي المدينة أميرًا، وقال له يومًا قائل: ما أدري كيف أصنع بالاختلاف؟ فقال له أبو بكر بن حزم: يابن أخي، إذا وجدت أهل المدينة مجتمعين على أمر فلا تشك فيه أنه الحق، قال ابن وهب: وقال لي مالك: لم يكن بالمدينة قط إمام أخبر بحديثين مختلفين، وقال سفيان بن عيينة: من أراد الإسناد والحديث المعروف الذي تسكن إليه القلوب؛ فعليه بحديث أهل المدينة.
ولاشتمال (الموطأ) على أحاديث أهل المدينة التي حررها ونقحها الإمام مالك, قال عبد الرحمن بن مهدي: ما كتاب بعد كتاب الله أنفع للناس من (الموطأ)، وقال سعيد بن أبي مريم -وهو يقرأ عليه (موطأ مالك) وكان ابنا أخيه قد رحلا إلى العراق في طلب العلم-: لو أن ابني أخي مكثا بالعراق عمرهما يكتبان ليلًا ونهارًا؛ ما أتيا بعلم يشبه (موطأ مالك), أو ما أتيا بسنة يجتمع عليها خلاف (موطأ مالك بن أنس). وقال مالك: أدركتُ بالمدينة مشايخ أبناء مائة وأكثر؛ فبعضهم قد حدثت بأحاديثه، وبعضهم لم أحدث بأحاديثه كلها، وبعضهم لم أحدث من أحاديثه شيئًا، ولم أترك الحديث عنهم لأنهم لم يكونوا ثقات فيما حملوا؛ إلا أنهم حملوا شيئًا لم يعقلوه.
وقد اعتنى ابن عبد البر بهذا الكتاب -(الموطأ) للإمام مالك بن أنس، رحمه الله- في رواية يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي عنه من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسنده ومقطوعه ومرسله وكل ما يمكن إضافته إليه -صلى الله عليه وسلم-؛ فألف لذلك كتاب (التمهيد)، قال: رتبت ذلك مراتب، قدمت فيها المتصل ثم ما جرى مجراه مما اختلف في اتصاله، وجعلته على حروف المعجم في أسماء شيوخ مالك -رحمهم الله- ليكون أقرب للمتناول.
قال: ووصلت كل مقطوع جاء متصلًا من غير رواية مالك، وكل مرسل جاء مسندًا من غير طريقه، فيما بلغني علمه وصح بروايتي جمعه؛ ليرى الناظر في الكتاب موقع آثار (الموطأ) من الاشتهار والصحة، قال: واعتمدت في ذلك على نقل الأئمة وما رواه ثقات هذه الأمة، وذكرت من معاني الآثار وأحكامها المقصودة بظاهر الخطاب ما عوّل على مثله الفقهاء أولو الألباب، وجلبت من أقاويل العلماء في تأويلها وناسخها ومنسوخها وأحكامها ومعانيها ما يشتفي به القارئ الطالب, ويبصّره وينبه العالم ويذكره، وأتيت من الشواهد على المعاني والإسناد بما حضرني من الأثر ذكره, وصحبني حفظه مما تعظم به فائدة الكتاب، وأشرت إلى شرح ما استعجم من الألفاظ مقتصرًا على أقاويل أهل اللغة، ثم المنقطع والمرسل.
وقد نبه ابن عبد البر على بعض الأوهام والأغلاط، وكان له أثر مشهور في ذلك؛ فذكر حديث مالك، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي مسعود الأنصاري أنه قال: “نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب، ومَهْر البَغِيّ، وحُلْوَان الكاهن”، وقال: وقع في نسخة (موطأ يحيى): وعن أبي مسعود الأنصاري, وهذا من الوهم البين، والغلط الواضح الذي لا يعرج على مثله، والحديث محفوظ في جميع الموطآت وعند رواة ابن شهاب كلهم لأبي بكر عن أبي مسعود، وأما لابن شهاب عن أبي مسعود؛ فلا يلتفت إلى مثل هذا لأنه من خطأ اليد وسوء النقل.
