Top
Image Alt

النابغة ومعلقته

  /  النابغة ومعلقته

النابغة ومعلقته

النابغة الذبياني: هو أبو أمامة زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني، والنابغة لقب له، وكان من أشرف ذبيان نسبًا، فلما قال الشعر وتكسَّبَ به؛ غض هذا التكسب بالشعر بعض الشيء من شرفه، لكنه لم يتكسب بالشعر إلا في مدح ملوك عصره ولم ينزل به إلى مَن دونهم.

كانت له علاقةٌ وثيقةٌ بالمناذرة ملوك الحيرة، وله فيهم مدائحُ كثيرةٌ، ولكن مَدْحه للنعمان بن المنذر هو الأشهر، وكان النعمان يهبه الهبات العظيمة، وكان من هذه الهبات نُوق تسمى العصافير؛ لأنها نتجت من فحل كريم للعرب يسمى عصفورًا، ويقولون: إن هذه النوق كانت سودًا جميلةَ الشكل، ولم يكن لأحد من العرب بعير أسود في جمال هذه النوق، ولم يزل النابغة مقربًا عند النعمان إلى أن وشَى عند النعمان به بعضُ الوشاة، فأفسد ما بينهما من الود، وخاف النابغة أن يبطش به النعمان بن المنذر ويقتله، فهرَبَ إلى الغساسنة -أعداء المناذرة- واتصل بهم، ومدح ملوكَهم، فاغتم النعمان بن المنذر بسبب ذلك، وكان النابغة يحِنُّ إلى قديم عهده عند النعمان بن المنذر، فأخذ يدبج القصائد التي يعتذر فيها إلى النعمان، ويرسلها إليه، فأثرت هذه القصائد في نفسه، ورضي عنه وأرجعه إلى مكانته التي كانت له عنده.

وقد عمر النابغة طويلًا، ويعده ابن سلام من فحول الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية، وكثير من الرواة جعل قصيدته -التي سنتوقف معها- إحدى المعلقات.

ويمتاز شعره برشاقة اللفظ، وحسن النظم، وقلة التكلف، وبراعة التصوير. وكان النابغة ذا بصر عالٍ بالشعر؛ يدل على ذلك: أن معاصريه كانوا ينصبون له خَيْمة في سوق “عكاظ” ويأتيه الشعراء ينشدون قصائدهم بين يديه؛ ليحكم أيهم أجود.

أما معلقته؛ فمطلعها:

يا دار مية بالعلياء فالسند

*أقوت وطال عليها سالف الأبد

والغرض الأساسي من هذه القصيدة، هو: الاعتذار إلى النعمان بن المنذر.

وتبدأ القصيدة -كعهد الشعراء الجاهليين في بناء قصائدهم الطويلة- بالوقوف على الأطلال، فـ”مية”: اسم امرأة، و”العلياء والسند”: اسمان لمكانين، أقوت: أي: خلت، و”سالف الأبد”: ماضي الدهر.

وقفت فيها أصيلانًا أسائلها

*عيَّت جوابًا وما بالربع من أحد

ثم يقول -عن هذه الدار:

أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا

*أخنى عليها الذي أخنى على لبد

يقول: إن هذه الديار أصبحت مهجورةً بعد أن رحل أهلها عنها، ولقد أتَى عليها الدهر الذي أتَى على نسر لقمان بن عاد، وكان للقمان نسر عمر طويلًا اسمه لُبَد.  ثم قال النابغة:

فعد عما ترى إذ لا ارتجاعَ له

*وانم القُتود على عيرانة أجُدِ

يقول: دعك من هذا الماضي، ودعك من هذه الديار، وانتقل من هذا المكان إلى مكان آخر بهذه الناقة الشديدة الصلبة السريعة، ثم وصف الناقة وشبهها بثور الوحش، قال عن هذا الثور الذي شبه به ناقته:

من وحش وجرة موشي أكارعه

*طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد

أسرت عليه من الجوزاء سارية

*تزجي الشمال عليه جامد البرد

فارتاع من صوت كلاب فبات له

*طوع الشوامت من خوف ومن صرد

فبثهن عليه واستمر به

*صنع الكعوب بريات من الحرد

وكان ضمران منه حيث يوزعه

*طعن المعارك عند المُحجر النجد

شك الفريصة بالمدرى فأنفذها

*طعن المبيطر إذ يشفي من العضد

كأنه خارجًا من جنب صفحته

*سفود شرب نسوه عند مفتأد

فظل يعجم أعلى الروق منقبضًا

*في حالك اللون صدق غير ذي أود

لما رأى واشق إقعاص صاحبه

*ولا سبيل إلى عقل ولا قود

قالت له النفس إني لا أرى طمعًا

* وإن مولاك لم يسلم ولم يصد

فتلك تبلغني النعمان إن له فضلًا

*على الناس في الأدنى وفي البعد

وفي هذه الأبيات يبدأ النابغة بتشبيه ناقته بثَوْر الوحش، ويصف هذا الثور بأنه مِن وحش وجرة، ووجرة: مكان معروف بسكنَى ثور الوحش فيه.

