Top
Image Alt

الناقد عبد الرحمن شكري

  /  الناقد عبد الرحمن شكري

الناقد عبد الرحمن شكري

نتحدث -بمشيئة الله وتوفيقه- عن الناقد عبد الرحمن شكري، وعن الناقد إبراهيم عبد القادر المازني؛ ليتم الكلام على النقاد الثلاثة الكبار الذين أحدثوا حركة تجديدية في النقد الأدبي الحديث، يسميها بعض المؤرخين ثورة نقدية، وتسميتها ثورة؛ لأنها جاءت بأفكار جديدة، ونظريات لم تكن موجودة، وأنها غيرت الكثير من مفاهيم الشعر والتصوير والتعبير، وأنها غيرت أيضًا الكثير من المفاهيم المتعلقة بالأدب عمومًا شعره ونثره.

ولأن هؤلاء الثلاثة العقاد وشكري والمازني، كانوا نقادًا يكتبون النظريات، وينقدون الكلام، ويبينون مزاياه وعيوبه، وكان الثلاثة كذلك شعراء، وقدموا عددًا كبيرًا من الدواوين، وأرادوا أن يكون شعرهم الذي قدموه تصديقًا لدعوتهم، التي دعوا إليها، وهم بالفعل أحدثوا فارقًا كبيرًا بين جيلهم، وجيل المحافظين الذين كانوا قبلهم، وآثار هذا الفارق واضحة جلية في أشعار المجددين، وأشعار المحافظين، حتى من استطلاع عناوين القصائد، نجد العوامل التي اهتم بها هؤلاء المجددون تختلف عن القضايا، التي اهتم بها المحافظون.

فعالم النفس الإنسانية، وعالم الطبيعة، والكون، وفلسفة الوجود، ومسائل الموت وما بعد الموت، هذه العوامل هي التي اهتم بها المجددون في أشعارهم، أما المحافظون فكان أكثر اهتمامهم موجهًا إلى القضايا الوطنية والقومية، وإلى المناسبات، وفي كثير من الأحيان يتوجه المحافظون إلى الكبار بالمديح، وفي شعرهم كثير من المجاملات، وفيه كثير من الشعر الذي يمكن أن يكون بعيدًا عن الصدق النفسي، مع ما قدمه المحافظون من فضل كبير للشعر العربي، لكن هناك فرق كما قلت بين شعرهم وشعر المجددين.

كان هذا الفارق في الإبداع بناءً على الاختلاف في الرؤيا، وهذا الاختلاف في الرؤية عبر عنه هؤلاء المجددون بنقدهم النظري، الذي كتبوه في مقالاتهم، وفي كتبهم، وفي مقدمات دواوينهم، وعبروا عنه أيضًا في نقدهم لأدب المحافظين، وجاء شعرهم؛ ليكون تطبيقًا لهذا الذي آمنوا به.

بالتأكيد هم لم يوفقوا في شعرهم إلى تحقيق كل ما نادوا به، وقد رأينا في الدرس السابق، كيف كان مفهوم الوحدة العضوية، التي أراد العقاد أن يحاكم به شوقي، وجدنا شعر العقاد يخلو من هذا المقياس، وهو الوحدة العضوية.

إذن سنقدم في هذا الدرس كما قلت: صورة للنقد عند شكري وصورة للنقد عند المازني؛ لكي تكتمل صورة هذه المدرسة مدرسة الجيل الجديد.

مكانة شكري في حركة التجديد في أدبنا العربي المعاصر:

وعن العلاقة بين النقد والشعر يقول الدكتور محمد مندور، عند تحديد أو محاولة تحديد مكانة شكري في حركة التجديد في أدبنا العربي المعاصر: لا مفر من أن نعطي الأهمية الأولى لإنتاجه الشعري، الذي حقق فيه ما يمكن أن نسميه مذهبًا جديدًا في تراثنا الشعري، وهو المذهب الذي أخبرنا المازني أنه كان قد انتهى إليه، وهما لا يزالان طالبين بمدرسة المعلمين العليا، وبفضل هذا المذهب، الذي حققه شكري فعلًا في الدواوين السبعة، التي نشرها في الفترة التي تقع بين سنة ألف وتسعمائة وتسع وخمسين، وسنة ألف وتسعمائة وثماني عشر، يحق لشكري أن يحتل مكانه بين نقاد الأدب أيضًا وموجهيه.