وهذا يدل على مزيد العناية من ابن عبد البر؛ لأن زيادة الواو هنا أفسدت الإسناد ولا يوجد دليل يدل على احتمال وجودها، وهذا يدل على عناية المحدثين لمناهج الحديث فيما يقومون به من عمل أصلي، أو من إضافة إلى هذا العمل الأصلي.
قال ابن عبد البر: وقد روى ابن وهب، وإبراهيم بن طهمان، وسعيد بن داود الزنبري جميعًا عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة في بيعة النساء، قالت: “ما مس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده يدَ امرأة قط إلا أن يأخذ عليها؛ فإذا أخذ عليها فأعطته قال: ((اذهبي؛ فقد بايعتك))” قال: وهذا ليس في (الموطأ) عند أحد من رواته -فيما علمت- وقد روى يحيى بن معين عن معن بن عيسى عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: “لم يصافح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأة قط”، وروى بسنده عن أحمد بن علي قال: حدثنا يحيى بن معين… فذكره، قال: وهذا حديث لا أعلم أحدًا حدّث به غير ابن معين، لقد وهم في إسناده وغلط، ذكره النسائي.
وبعد أن فرغ من الكتاب قال: فهذا جميع ما في (الموطأ) من رواية يحيى بن يحيى الأندلسي من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-, وما أضيف إليه أنه قاله -صلى الله عليه وسلم-, أو كان موقوفًا فيه مرفوعًا في غيره ومثله لا يدرك بالرأي؛ فذكر لصحته عنه -صلى الله عليه وسلم- حاشا حديثين لأيوب السختياني، وحديث لطلحة بن عبد الملك؛ فإن هذه الثلاثة الأحاديث خاصة من غير رواية يحيى، وقد ذكر لقاء مالك مع أبي جعفر المنصور وأنه دعاه؛ فلما دخل عليه حدثه وسأله وسمع إجابته, ثم قال: إني عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها -يعني: (الموطأ)- فتنسخ نسخًا، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها لا يتعدونه إلى غيره، ويَدَعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث؛ فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم، قال مالك: فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا؛ إن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم منهم بما سبق إليهم وعملوا به, ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه تشديد؛ فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كلٍّ ما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم، فقال: لعمري؛ لو طاوعتَني على ذلك لأمرتُ به.
وقيل: إن المهدي أمر مالك بن أنس حين أخرج (الموطأ) يصير في صندوق, حتى إذا كان أيام الموسم حمل الناس عليه؛ فإن كان فيه شيء فأصلحه -أي: أمره بإصلاحه- فقرأه على أربع أنفس أنا منهم، قال ذلك سعيد بن داود الزنبري، وأنكر ذلك على سعيد؛ أنكره مجاهد بن موسى، وقال: أنا -واللهِ- أجالس مالكًا منذ ثلاثين سنة أو خمس وثلاثين سنة بالغداة والعشي، وربما هجَّرت، ما رأيته قرأه على إنسان قط. فأنكر ابن نافع قوله: إنه سمعه من لفظه؛ فأما القول بحمل (الموطأ) إلى العراق فلم يتعرض له.
وقال الشافعي -رحمه الله، وذكر (الموطأ) وما فيه من الحديث-: ما علمنا أن أحدًا من المتقدمين ألّف كتابًا أحسن من (موطأ مالك)، وما ذكر فيه من الأخبار عن أهل المدينة وغيرهم من العلماء المشهورين، ولم يذكر فيه مرغوبًا عنه في الرواية كما ذكر غيره في كتبه، وما علمته ذكر حديثًا فيه ذكر أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- -أي: بغير المدح- إلا ما في حديث العلاء بن عبد الرحمن: ((ليُذادنَّ رجال عن حوضي)) فلقد أخبرني من سمع مالكًا ذكر هذا الحديث، أنه ود أنه لم يخرجه في (الموطأ). وهذه خاصة أيضًا من خواص (الموطأ) تحدث عنها الإمام الشافعي؛ وهو حرص الإمام مالك -رحمه الله- بألا يذكر حديثًا فيه شيء يمكن أن يمس صحابيًّا من صحابة الرسول الله -صلى الله عليه وسلم-, حتى هذا الحديث الذي يتحدث عن أناس بغير أعيانهم؛ ود أنه لم يخرجه في (الموطأ).
