النظر في جودة الشعر من حيث أدائه لوظيفته الجمالية
المجال الثالث: النظر في جودة الشعر، من حيث أداؤه لوظيفته الجمالية:
تناول النقد الجاهلي الشعر من حيث أداؤه لوظيفته الجمالية، على هدي ما فطرت عليه النفس العربية من شعور بالجودة وإحساس بالجمال، وقد جاء هذا النوع من النقد في صورة أحكام عامة على شعر بعض الشعراء، مشيرًا إلى سبب الحكم بالجودة أو الرداءة بالنسبة للقول الذي ينقده، وهذه خطوة لها قيمتها في النقد الجاهلي؛ لأنها محاولة لاستشفاف القيم الجمالية من خلال الأدب، وهذا هدف سامٍ تنزع إليه وتهدف إليه المذاهب المختلفة في النقد، في القديم وفي الحديث.
وهذه المحاولة الجاهلية التي تنظر إلى جودة الشعر من حيث أداؤه لوظيفته الجمالية، تدور حول أحكام ربيعة بن حذار الأسدي، وحكم أحيحة بن الجلاح، وفيما قضت به أم جندب زوج امرئ القيس كذلك.
أما ربيعة بن حذار، فقد تحاكم إليه شعراء من بني تميم ليقضي بينهم أيهم أشعر -أي: أيهم أجود شعرًا- فقال ربيعة: أما عمرو فشعره برود يمانية تطوى وتنشر، وأما أنت يا زبرقان فكأنك رجل أتى جزورًا قد نُحرت، فأخذ من أطايبها وخلطه بغير ذلك، أو قال له: شعرك كلحم لم ينضج فيؤكل، ولا ترك نيئًا فينتفع به، وأما أنت يا مخبل فشعرك شُهُب من الله يلقيها على من يشاء من عباده، وأما أنت يا عبدة، فشعرك كمزادة أحكم خرزها، فليس يقطر منها شيء.
إذًا: نحن أمام قاضٍ في هذه الرواية يحكم بين مجموعة من الشعراء، كل واحد منهم يريد أن يفوز بحكم هذا الناقد، وأن يخرج من هذه المسابقة ويكون حُكم له بأنه أشعر من غيره، لكن هذا الناقد يقول لكل واحد من هؤلاء الشعراء كلامًا عجيبًا يصف به شعره:
فيقول للأول: شعره برود يمانية تطوى وتنشر. وبرود أي: ثياب يمانية، والثياب اليمانية معروفة بجودتها عندهم.
ويقول للثاني: كأنك رجل أتى جزورًا قد نحرت، فأخذ من أطايبها وخلطه بغير ذلك؛ أي: شعرك فيه جيد وفيه رديء، أو قال له: شعرك كلحم لم ينضج فيؤكل، ولا ترك نيئًا فينتفع به؛ أي: شعرك يحتاج إلى مزيد من التجويد، كالطعام الذي يحتاج إلى مزيد من الإنضاج؛ حتى يؤكل ويصير شهيًّا فينتفع به.
ويقول للثالث: وأما أنت يا مخبل، فشعرك شهب من الله يلقيها على من يشاء من عباده؛ فكأنه معجب بشعر المخبل السعدي، وأنه قوي، وأنه في الهجاء يمحق من يصيبه.
ويقول للأخير: وأما أنت يا عبدة، فشعرك كمزادة أحكم خرزها، فليس يقطر منها شيء. والمزادة: الوعاء الذي يوضع فيه الماء ونحوه، فيقول له: إن شعره قوي الأَسْر محكم النسج، مثل المَزَادة التي أحكم خرزها وأجيدت خياطتها، فليس يقطر منها شيء.
إذًا: ربيعة بن حذار في هذه الرواية حكم بجودة شعر عمرو، ويمكن أن يكون عمرو بن قميئة، وحكم بجودة شعر المخبل السعدي، وحكم بجودة شعر عبدة بن الطبيب، وأما الذي حكم بأن شعره يحتاج إلى تجويد، فهو الزبرقان بن بدر.
وذلك يدل على أن الرجل كان ذا بصر ثاقب بأنماط القول وأنواع التعبير، وأنه يستطيع أن يميز الجيد من الرديء من الكلام، وأن يعلّل حكمه، فهذه الأحكام تنطوي على تعليل وليست مجرد أحكام بالجودة والرداءة فقط، وإن كان هذا التعليل مضمرًا؛ لأنهم كانوا يكتفون بالتلميح عن التصريح.
وهذه الأحكام النقدية تعدّ تطويرًا للنقد الجاهلي، من حيث المضيّ في الشرح والتعليل؛ لما تنطوي عليه النماذج الشعرية من أسباب مفضية إلى الحسن والقبح، والذين يتشككون في هذه الروايات عليهم أن يتأملوا ديباجتها البدوية التي تنطق بأنها جاهلية، بل تنفي نسبتها إلى غير الذوق الجاهلي، فالتشبيه بلحم الجزور، وبالمزادة التي أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء يثبت صحتها، وأنها لناقد بدوي لم يتحضر، على أن الشك الدائم في كل الروايات سينتهي بنا إلى لا شيء، وينتهي بنا إلى أن نجهل كل شيء عن تاريخنا القديم في أدبه وفي نقده. هذا عن ربيعة بن حذار، وما روي عنه.