ويقول: إن هذا الثور ارتاع من صوت كلّاب، صوت صائد معه كِلاب يريد أن يصطاد بها هذا الثور، فلما أدرك الثور ذلك بات ليلته يقِظًا غير مطمئن؛ بسبب الخوف وبسبب البرد.

ثم إن هذا الصياد أرسل الكلاب إلى هذا الثور، فدارت معركة بينه وبين كلبين؛ الكلب الأول: اسمه ضمران:

وكان ضمران منه حيث يوزعه

*طعن المعارك عند المحجر النَّجُد

كان هذا الكلب قريبًا من الثور، وأخذ هذا الثور يطعنه طعنَ المعارك المقاتل، حتى طعنه بقَرنه طعنة نافذة قاتلة، وخرج القرنُ من جسم الكلب يشبه عود الحديد، “كأنه”: أي: كأن قرن الثور، “خارجًا من جنب صفحته”: من جنب الكلب؛ “كأنه سفود شرب”، السفود: هو الحديدة التي يُشوَى عليها اللحم.

لما رأى واشق إقعاص صاحبه

*ولا سبيل إلى عقل ولا قود

قالت له النفس إني لا أرى طمعًا

* وإن مولاك لم يسلم ولم يصد

أي: لما رأى الكلب الآخر -وهو واشق مصرع صاحبه ضمران- انهزم ولم يحاول الهجوم على الثور، ثم اتخذ النابغة من هذا الثور مشبَّهًا به لناقته، فقال:

“فتلك تبلغني النعمان” أي: فتلك الناقة التي تشبه هذا الثور:

فتلك تبلغني النعمان إن له فضلًا

*على الناس في الأدنى وفي البعد

يعني: في القريب وفي البعيد له أفضال على الناس جميعًا.

ويبدأ النابغة من هذا البيت مدحه للنعمان، فيقول:

ولا أرى فاعلًا في الناس يشبهه

* ولا أحاشي من الأقوام من أحدِ

إلا سليمان إذ قال الإله له

*قُم في البرية فاحددها عن الفنَد

وخيس الجن إني قد أذنتُ لهم

*يبنون تدمر بالصفاح والعَمَدِ

فمن أطاع فانفعه بطاعته

*كما أطاعك وادْلـُلْهُ على الرشَدِ

ومن عصاك فعاقبه معاقبةً

*تنهى الظلوم ولا تقعد على ضَمد

يشبه النابغة النعمان بسليمان # في مُلكه الباذخ الذي أعطه الله سبحانه وتعالى له.

ثم رجع بالكلام إلى المديح والثناء على النعمان، فقال:

الواهب المائة المعكاء زينها

*سعدان توضح في أوبارها اللبد

والأدم قد خيست فتلًا مرافقها

*مشدودة برحال الحيرة الجدد

والخيل تمزع غربًا في أعنتها

*كالطير تنجو من الشؤبوب ذي البرد

يقول: إن النعمان يعطي هذا العطاء السخي الكريم، يهَب المائة من الإبل الغلاظ الشداد، ويهب الخيل الجياد؛ فهو كريم، مِعطاء كرمه وعطاؤه لا حد لهما.

ثم بعد ذلك يقدم النابغة اعتذاره للنعمان، ويقسم أنه بريء مما ذكره الوشاة عنه، فيقول:

فلا لعمرُ الذي مسحت كعبته

*وما هريق على الأنصاب من جسد

والمؤمن العائذات الطير يمسحها

*ركبان مكة بين الغيل والسَّعَد

ما قلت من سيئ ما أتيت به

*إذًا فلا رفعت سوطي إليَّ يدي

إلا مقالة أقوام شقيت بها

*كانت مقالتهم قرعًا على الكبد

إذًا فعاقبني ربي معاقبة

*قرت بها عين من يأتيك بالفند

فهو يقسم بالله -رب الكعبة- ويقسم بالقربات التي كانوا يقدمونها ويذبحونها للأصنام؛ مبرئًا نفسه مما رُمي به عند الملك، ويقول: إن المقالة التي قالها الوشاة عنه كانت مؤلمة جدًّا له كأنها كانت “قَرْعًا على الكبد”، ثم يدعو على نفسه بأن يعاقبه ربه عقابًا شديدًا، تقر به عين حاسديه إذا كان قد حدث منه ما يسيء إلى النعمان.