وقال أحمد بن حنبل: سمعت (الموطأ) من محمد بن إدريس الشافعي؛ لأني رأيته ثبتًا، وقد سمعته من جماعة قبله، وألف الدارقطني كتابًا سماه (أحاديث الموطأ، وذكر اتفاق الرواة عن مالك واختلافهم فيه)، وذكر ما أسند مالك مما رُوي عنه في (الموطأ) على اختلاف الرواة عنه في ذكر اختلافهم واتفاقهم, وانفراد بعضهم بالرواية عنه فيه على بعض دون غير (الموطأ) من حديثه، وقام بدراسة مهمة للأحاديث في الموطآت، ونسب كل حديث إلى من انفرد به من أصحاب الموطآت؛ فذكر ما أسند في (الموطأ) عن الزهري عن أنس بن مالك خمسة أحاديث، والزهري عن سهل بن سعد حديثًا واحدًا؛ قصة المتلاعنين بطوله، وذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لي خمسة أسماء…)) قال: وصله معن في موطئه، وتابعه إبراهيم بن طهمان، وابن مبارك الصوري، وابن شروس، وابن نافع، قال: وأرسله القعنبي وابن يوسف وابن بكير، ولم يذكره ابن وهب وابن القاسم وابن عفير. حدثنا النيسابوري قال: حدثنا يونس قال: حدثنا ابن وهب مرسلًا… وذكر ما روي عن ثابت: “تعيش حميدًا”، ورواه ابن عفير وابن أبي أويس دون غيرهما من أصحاب (الموطأ)، وتابعهما غير واحد في غير (الموطأ).
وألف الدارقطني الأحاديث التي خولف فيها مالك، وذكر مما رواه مالك في (الموطأ): ما رواه عن ثور بن زيد عن ابن عباس أنه قال: ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمضان فقال: “لا تصوموا حتى تروا الهلال” قال: وثور لم يسمع ابن عباس؛ وإنما روى هذا الحديث عن عكرمة عن ابن عباس، ومالك لا يرضى عكرمة, ويروي أحاديثه مدلسة مرسلة, يُسقط اسمه من الإسناد في غير حديث في (الموطأ)، قال: وروى مالك بن أنس عن حميد عن “أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمرة حتى تزهي”، وقال: “أرأيت إن منع الله الثمرة؛ بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟!” قال: خالفه سليمان بن بلال وإسماعيل بن جعفر ومحمد بن إسحاق، وذكر غيرهم ما قارب من رواية إبراهيم بن حمزة الزبيري عنه وغيره, فرووه عن حميد عن أنس “أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الثمار حتى تزهو” قال أنس بن مالك: “أرأيت إن منع الثمرة…” وهذا هو الصواب، قال: ومالك جعل هذا الكلام من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-, ولا يثبت.
قال: وروى مالك في (الموطأ) عن هشام بن عروة عن أبيه: أن أسماء بنت أبي بكر كانت تلبس المشبَّعات بالعُصْفُر، ليس فيها زعفران وهي محرمة. وخالفه يحيى بن سعيد القطان وأبو أسامة -حماد بن أسامة- وحماد بن زيد, وغيرهم رووه عن هشام عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء، وهو الصواب.
وإن دل ذلك؛ فإنما يدل على عناية العلماء بـ(الموطأ), وعلى مقارنتهم أحاديثه بروايات غير مالك لهذه الأحاديث، وذكر الاختلاف وتسجيل هذا الاختلاف وإبداء الرأي فيه.
وتحدث الذهبي بالتفصيل عمن روى (الموطأ) عن مالك، ومن اعتنى برواية (الموطأ) ومعرفته وتحصيله، ومن شرحه وتكلم عن رجاله وغريبه، ومن جمع بين روايتين للموطأ عن مالك، ذكر ذلك فأجاد وأفاد في (سير أعلام النبلاء).
