Top
Image Alt

النسخ بلا بدل، وبالأخف، وبالمساوي، وبالأثقل

  /  النسخ بلا بدل، وبالأخف، وبالمساوي، وبالأثقل

النسخ بلا بدل، وبالأخف، وبالمساوي، وبالأثقل

النسخ بلا بدل:

استدل المانعون للنسخ بلا بدل بأدلة منها:

الدليل الأول: قول الله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106].

ووجه الاستدلال بهذه الآية على عدم جواز النسخ بلا بدل: أن الله سبحانه وتعالى أخبر في هذه الآية أنه لا نسخ إلا ببدل، والخلف في خبر الصادق محال، يعني الله تعالى قال: {مَا نَنسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، فظاهر الآية: أن الله لا ينسخ إلا ببدل، فلو نسخ بلا بدل لتخلف صدق الآية، وتخلف صدق الآية محال على الله تبارك وتعالى.

وأجاب الجمهور عن هذا الاستدلال بوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: قالوا: إن الآية لا دلالة فيها على المطلوب، يعني: أنتم يا معشر المانعين تستدلون بهذه الآية على أنه لا يجوز النسخ بلا بدل، ونحن نقول لكم: الآية لا دلالة فيها على المطلوب؛ إذ ليس لنسخ الحكم ذكر فيها، حيث إنها في نسخ الآية القرآنية؛ لأن الآية حقيقة فيها، يعني: كلمة الآية حقيقة في الآية القرآنية، والأصل في الإطلاق الحقيقة، وعليه فيكون معنى الآية لا يوجد منا نسخ لآية قرآنية إلا إذا أتينا بآية بدلها، وليس هذا محل النزاع، وإنما محل النزاع نسخ الحكم من غير بدل، والآية لا تفيد منع ذلك.

الوجه الثاني: قال جمهور العلماء: سلمنا لكم أن المراد بالنسخ في الآية هو نسخ الحكم، لكن لِما لا يجوز أن يقال: إن رفع ذلك الحكم وإسقاط التعبد به خير من ثبوته في ذلك الوقت الذي نسخ فيه. يعني هذا الوجه الثاني مبني على التسليم، سلمنا لكم أن المراد بالنسخ في الآية نسخ الحكم، لكن لم لا يجوز أن يقال إن رفع ذلك الحكم وإسقاط التعبد به خير من ثبوته، ويكون موافقًا للآية: {مَا نَنسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، وذلك لما فيه من التسهيل والتيسير على المكلف؛ لكون المصلحة في الرفع دون الإثبات. أعني: مصلحة المكلف في رفع الحكم دون إثباته، وعلى هذا فليس في الآية دليل على مدعى.

هذا هو الوجه الثاني في الجواب عن الآية التي استدل بها المانعون عن النسخ بلا بدل.

الوجه الثالث: قالوا: إن الصيغة التي وردت بها الآية صيغة شرط {مَا نَنسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ} [البقرة: 106]، الصيغة التي وردت بها الآية صيغة شرط، وليس من شرط الشرط أن يكون ممكنًا، فقد يكون متعذرًا كقولك مثلا: إن كان الواحد نصف العشرة فالعشرة اثنان، فهذا الشرط محال، والكلام صحيح عربي، يعني الكلام من حيث اللغة العربية صحيح، لكن المضمون غير صحيح، وإذا لم يستلزم الشرط الإمكان لا يدل على الوقوع به مطلقًا، فضلا عن الوقوع ببدل.

الدليل الثاني: قالوا فيه: إن الحكم إذا رفع عاد الأمر إلى ما كان عليه من حكم العقل يعني البراءة الأصلية.

وأجيب عنه: بأن هذا غير صحيح، وذلك لأن العقل لا مدخل له في الشرعيات، فليس يقضي بحظر ولا إباحة، والظاهر أن هذا من كلام المعتزلة بناء على قاعدتهم في التحسين والتقبيح العقليين، ونحن معشر أهل السنة والجماعة لا نقول بها؛ أعني بقاعدة التحسين والتقبيح.

هذه المسألة قد حققها بعض أهل العلم المحدثين نظرًا لوجود بعض التضارب في كتب الأصول في شأنه، ومن هؤلاء الذين حققوا هذه المسألة الشيخ محمد أبو النور زهير -رحمه الله- فقد حقق المسألة وافترض فيها فروضًا ثلاثة، ورتب عليها نتائج، وتلك هي الفروض الثلاثة مع نتائجها.