وبعد ذلك يقول النابغة:

أنبئت أن أبا قابوس أوعدني

*ولا قرار على زَأرٍ من الأسد

يذكر أنه بلغه توعد النعمان له وتهديده إياه، ويقول: إن هذا التهديد يشبه زئير الأسد، وكيف يستطيع أن يقر ويطمئن وهذا التهديد قائم؟!.

ثم يطلب من النعمان أن يتمهل ويترفق، فيقول:

مهلًا فداء لك الأقوام كلهم

*وما أثمِّر من مال ومن ولد

لا تقذفني بركن لا كفاء له

*وإن تأثَّفَك الأعداء بالرفد

معناه: لا ترمني بثقلك؛ فإنك لا مثلَ لك، وقوله: “تأثفك الأعداء” أي: اجتمعوا عليك كالأثافي، “بالرفد” بمعنى: يترافدون عليك، يعني: أعداءه الذين يحاولون إفساد العلاقة بينه وبين الملك.

ثم يعود النابغة إلى مدح النعام مثنيًا عليه بالكرم وجزيل العطاء، فيقول:

فما الفرات إذا هب الرياح له

*ترمي غواربه العبرين بالزبد

يمده كل وادٍ مترع لَجِبٍ

*فيه ركام من الينبوت والخضد

يظل من خوفه الملاح معتصِمًا

*بالخيزرانة بعد الأين والنجد

يومًا بأجود منه سيب نافلة

*ولا يحول عطاء اليوم دون غد

هذا الثناء فإن تسمع به حسنًا

*فلم أعرِّض أبيت اللعن بالصفد

ها إن ذي عذرة إن لم تكن نفعت

*فإن صاحبها مشارك النكد

في قوله: “فما الفرات…” إلى آخره. الفرات: نهر بالعراق، وهو مبتدأ خبره جاء بعد ذلك في قوله: “بأجود” -بعد بيتين- “فما الفرات”: أي: نهر العراق، “الذي ترمي غواربه”: أي: أمواجه، شاطئيه بالزبد، ويمد هذا النهر أودية غنية بالمياه، فيها ركام من شجر الينبوت ومن شجر “الخضد”، أو من شجر الخَشخاش، والخضد: ما خضد وتكسر، يظل الملاح معتصمًا بذنَب السفينة؛ خوفَ الغرق في هذا النهر الغني المتلاطم الأمواج.

يقول النابغة: إن هذا النهر -نهر الفرات- ليس بأجود من النعمان عطاءً، ولا أكثر منه كرمًا. ثم يقول: إن عطاء النعمان اليوم لا يحول دون عطائه في غَد؛ فعطاؤه موصول وهداياه متواصلة. ثم يقول النابغة: “هذا الثناء”: أي: هذا المدح مني لك، “فإن تسمع به حسنًا”: فهو حسن، وأتفاءل إذا سمعته ورضيت عنه، وإن هذه القصيدة أقدمها أعتذر بها عَمَّا وُشِيَ بي عندك به: “ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت”: إن لم تنفع هذه الاعتذارية؛ “فإن صاحبها” -أي: الشاعر- “مشارك نكدِ”: سيظل حزينًا خائفًا مترقبًا إذا لم تنفع هذه الاعتذارات عند النعمان ولم يصفح عنه.

والحقيقة: أنها نفعت وقبِلها النعمان، وعفا عن الشاعر، وعادت الصلة بينهما كما كانت.

نقول: هذه قصيدة للنابغة تحتوي على تصوير رائع تضمنته الأبيات التي وصف بها الثور الوحشي الذي شبه به ناقته، وذكر قصته مع كلاب الصيد، وكذلك في هذه الأبيات التي يثني بها على النعمان ويمدحه، ويقول: إن نهر الفرات الذي وصفه وقدم صورته في أبيات عديدة ليس بأجودَ من المَلِك، فهذا تشبيه، لكنه تشبيه مقلوب، جعل المشبه به -وهو النهر- أقل جُودًَا من الملك النعمان، وهذه مبالغة في وصف النعمان بالكرم وجزيل العطاء.

error: النص محمي !!