Top
Image Alt

النثر وتطوره في العصر العباسي

  /  النثر وتطوره في العصر العباسي

النثر وتطوره في العصر العباسي

النثر قسيم الشعر؛ فالأدب نوعان: شعر ونثر، وبهذين الجناحين -الشعر والنثر- ينهض الأدب عندما تتوافر أسباب النهوض وعوامله.

ومر في دراستنا للشعر في العصر العباسي أن الشعر ازدهر ازدهارًا كبيرًا وتطور تطورًا واسعًا، وتعددت ميادينه وكثر الشعراء المبرّزون في هذا العصر؛ حتى إن هذا العصر بحق يُعد عصرًا ذهبيًّا في عصور الأدب العربي.

وما دام الشعر قد نهَضَ هذه النهضة الواثقة في العصر العباسي، فإن النثر أيضًا قد نال حظه من النهوض والتطور، واتساع أغراضه، وتعدد فنونه ومجالاته. ذلك أن الحياة في العصر العباسي أخذت بحظٍّ وافر من أسباب الحضارة؛ بسبب وفرة الموارد المالية وتنوع الثقافات التي دخلت على اللغة العربية، وإفادة العرب من هذه الثقافات على نحو أثَّر في حياتهم، وأثّر في فكرهم، وأثر كذلك في أدبهم.

وعن النثر وتطوره في العصر العباسي، يقول الدكتور شوقي ضيف:

وعلى سنن من طبائع الحياة أخذ النثر يتطور تطورًا واسعًا؛ إذ حمل خلاصة هذه المدنية وملئت أوانيه بشرابها الجديد الذي اختلفت ألوانه باختلاف ينابيعه الكثيرة، وقد أظهر النثر العربي مرونة واسعة؛ إذ استطاع أن يحتوي كل هذه الينابيع وأن يتسعَ لها صدره، بل لقد غَدَا -أي: النثر- كمجرى نهر كبير ترفده -أي: تمده- جداول من ثقافات متنوعة تنوعًا لا يكاد يُحدّ أو يحصى، وكل جدول يذوب في النهر بمجرد دخوله فيه؛ إذ يتحول عربيًّا، ويتحول معه كل ما يحمل من سيول المعارف حتى الفلسفة والعلوم فإنهما لم يستعصيا على هذا التحول؛ إذ سرعان ما صُبا في قوالب عربية ملائمة.

وهذه الجداول التي يشير إليها الدكتور شوقي ضيف هي الثقافات المتنوعة والمتعددة التي امتزجت بالثقافة العربية بعد أن دخل أهل هذه الثقافات في الإسلام، وأصبحت اللغة العربية هي لغتهم، وترجم عدد من المترجمين -من أبناء هذه الثقافات الجديدة الذين لم يكونوا عربًا في الأصل بعد أن أتقنوا العربية- كثيرًا من ثقافات أممهم وعلومهم إلى اللغة العربية، فاستطاعت اللغة العربية أن تهضم هذه العلوم وهذه الثقافات وهذه الفلسفات، واستطاعت اللغة العربية أن تعبّر عن الأفكار الجديدة والمعارف الجديدة التي اقتضتها ظروف الحياة الجديدة في العصر العباسي.

يقول الدكتور شوقي ضيف كذلك:

وكان ذلك إيذانًا -أي: هذا الامتزاج العربي بثقافات الأمم الأخرى في العصر العباسي- بتعدد شُعب النثر العربي وفروعه، فقد أصبح فيه النثر العلمي والنثر الفلسفي، وأصبح فيه أيضًا النثر التاريخي على شاكلة ما كان عند الأمم القديمة، وحتى النثر الأدبي الخالص أخذ يتأثر بملكات اللغات الأجنبية وخاصة اللغة الفارسية على نحو ما هو معروف عن ابن المقفع وترجمته عن هذه اللغة لقصص (كليلة ودمنة) الهندي الأصل، ونقله لكثير من آداب الفرس الاجتماعية والأخلاقية ونظمهم في السياسة والحكم؛ مما كان له أعمق الأثر في الرسائل الديوانية وفي نشوء الرسائل الأدبية التي تعنى بالكتابة في موضوع محدود، مما نسميه اليوم باسم “المقالات”.