وإذا قال مالك: “عن الثقة”؛ فقد بين العلماء ذلك، قال السخاوي في (فتح المغيث): حيث روى مالك عن الثقة عن بكير بن عبد الله بن الأشج؛ فالثقة مخرمة ولده، أو عن الثقة عن عمرو بن شعيب؛ فقيل: عبد الله بن وهب أو الزهري أو ابن لهيعة، وإذا روى عمن لا يتهم من أهل العلم؛ فهو الليث، وفصلوا ذلك تفصيلًا جيدًا.
أهمية (الموطأ), وميزته الخاصة به:
عني مالك في موطئه بالمجمع عليه عند أهل المدينة وما يوافق العمل العام، ومن أجل ذلك حرره واختصره ولم يعتمد منه إلا ما رآه محققًا لذلك الإجماع -أي: العمل عند أهل المدينة- قال الشاطبي في (الموافقات): سئل مالكٌ عن الرجل يأتيه الأمر يحبه؛ فيسجد لله U شكرًا، فقال: لا يفعل؛ ليس هذا مما مضى من أمر الناس، قيل له: إن أبا بكر الصديق -فيما يذكرون- سجد يوم اليمامة شكرًا لله؛ أفسمعت ذلك؟ قال: ما سمعت ذلك؛ وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول: هذا شيء لم أسمع له خلافًا؛ فقيل له: إنما نسألك لنعلم رأيك فنرد ذلك به، فقال: نأتيك بشيء آخر أيضًا لم تسمعه مني؛ قد فتح على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى المسلمين بعده, أفسمعت أن أحدًا منهم فعل مثل هذا؟ إذا جاءك مثل هذا مما قد كان للناس, وجرى على أيديهم لا يُسمع عنهم فيه شيء؛ فعليك بذلك فإنه لو كان لذكر؛ لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم؛ فهل سمعت أن أحدًا منهم سجد؟! فهذا إجماع؛ إذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه.
وسجود الشكر ثبت في روايات معتمدة؛ لكنه ليس من السنن الدائمة أو التي واظب عليها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن سجد فله أسوة؛ وإن لم يسجد فلم يترك سنة داوم عليها الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لكن هذا منهج الإمام مالك: الحرص على السنن الدائمة وعدم اعتبار السنن العارضة لحال خاص، أو الخارجة عن العمل العام، كان ذلك منه حرصًا على السنة التي داوم عليها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وعدم تحويل الأحوال الخاصة إلى سنن عامة سيرًا على مقتضى التيسير الذي سار عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم-, ومع ذلك فقد رفض أن يعمم هذا المنهج؛ لئلا تضيع السنن المرتبطة بحال خاص أو غير الدائمة، فخص (الموطأ) بالمدينة ومن يريد الاقتداء بأهلها، وترك لغيره أن يجتهد وأن يذكر السنن جميعها؛ سواء وردت في حال خاص أو كانت دائمة عند العمل المعين الذي وردت فيه، ورفض أن يفرض (الموطأ) بمنهجه فيه على كل الأقطار.
وفي (صحيح ابن حبان) قال: أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا معن بن عيسى عن مالك عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة؛ أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله تعالى يحب الرفق في الأمر كله)).
قال أبو حاتم: ما روى مالك عن الأوزاعي إلا هذا الحديث، وروى الأوزاعي عن مالك أربعة أحاديث، وروى ابن حبان من طريق الماجشون عن مالك عن الزهري عن سعيد بن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الشفعة فيما لم يقسم؛ فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)) وقال ابن حبان: رفع هذا الخبر عن مالك أربعة أنفس: الماجشون، وأبو عاصم، ويحيى بن أبي قتيلة، وأشهب بن عبد العزيز، وأرسله عن مالك سائر أصحابه، وهذه كانت عادة لمالك؛ يرفع في الأحايين الأخبار ويوقفها مرارًا, ويرسلها مرة ويسندها أخرى على حسب نشاطه؛ فالحكم أبدًا لمن رفع عنه وأسند بعد أن يكون ثقة حافظًا متقنًا, وهذا يردّ على كثير مما ذكره العلماء عن مالك في إرساله ما وصله غيره، أو في حذفه راويًا معينًا في بعض الأحيان كعكرمة أو نحو ذلك؛ فهذا محمول على حالة خاصة عند الرواية، ثم يذكر في حالة أخرى ما يجبر ذلك وما يؤيده.