كما يجب علينا أن نحاول إيضاح خصائص هذا المذهب الجديد في شعره، وإن كنا لحسن الحظ نستطيع أن نعثر في مقدمات دواوينه، وفي بعض كتبه النثرية، وبخاصة في كتاب (الثمرات)، الذي طبع بالإسكندرية عام ألف وثلاثمائة وخمسة وثلاثين هجرية، ثم في عدد من المقالات والبحوث، التي نشرها في عدد من الصحف والمجلات، مثل: البيان والمقتطف وأبولو وغيرها نستطيع أن نعثر في كل هذه الكتابات النثرية، على عدد من خصائص هذا المذهب الجديد، بل وعلى جوهره، والحقيقة أن ريادة هذا المذهب يتنازعها شكري والعقاد، وكثير من الدارسين يذهب إلى أن شكري هو الرائد الأول لهذا المذهب، وأن كثيرًا من آراء النقد التي عبر عنها العقاد، وشرحها كان شكري قد سبقه إليها.

ويبدو أن هناك كثيرًا من الآراء، والنظرات كان شكري يعبر عنها في مجالسه قبل أن يكتبها، أو أن ينشرها وهذه الآراء، وهذه النظرات تحولت فيما بعد إلى قواعد لهذا المذهب الجديد، يقول الدكتور مندور: وإذا كان عبد الرحمن شكري قد خلف في الشعر تراثًا أكبر مما خلف في النقد، فزملاؤه ومعاصروه يحدثوننا بأن شكري قد كان له في التوجيه، والنقد الشفوي ما لو دون لكون تراثًا ضخمًا.

ويقول العقاد: إن ما قاله شكري لصحبه، وتلاميذه في توضيح رأيه لأضعاف ما كتبه، أو نشره في دعوته الأدبية؛ لأنه كان موضوعًا على التعقيب الجامع الناقد على مطالعاته، ومطالعات غيره يتناول الديوان، أو الكتاب أو المقال، فيجيل فيه بصره لحظة، ثم يلقيه، وقد فرغ من وزنه وتقديره، كما يفرغ الصيرفي البصير من تقويم الجوهرة بعد لمحة من بصره، ولمسة من يديه، فإذا اطلع سامعه بعد ذلك على الكتاب، وعاود الاطلاع عليه مرة بعد مرة، لم يكن ينته فيه إلى رأي أصدق من ذلك الرأي، الذي فاه فيه شكري في جلسة واحدة، وخيل إلى سامعه أنه من آراء البديهة والارتجال، وإنما هو في الواقع رأي الأنات المحفوظة لساعتها، يظهر مع المناسبة الحاضرة كلما تحركت دواعيه.

ولأن شكري كان مفطورًا على رقه الحس، ودماثة الخلق، فإنه لم يدخل في معارك عنيفة مع أدب المحافظين، كما فعل العقاد، وكما فعل المازني، بل إن شكري لما تعرض للنقد العنيف من صديقه وزميله المازني في كتاب (الديوان)، آثر بعد ذلك العزلة، وأن ينسحب من الحياة الأدبية.

وكان شكري غزير النتاج الشعري، فديوانه ضخم وهو مكون من سبعة أجزاء، وهو كما قال الدكتور مندور: ضروري جدًّا في الدلالة على مذهبه الشعري، ومذهبه النقدي، مع ما كتبه من نقد نظري في مقالاته، وفي مقدمات الدواوين، والمذهب الذي أخلص له شكري في شعره، ودعا إليه في نقده، ودعا إليه كذلك زميلاه هو المذهب الوجداني في الشعر، وقد أعطانا شكري جوهر هذا المذهب في البيت، الذي وضعه على غلاف أول ديوان أصدره، عام ألف وتسعمائة وواحد، وهو قوله:

ألا يا طائر الفردوس

* إن الشعر وجدان

يقول: الدكتور مندور وذلك؛ لأن شعراء الجيل الذي تلا شعراء البعث التقليدي، وعلى رأسهم -يعني: على رأس شعراء الجيل- عبد الرحمن شكري، كانت تضاريس الحياة وثقافتهم الشعرية الواسعة في الآداب الأوروبية، وعلى الأخص الآداب الإنجليزية، توحي إليهم بأن وظيفة الشعر الأساسية هي -أو كما يجب أن تكون- التعبير عن وجدان الشاعر الذاتي، حتى ليرى أنه من السخف أن يظل الأدباء والشعراء، مؤمنين بتقسيم الشعر إلى أبواب أو فنون، كالوصف والحكمة والغزل والمدح والرثاء وما إليها؛ لأن الشعر في جوهره عاطفة.