إذًا، هذا يدل على أن النثر العربي في العصر العباسي تطور تطورًا كبيرًا، وتوسعت أغراضه وتعددت فنونه، والعامل المهم في هذا التطور وهذا التوسع وهذا التنوع هو الثقافات؛ ثقافات الأمم الأخرى غير العربية التي دخلت الإسلام، وأصبحت لغة أصحابها هي اللغة العربية، وانتقلت ثقافات هذه الأمم وحضارتها وعلومها ومعارفها، وكثير من آدابها أيضًا إلى اللغة العربية، فامتزجت بالأدب العربي، وتكوّن هذا المزيج الرائع الذي عبرت عنه اللغة العربية في صورة الأدب العربي في العصر العباسي.

إذًا، هناك موضوعات جديدة، وهناك فنون جديدة، بل إن النثر الأدبي الخالص الذي يعبر به الكاتب عن عواطفه ومشاعره في مواقف الرثاء والتهنئة والتعزية، وما إلى ذلك من الموضوعات المتعلقة بالوجدان الخالص، تأثر هذا النثر الأدبي الخالص بما أضيف إلى اللغة العربية والأدب العربي من ثقافات جديدة، ومعارف جديدة.

وفنون النثر المعروفة عند العرب قبل العصر العباسي هي الخطابة والكتابة، لكن في العصر العباسي -ويمكن أن يكون أيضًا قبل العصر العباسي ببعض العقود- عندما نشأ الخلاف حول الملك وحول الخلافة، وظهرت الفرق المختلفة، وعرف العرب علم الكلام والجدل، نشأت المناظرات والمحاورات، ودخل إلى النثر العربي كثير من أنماط الجدل، وأنماط المحاورة، واستطاع هذا اللون من النثر أن يستفيدَ من المنطق ومن الفلسفة، وهما من العلوم الجديدة التي لم يكن للعرب قبل ذلك عهد بهما، استطاع هذا اللون من الأدب -أو من النثر بصفة خاصة- أن يضيف إلى النثر العربي أنماطًا جديدةً من التعبير، ومن المحاجة، ومن الإقناع، وأسهم المتكلمون وأصحاب المذاهب الفلسفية في هذا المجال إسهامًا كبيرًا.

وأصبح عندنا في دائرة النثر الخطابة والمناظرات والمحاورات والمواعظ والقصص، وأصبح عندنا كذلك فنٌّ جديد هو “فنُّ المقامات”، بالإضافة إلى كتابة “الرسائل الديوانية” والتي تختص بشئون الدولة وتسيير الأمور فيها، ثم “الرسائل الإخوانية” التي تعبر عن العواطف في مواقف التهنئة والتعزية والشكوى وغيرها من المواقف التي يحتاج الأديب إلى التعبير عن نفسه فيها، بالإضافة إلى لون جديد أيضًا من النثر لم يكن معروفًا من قبل هو النثر التأليفي في العلوم الأدبية، والعلوم الدينية، والعلوم التاريخية والفلسفية، وغير ذلك، فقد أصبح هناك تآليف توضع في التفسير والحديث والعقيدة والأدب واللغة.

فأصبح عندنا نثر متطور تطورًا كبيرًا، ورقعته واسعة جدًّا، وفنونه متنوعة ومتعددة، ولم يعد الأمر مقصورًا على ما كان معروفًا من قبل في العصر الجاهلي والعصر الإسلامي والعصر الأموي كذلك، من أن النثر لا يعدو أن يكون كتابةً وخطابةً، والكتابة كانت تعني في هذه العصور المتقدمة على العصر العباسي الكتابة الإخوانية، فلم تكن أنواع الكتابة الأخرى -التي أشرت إليها منذ قليل- معروفة فيما قبل العصر العباسي.

ولا بد من أن نقفَ عند كل فن من فنون النثر نتحدث عنه بشيء من التفصيل، ونذكر بعض أعلامه ونماذج منه.

error: النص محمي !!