الفرض الأول: قال: إن كان المراد من البدل في مسألة النسخ ببدل أو بلا بدل، إن كان المراد من البدل أي بدل كان، ولو بالبراءة الأصلية؛ فالحق أنه لا نسخ إلا ببدل، يعني: لو فَسرنا البدل بأي بدل كان، ولو كان هذا البدل هو البراءة الأصلية، فالتحقيق أنه لا يوجد نسخ إلا ببدل؛ لأن الله تعالى لم يترك عباده سدى في أي وقت من الأوقات.

الفرض الثاني: الذي افترضه الشيخ زهير -رحمه الله- قال: وإن كان المراد بالبدل بدلًا خاصًّا، وهو حكم شرعي دل عليه الدليل الناسخ للحكم الأول، فالحق أن هذه دعوى موجب لها، ولا دليل عليها، والواقع يكذبها فكأن الشيخ زهير في هذا الفرض الثاني يوافق مذهب الجمهور في صحة النسخ بلا بدل، ثم ذكر على ذلك الدليل فقال: فإن تقديم الصدقة عند المناجاة قد نسخ وجوبه بقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13] ولم يشتمل الناسخ على بدل -كما قررنا- فالقول بأنه لا نسخ إلا ببدل يدل عليه الناسخ غير صحيح.

الفرض الثالث: فهو إن كان المراد بالبدل هو الحكم الشرعي سواء دل عليه الناسخ أو دل عليه غيره؛ فالحق أن القول بأنه لا نسخ إلا ببدل بهذا المعنى ليس لازمًا، فقد يجوز أن يكون البدل هو البراءة الأصلية.

ثم قال -رحمه الله- توفيقًا بين الرأيين: على أن الناظر في أدلة الطرفين -يعني من جوز النسخ بلا بدل وهم الجمهور، ومن منع النسخ بلا بدل- قال على أن الناظر في أدلة الطرفين يجد أن المانع للنسخ بلا بدل، قد استدل بأدلة شرعية، والمجوز لذلك قد استدل بالدليل العقلي.

وهذا ما توصل إليه الآمدي في ختام كلامه عن هذه المسألة في (الإحكام في أصول الأحكام).

وهذا يجعلنا نحكم بأن المانع أي المانع من جواز النسخ بلا بدل، مراده أنه لم يقع شرعًا النسخ بلا بدل، والمجوز يرى أن ذلك جائز عقلا، وإن كان غير واقع، وبذلك فالنفي والإثبات لم يتواردا على محل واحد، فارتفع النزاع بين الطرفين في المسألة.

الراجح في المسألة: والذي يتراءى لنا: هو رجحان مذهب الجمهور في أن النسخ يقع بلا بدل لما أثبتناه وأقمنا عليه الأمثلة والنماذج التي وردت في الكتاب والسنة.

أدلة الجمهور على جواز النسخ إلى الأثقل:

يعني: نسخ الأخف إلى أثقل.

وقد استدلوا على مذهبهم هذا بالدليل العقلي والدليل النقلي.

الدليل العقلي:

وفي هذا يقول ابن قدامة -رحمه الله-:  ولنا -أي على أنه يجوز نسخ الأخف بالأثقل- أنه لا يمتنع لذاته -وقد قلت لكم أكثر من مرة هذا هو الدليل العقلي.

وحاصله: أنه لا يترتب على فرض نسخ الأخف بالأثقل محال، وهو غير ممتنع في ذاته، وكل ما كان كذلك، فهو جائز، ولذلك ابن قدامة يقول: ولنا -يعني: والدليل لنا على جواز نسخ الأخف بالأثقل- أنه لا يمتنع لذاته ولا يمتنع أن تكون المصلحة في التدريج -يعني من الأخف إلى الأثقل- والترقي من الأخف إلى الأثقل كما في ابتداء التكليف.

كلام ابن قدامة هذا فيه بيانٌ للدليل العقلي للجمهور، وحاصله: أنه يجوز عقلًا نسخ الحكم من الأخف إلى الأثقل، وذلك من وجهين:

الوجه الأول: أن نسخ الحكم من الأخف إلى الأثقل لا يمتنع لذاته، وذلك لأنه لو قدر وقوعه، يعني هب أن الشارع بالفعل وفي الواقع ونفس الأمر نسخ حكمًا خفيفًا، وأقام مقامه حكمًا ثقيلًا، هل يرتب على هذا محال؟ لا يترتب؛ لذلك قالوا: ولأنه لو قدر وقوعه، لم يلزم منه محال لذاته، بل قد وقع يعني بالفعل -كما سيأتي وسنذكر الأمثلة إن شاء الله- ولم يلزم منه محال، فدل على أنه لا يمتنع لذاته أي لكونه نسخًا للأخف إلى الأثقل.