وقد ذكر حديثًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من سبّح الله ثلاثًا وثلاثين…)) إلخ؛ وقال: رفعه يحيى بن صالح عن مالك وحده.
ولكي نتبين منهج مالك في موطئه نأخذ بابًا من الأبواب؛ باب “ما جاء في الشهادات”؛ فنجده يذكر حديثًا مرفوعًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ألا أخبركم بخير الشهداء…)) ثم يتبعه بحديث عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: قدم على عمر بن الخطاب رجلٌ من أهل العراق, فقال: لقد جئتك لأمر ما له رأس ولا ذنَب، قال عمر: ما هو؟ قال: شهادات الزور. ثم يقول: بلغني أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: “لا تجوز شهادة خَصْم ولا ظَنِين”؛ فيبدأ بالمرفوع ثم بالموقوف، وأحيانًا يأتي بالمرسل ثم يأتي بالبلاغات.
ثم يقول: بلغني عن سليمان بن يسار وغيره أنهم سئلوا عن رجل جلد الحد؛ أتجوز شهادته؟ فقالوا: نعم، إذا ظهرت منه التوبة, وسمع ابن شهاب يُسأل عن ذلك فقال مثل ما قال سليمان بن يسار، قال: وذلك الأمر عندنا؛ لقول الله -تبارك وتعالى-: {ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ }النور: 4] إلى آخر الآية، قال مالك: فالأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا: أن الذي يجلد الحد ثم تاب وأصلح تجوز شهادته، وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك.
ثم قال: باب “القضاء باليمين مع الشاهد”: عن جعفر بن محمد عن أبيه “أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد”.
وروى عن أبي الزناد: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن خطاب وهو عامل على الكوفة: أن اقضِ باليمين مع الشاهد، وذكر أنه بلغه أن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار سُئلا: هل يُقضى باليمين مع الشاهد؟ فقالا: نعم، ثم تحدث هو عن ذلك فقال: مضت السنة في القضاء باليمين مع الشاهد الواحد؛ يحلف صاحب الحق مع شاهده ويستحق حقه؛ فإن نكل وأبى أن يحلف؛ أحلف المطلوب؛ فإن حلف سقط عنه ذلك الحق؛ وإن أبى أن يحلف ثبت عليه الحق لصاحبه، قال مالك: وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة، ولا يقع ذلك في شيء من الحدود، ولا في نكاح، ولا في طلاق، ولا في عتاقة، ولا في سرقة، ولا في فرية؛ فإن قال قائل: فإن العتاقة من الأموال، فقد أخطأ؛ ليس ذلك على ما قال، ولو كان ذلك على ما قال لحلف العبد مع شاهده إذا جاء بشاهد أن سيده أعتقه، وأن العبد إذا جاء بشاهد على مال من الأموال ادعاه؛ حلف مع شاهده واستحق حقه كما يحلف الحر، قال مالك: فالسنة عندنا أن العبد إذا جاء بشاهد على عتاقته؛ استُحلِف سيده ما أعتقه وبطل ذلك عنه.
واستمر الإمام مالك يتكلم في هذا الموضوع حتى استوفاه حقه، قال مالك: ومما يشبه ذلك أيضًا مما يفترق فيه القضاء وما مضى من السنة؛ أن المرأتين تشهدان على استهلال الصبي؛ فيجب بذلك ميراثه حتى يرث ويكون ماله لمن يرثه إن مات الصبي، وليس مع المرأتين اللتين شهدتا رجل ولا يمين.
ثم قال في آخر كلامه: فهذا ما لا اختلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلدان؛ فبأي شيء أخذ هذا أو في أي موضع من كتاب الله وجده؛ فإن أقر بهذا فليقر باليمين مع الشاهد، وإن لم يكن ذلك في كتاب الله U, وإنه ليكفي من ذلك ما مضى من السنة؛ ولكن المرء قد يحب أن يعرف وجه الصواب.
وبيَّن البيهقي رأي المخالف ورأي الموافق، وأن الشافعي وافق مالكًا -والله أعلم.