أما أحيحة بن الجلاح، فقد كره من الشماخ بن ضرار أن يقابل الإحسان بالإساءة في شعره، وهو نقد معنوي على درجة عالية من الذوق والسداد، الذي يتحرى أن يكون الجزاء الحسن مقابلًا للعمل الحسن، فقد مدح الشماخُ عرابةَ -أحد أشراف الأوس- بقصيدة خاطب فيها ناقته بقوله:
إذا بلغتني، وحملت رحلي | * | عَرَابة، فاشرقي بدم الوتين |
يقول الشاعر لناقته: إذا حملتِ رحلي، ووصلتِ به إلى هذا الرجل الذي أمدحه، وأريد أن أحصل على ماله؛ فاشرقي بدم الوتين، أي: لا يهمني بعد ذلك أن تُذبحي أو تشرقي بدمك، فقد أراد لها النحر إثر وصولها به إلى الممدوح، فعاب عليه أحيحة الذي سمعه منه، وقال له: بئس المجازاة جازيتَها؛ لأن الناقة تستحق منه إذا أوصلته إلى ممدوحه ومكنته من رغبته، وحملت رحله، ووصلت به إلى ما يريد لا تستحق منه الذبح أو النحر، فقال له: بئس المجازاة جازيتها.
ويذكر الدكتور عبد الرحمن عثمان -عليه رحمة الله- أن أبا نواس الشاعر العباسي يمكن أن يكون قد انتفع بهذا النقد؛ إذ روي عنه قوله: ما زلت أستهجن قول الشماخ، وموافقة ذي الرمة إياه في قوله:
إذا ابن أبي موسى بلالًا بلغته | * | فقام بفأس بين عينيك جازر |
حتى سمعت قول الفرزدق:
علام تلفتين وأنت تحتي | * | وخير الناس كلهم أمامي؟ |
متى تردي الرصافة تستريحي | * | من التهجير والدبر الدوامي |
فتبعته في قولي:
وإذا المطي بنا بلغن محمدًا | * | فظهورهن على الرجال حرام |
قربتنا من خير من وطئ الحصى | * | فلها علينا حرمة وذمام |
ولتوضيح هذا المعنى نقول: إن أبا نواس الشاعر العباسي يقول: ما زلت أستهجن قول الشماخ؛ أي: يعيب قول الشماخ الذي نقده أحيحة بن الجلاح، وهو قوله:
إذا بلغتني، وحملت رحلي | * | عرابة، فاشرقي بدم الوتين |
إذًا: أبو نواس استهجن هذا القول كما استهجنه أحيحة.
واستهجن أبو نواس كذلك قول ذي الرمة:
إذا ابن أبي موسى بلالًا بلغته | * | فقام بفأس بين عينيك جازر |
لأنه موافق لقول الشماخ، موافق للمعنى؛ لأن ذا الرمة يقول: إذا بلغ بلال بن أبي موسى، فلا يهم بعد ذلك أن يقوم جازر بفأسه ليضرب هذه الناقة.
ويستجيد أبو نواس في مقابل هذا الكلام الذي استهجنه من الشماخ ومن ذي الرمة، قولَ الفرزدق الذي يخاطب فيه ناقته أيضًا:
علام تلفتين وأنت تحتي | * | وخير الناس كلهم أمامي؟ |
متى تردي الرصافة تستريحي | * | من التهجير والدبر الدوامي؟ |
فهو هنا يَعِد ناقته بأنها ستستريح بعد أن تبلغه باب ممدوحه، فالفرزدق يجازي ناقته بالخير على توصيله إلى ممدوحه.
وذلك على النقيض مما فعله الشماخ وذو الرمة في قول كل منهما الذي أُعيبا عليه، ويمضي أبو نواس ليقول: فتبعته؛ أي: تبعت الفرزدق في قولي: “وإذا المطي بنا بلغنا محمدًا”، المطي: هي الركائب، “فظهورهن على الرجال حرام”.
قربتنا من خير من وطئ الحصى | * | فلها علينا حرمة وذمام |
إذًا: هو هنا يعد هذه الركائب بالخير جزاء وفاقًا لما صنعته من توصيله إياه إلى ممدوحه؛ ولذلك قال: “فظهورهن على الرجال حرام”، وقال: “فلها علينا حرمة وذمام”.
وهذا يدل على أن هذا النقد المبكر الذي وردت روايات عنه من العصر الجاهلي -كان له أثرٌ فيما بعد ذلك، وأفاد منه الشعراء المتأخرون في العصر العباسي، كما ذكرنا في شاهد أبي نواس.