الوجه الثاني: فإن نسخ الحكم من الأخف إلى الأثقل لا يمتنع لغيره، فهو لا يمتنع لذاته ولا يمتنع لغيره، وهو تضمنه لمفسدة، يعني: لو نسخنا الحكم من الأخف إلى الأثقل فهذا لا يمتنع لغيره؛ لأنه لا يترتب على ذلك مفسدة، وذلك لأنه يتضمن مصلحة عظيمة، وهذه المصلحة ما هي؟ هي التدريج والترقي من الأحكام الخفيفة واليسيرة إلى الأحكام الثقيلة والشديدة؟ وهذه حكمة من حكم النسخ بصفة عامة، أن الشارع الحكيم يترقى ويتدرج بالمكلف من الأحكام الخفيفة واليسيرة إلى الأحكام الثقيلة والشديدة، حتى تُقبِل النفوس على هذه الأحكام بعد أن تكون قد تهيأت لقبوله، فيشرع الله عز وجل الحكم خفيفًا ميسرًا في أول الأمر، حتى تتمرس النفوس عليه وتتهيأ لقبول ما هو أثقل منه.

لذلك يقولون: إن التدرج في التشريع من خصائص الشريعة الإسلامية، فالشريعة الإسلامية لها خصائص من بينها التدرج في التشريع والترقي فيه، ومن بينها تخفيف التكاليف الشرعية، ورفع الحرج، وقلة التكاليف، والتدرج في التشريع؛ فمن حكم النسخ بصفة عامة أنه يؤدي إلى هذا التدرج في التشريع، فالله –تعالى- لم يشرع الحكم دفعة واحدة ولا مرة واحدة، بل يهيئ نفوس المكلفين لتلقي الأحكام، وذلك من شرعها أولًا خفيفة ميسرة، ثم يترقى بهم إلى أحكام ثقيلة وأحكام شديدة فيشر ع الله عز وجل الحكم خفيفًا ميسرًا في أول الأمر، حتى تتمرن النفوس عليه وتتهيأ لقبول ما هو أثقل منه، ثم ينسخه إلى حكم أثقل منه، فيكون ذلك أقرب إلى قبول الحكم الأثقل، وإلا لو جاء الحكم الأثقل أولًا ربما نفرت النفوس، ولذلك ورد في الأثر: “لو نزل أول ما نزل: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا”؛ لأنهم ألفوها فتدرج الشارع الحكيم في تحريم الخمر على مراحل، كما حصل في ابتداء التكاليف الشرعية، فلم يحرم الخمر من أول الأمر، بل حرم على التدريج. وكذلك الربا لم يحرم مرة واحدة في أول الأمر، بل حرم على التدريج؛ وذلك لحكمة أرادها الله عز وجل، حيث إن الناس حديثو عهد بالكفر، فلو أنزلت عليهم الأحكام الثقيلة أولًا لنفر أكثر الناس من الإسلام، ولكن الله عز وجل تدرج بهم في الأحكام لئلا يقعوا في ذلك، وهذه مصلحة عظيمة لمن تدبرها، وهي مصلحة التدرج والترقي، والأمثلة على ذلك كثيرة -وكما قلت لكم- فالشريعة الإسلامية تقوم على أساس قلة التكاليف، ورفع الحرج، والتدرج في التشريع، ونسخ الحكم من الأخف إلى الأثقل فيه نوع التدرج ونوع الترقي، ولا شك أن هذه مصلحة عظيمة لمن تدبرها وتأملها.

الدليل الشرعي:

قال ابن قدامة -رحمه الله-: وقد نسخ التخيير بين الفدية والصيام بتعيين الصيام -هذا مثال- وجواز تأخير الصلاة حالة الخوف إلى وجوب الإتيان بها، -مثال ثاني وسيأتي شرح هذه الأمثلة- وحرم الخمر -يعني على التدريج- ونكاح المتعة -كذلك- والحمر الأهلية -يعني أكلها- وأمر الصحابة بترك القتال والإعراض عنه، ثم نسخ بإيجاب الجهاد.

هذا هو الدليل الشرعي الذي استدل به الجمهور على نسخ الأخف بالأثقل.

هذه أهم أدلة مذهب جمهور العلماء الذي يجوز نسخ الأخف بالأثقل وهو الحق؛ وذلك لأنه إذا جاز أن لا يكلف الله عباده ابتداء ثم يكلفهم العبادات الشاقة جاز أن ينتقل بهم من الأخف إلى الأثقل، ولا فرق بينهما في المعنى.

error: النص محمي !!