فيقول في مقدمة الجزء الرابع من ديوانه: ليس شعر العاطفة بابًا جديدًا من أبواب الشعر، كما ظن بعضهم، فإنه يشمل كل أبواب الشعر، وبعض الناس يقسم الشعر إلى أبواب منفردة، فيقول: باب الحكم، وباب الغزل، وباب الوصف إلى آخره، ولكن النفس إذا فاضت بالشعر، أخرجت ما تكنه من الصفات والعواطف المختلفة في القصيدة الواحدة.

فإن منزلة أقسام الشعر في النفس، كمنزلة المعاني في العقل، فليس لكل معنىٍ منها حجرة من العقل منفردة، بل إنها تتزاوج وتتوالد منه، فلا رأي لمن يريد أن يجعل كل عاطفة من عواطف النفس في قفص وحدها، وهناك فئة تريد من الشاعر أن يكون أكثر شعره تكلفًا للحكمة، فيأتي بأمثال من بطون الكتب، وأفواه العامة نصفها حق ونصفها باطل، ثم يصوغها شعرًا من غير أن يكون قد أحس لذعها في ذهنه، ولا شعر بقيمتها، وإن شر الحكمة أن يتكلفها الوزانون.

وإنما حكمة الشعر تبدو في كل قسم من أقسام شعره، سواء في فن الغزل أو الوصف أو الرثاء، ولا يبالي عبد الرحمن شكري بالمذهب الفلسفي، الذي يمكن أن يصدر عنه الشاعر ما دام يصدر في شعره عن عاطفة، فيقول: والشاعر لا يسير على رأي واحد لا يتعداه، فإن المذاهب الفلسفية أزياء تأتي وتروح، مثل أزياء باريس، والنفس أعظم من أزيائها، ولارتباط الشعر بالعاطفة في رأي شكري، كان لا يؤمن بشعر المناسبات، ومن كلامه: وبعض القراء يهذي بذكر الشعر الاجتماعي، ويعني شعر الحوادث اليومية، مثل افتتاح خزان، أو بناء مدرسة أو حملة جراد أو حريق، فإذا ترفع الشاعر عن هذه الحوادث اليومية قالوا: ما له هل نضب ذهنه أو جفت عاطفته؟

فهو هنا ينعي على شعر المناسبات، خاصة هذا الذي لا يكون مدفوعًا بعاطفة صادقة، وقد سمى الدكتور محمد مندور المذهب الجمالي المسيطر على نتاج شكري، سماه مذهب الاستبطان الذاتي، وهو مذهب يجمع بين التأمل الفكري، والإحساس العاطفي الحار، فكل خاطرة من خواطره لها لونها العاطفي الخاص، النابع من نفس فكري، وعاطفته الحارة القلقة الجانحة في الأغلب الأعم إلى التشاؤم والتمرد العنيف، فهو إذًا في شعره يجمع بين التأمل العقلي، والإحساس العاطفي الصادق.

ويذهب الدكتور مندور إلى أن عبد الرحمن شكري يجمع في شعره بين التيارين، الذين انفرد بكل واحد منهما واحد من صاحبيه المازني والعقاد، فالتيار الغالب على شعر المازني هو التيار العاطفي الشاكي المتمرد المتشائم، والتيار الغالب على شعر العقاد هو التيار الفكري الواعي بما يريد، ويقول مندور: وكأن كلًّا من هذين الشاعرين، قد أخذ عن شكري التيار الذي يلائم طبيعته، وأما شكري فقد احتفظ بالتيارين، وسلط أحدهما على الآخر، ومن هذا التسليط نبعت مأساة حياته، فهو شاعر عاطفي حساس، ولكنه سلط عقله على عواطفه ومشاعر حياته، وما فيها من رغبة وتلهف.

وبذلك جاء شعره أصيلًا متميزًا بطابعه الخاص، فهو لا يمكن أن يوصف بأنه عاطفي، ولا بأنه شعر عقلي، ولكنه شعر ذو طابع خاص، يمكن أن نصفه بأنه شعر التأملات النفسية، أو الاستبطان الذاتي.

الخصائص الفنية للمذهب الذي تبناه شكري في الشعر وفي النقد:

أما الخصائص الفنية للمذهب الذي تبناه شكري في الشعر، وفي النقد فيمكن استخلاصها من كتاباته النقدية، ومن أهم هذه الكتابات ما جاء في المقدمة الطويلة التي كتبها شكري للجزء الخامس من ديوانه بعنوان: في الشعر ومذاهبه، وقد لخص الدكتور مندور خصائص هذا المذهب فيما يلي:

أولًا: يمتاز الشاعر العبقري بذلك الشره العقلي، الذي يجعله راغبًا في أن يفكر كل فكر، وأن يحس كل إحساس.

ثانيًا: الخيال هو كل ما يتخيله الشاعر من وصف جوانب الحياة، وشرح عواطف النفس وحالاتها، والفكر وتقلباته، والموضوعات الشعرية، وتباينها، والبواعث الشعرية.

ثالثًا: التشبيه لا يراد لذاته، كما يفعل الشاعر الصغير، وإنما يراد لشرح عاطفة، أو توضيح حالة أو بيان حقيقة.

رابعًا: إن أجل الشعر هو ما خلا من التشبيهات البعيدة، والمغالطات المنطقية.

خامسًا: أجل المعاني الشعرية ما قيل في تحليل عواطف النفس، ووصف حركاتها كما يشرح الطبيب الجسم.

سادسًا: الشعر هو ما أشعرك، وجعلك تحس عواطف النفس إحساسًا شديدًا، لا ما كان لغزًا منطقيًّا، أو خيالًا من خيالات معاقري الحشيش، فالمعاني الشعرية هي خواطر المرء وآرائه وتجاربه، وأحوال نفسه وعبارات عواطفه، وليست المعاني الشعرية، كما يتوهم بعض الناس التشبيهات الفاسدة، والمغالطات السقيمة، كما يتطلبه أصحاب الذوق القبيح.

سابعًا: يرى شكري أن الشاعر العبقري، قد يستخرج صلات بين الأشياء، فتقصر أذهان العامة عن إدراكها.

ثامنًا: يرى شكري أن قيمة البيت في الصلة بينه في المعنى، وبين موضوع القصيدة؛ لأن البيت جزء مكمل، ولا يصح أن يكون البيت شاذًّا خارجًا عن مكانه من القصيدة بعيدًا عن موضوعها.

تاسعًا: ينبغي أن ننظر إلى القصيدة من حيث هي شيء فرد كامل، لا من حيث هي أبيات مستقلة.

عاشرًا: مثل الشاعر الذي يعنى بإعطاء وحدة القصيدة حقها، مثل النقاش الذي يجعل كل نصيب من أجزاء الصورة، التي ينقشها من الضوء نصيبًا واحدًا.

وكما ينبغي للنقاش أن يميز بين مقادير امتزاج النور والظلام في نقشه، كذلك ينبغي للشاعر أن يميز بين جوانب موضوع القصيدة، وما يستلزمه كل جانب من الخيال والتفكير، وكذلك ينبغي أن يميز بين ما يتطلبه كل موضوع؛ إذ إن كل موضوع من موضوعات الشعر يستلزم نوعًا ومقدارًا خاصًّا من العاطفة.

حادي عشر: للشاعر أن يستخدم كل أسلوب صحيح، سواء أكان غريبًا أو معهودًا أليفًا، وليس له أن يتكلف بعض الأساليب، ويقول: ولا أنكر أن الشعر من قواميس اللغة، ولكن له وظيفة كبيرة غير وظيفة القواميس، ويذهب شكري إلى أنه ليس هناك كلمة شريفة وكلمة وضيعة، ويرفض ما يظنه البعض من أن الكلمة، التي يكثر استعمالها في الشعر تصير وضيعة، وكل كلمة يقل استعمالها تكون شريفة.

يقول: وهذا يؤدي إلى ضيق الذوق، وفوضى الأداء في الأدب، ويضيف: قد تكون العبارة الملئى بالكلمات الغريبة، أخس أسلوب وديباجة، وأقل متانة من العبارة السهلة، التي ليس فيها غير المألوف من الكلمات، فينبغي للشاعر المبتدأ أن يتطلب المتانة، وألا يخلط بينها وبين الغرابة، ويضرب شكري في هذا المقال مثالًا بقول المتنبي:

عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا

* فلما دهتني لم تزدني بها علمًا

ويقول: هذا أسلوب فخم جزل رائع متين، ولكن ليس به غريب.

ثاني عشر: يؤمن شكري بأنه من الضروري الاطلاع على ما يستحدث من الآداب والعلوم، عند الأمم الأخرى، وأن الشاعر كلما كان أبعد مرمى، وأسمى روحًا كان أغزر إطلاعًا، فلا يقصر همته على درس شيء قليل من شعر أمة من الأمم، فإن الشاعر يحاول أن يعبر عن العقل البشري، والنفس البشرية، وأن يكون خلاصة زمنه، وأن يكون شعره تاريخًا للنفوس، ومظهر ما بلغته النفوس في عصره.

ويتعجب شكري من الذين يريدون أن يجعلوا حدًّا فاصلًا بين آداب الغرب وآداب العرب.

ويقول: إذا قرأ الشاعر العربي آداب الأمم الأخرى، أكسبته قراءته جدة في معانيه، وفتحت له أبواب التوليد، فإن الشاعر الكبير؛ كي يعبر عما في نفسه من العبقرية تمام التعبير، حتى لا يبقى بعضها مكتومًا مجهولًا، لا بد أن يجدد ذهنه دائمًا بالاطلاع، وأن يحرك به نفسه، وأن ينوع من ذلك الاطلاع، فإن شره الإحساس والتفكير هو ميزة العبقري، وهو في دعوته إلى الاستفادة من ثقافات الأمم الأخرى، يفرق بين الإفادة والتقليد، ويدعو إلى الإفادة الواعية.

فيقول: ومذاهب القول التي تستلزمها حياتنا تقتضي درس العناصر الأخرى، التي غمرت أمم العالم، وأنشأت لها حضارة وعلومًا وفنونًا، فإن درسها يوسع عقولنا، ويجدد آمالنا وقوانا، ويهيئ وحي ذكائنا، ويعلي خيالنا، ولكن ينبغي ألا نكون ناقلين، بل ينبغي أن نكون مفكرين باحثين فيها.

فشكري إذن كان يؤمن بضرورة المحافظة على الشخصية الثقافية والفنية، وكان نموذجًا في الاطلاع على الثقافة العربية، والتمكن فيها، والإفادة من الثقافة الغربية كذلك.

ومن القضايا التي سبق فيها شكري، ووضح رأيه فيها التفريق بين الخيال والوهم، فقد لاحظ أن الخيال والوهم ملتبسان في آراء النقاد، ومختلطان حتى في بدائع الجلة الفحول من الشعراء، من الشرقيين والغربيين على السواء، وهو يوضح الفارق بين التخيل والوهم، فيقول: إن التخيل هو أن يظهر الشاعر الصلات، التي بين الأشياء والحقائق، ويشترط في هذا النوع أن يعبر عن حق، والتوهم هو أن يتوهم الشاعر بين شيئين صلة ليس لها وجود، وهذا النوع الثاني يغرى به الشعراء الصغار، ولم يسلم منه الشعراء الكبار.

ومثله قول أبي العلاء:

واهجم على جنح الدجى ولو أنه

* أسد يصول من الهلاك بمخلب

يقول: والصلة بين الشبه والمشبه به صلة توهم ليس لها وجود، والمشبه هنا هو الدجى، والمشبه به هو الأسد، وكذلك قول أبي العلاء في سبيل النجوم:

درجته دمًا سيوف الأعادي

* فبكت رحمة له الشعريان

فيقول: أي أعادي وأي سيوف؟ في مثل هذا البيت ترى الفرق واضحًا بين التخيل والتوهم.

وأما أمثلة الخيال الصحيح، فهو أن يقول قائل: إن ضياء الأمل يظهر ظلمة الشقاء، كما يقول البحتري:

كالكوكب الدري أخلص ضوءه

* حلك الدجى حتى تألق وانجلى

فهذا تفسير للحقيقة وإيضاح لها، وكذلك قول الشريف:

ما للزمان رمى قومي فزعزعهم

* تطاير القعب لما صكه الحجر

والقعب: القدح فهو يشبه تفرغ قومه بتطاير أجزاء الإناء المكسور، وهذا أيضًا توضيح لصورة حقيقية من الحقائق، وهي تفرق قومه.

هذه هي صورة عبد الرحمن شكري النقدية، أرى أن تكون واضحة الملامح والقسمات.

error: النص محمي !!