وأما نقد أم جندب لشعر زوجها وهو امرؤ القيس، وابن عمها علقمة الفحل، فهو كما تقول الرواية: إن الشاعرين احتكما إليها؛ أيهما أشعر؟ فاقترحت عليهما أن ينشد كل منهما قصيدة في موضوع واحد، ومن بحر واحد وقافية متحدة، فلما أنشد كل منهما قصيدته قالت لزوجها امرئ القيس: علقمة أشعر منك، قال: كيف؟ قالت: لأنك قلت:
فللصوت ألهوب، وللساق درة | * | وللزجر منه وقع أخرج مهذب |
فجهدت فرسك بصوتك في زجرك، ومريته فأتعبته بساقك.
ويقول أبو هلال العسكري معلقًا على هذا النقد: فلو وصف أخس حمار وأضعفه ما زاد على ذلك، والجيد قوله:
على سابح يعطيك قبل سؤاله | * | أفانين جري غير كز ولا وان |
وما سمعنا أجود ولا أبلغ من قوله: “أفانين جري”، وقال علقمة:
فأدركهن ثانيًا من عنانه | * | يمر كمر الرائح المتحلب |
فأدرك فرسه ثانيًا من عنانه، لم يضربه بسوطه ولم يتعبه.
وذكر أبو هلال الجيد في هذا المعنى، وهو قوله: “على سابح” قبل سؤاله، وسابح أي: فرس يجري جريًا سريعًا، فيعطيك أنواعًا من الجري قبل أن تطلبها منه، على سابح يعطيك قبل سؤاله أفانين جري؛ ولذلك قالوا: وما سمعنا أجود ولا أبلغ من قوله: أفانين جري، أي: أنواعًا من الجري، غير كز ولا وان، أي: غير مبطئ، ولا متخاذل عن الجري.
وفضّلت أم جندب على هذا القول السابق لامرئ القيس قولَ علقمة في وصف الفرس:
فأدركهن ثانيًا من عنانه | * | يمر كمر الرائح المتحلب |
والرائح معناه: سحاب العَشِي، والمتحلب: المتساقط؛ فهو يصف فرسه بأنه سريع الجري، وأنه لم يُضرب ليجري وإنما كان يثني له عنانه أو لجامه، فهو سريع يمر مثل السحاب.
لكن هذه الرواية التي وردت عن أم جندب في الحكم بين امرئ القيس وعلقمة الفحل أحاطها الدارسون بألوان من الشكوك، حتى إن الدكتور عبد الرحمن عثمان -عليه رحمة الله- يقول: إن هذه القصة يبدو أنها مفتعلة، قُصد منها إثبات كراهية أم جندب لامرئ القيس، ويذهب إلى تأكيد ملاحظته على هذه القصة، فيقول: فمن المستبعد أن يتحاكم شاعران نابهان إلى من لم تشتهر بالتفوق في الشعر أو الحكمة، وسداد الرأي حينذاك!
ثم يضيف: جعلت الرواية من أم جندب ناقدة مثالية، وذلك حين وضعت قواعد للموازنة الشعرية باشتراطها الاتحاد في الموضوع والوزن والقافية. يقول: هذا مما لم تسبق إليها في عصرها.
ويضيف: جاء نقدها بعيدًا عن فهم البيئة العربية للخيل وطبائعها، فهي تعيب على زوجها أنه أجهد فرسه، وتمدح علقمة لوصفه فرسه بأنه أدرك الطريدة، وفيه فضل من قوة ونشاط، حتى اضطر ليثني من عنانه ليحدّ من عدوه، والمعروف أن الخيل لا تلتقي على طبيعة واحدة، فالأصيل منها يأبى في شراسة أن يستحثه فارسه بالنهر أو الضرب، وحسب الراكب منه أن يضعه على الطريق ويبصره الهدف، ومن الخيل ما لا ينشط إلا حين يحس أن فارسه مسيطر عليه بكل لون من ألوان السيطرة والتسلط، فهو يعطيه من قوته وعدوه على قدر ما يطلب، فإذا كان فرس امرئ القيس من هذا النوع الأخير ووصفه كما وجده، فإن نقد أم جندب ينهار من أساسه، ويبقى بعد ذلك وصف امرئ القيس مصورًا للواقع، الذي لا محيص عنه.
ويضيف الدكتور عبد الرحمن عثمان -عليه رحمة الله- فيقول: الإجماع منعقد على أن امرأ القيس كان -ولا يزال- هو المقدّم في وصف الخيل، من بين الشعراء جميعًا.
ومع تقديرنا الكبير لأستاذنا -عليه رحمة الله- ولما ساقه وساقه غيره من شك حول هذه الرواية، فإن الرواية تبقى شاهدًا على أن الشعراء كانوا يتحاكمون كما تحاكموا إلى النابغة، فيمكن أن يتحاكموا إلى غير النابغة، وعن مسألة اشتهار المرأة أو عدم شهرتها، فالرواية التي وردت تكفي لأن تكون مشهورة بنظرها في الشعر، وقدرتها على الحكم عليه.
ومسألة الخيل الجيدة وعدم الجيدة، وأن امرأ القيس يمكن أن يكون وصف فرسًا غير جيدة، وأنه وصفها بحقيقة ما فيها، ففي الحقيقة يردّ عليه بأن امرأ القيس كان فارسًا، وأن الفارس الجاهلي كان يختار فرسه ليكون من أجود أنواع الخيل، ولا يمكن أن يكون فرس امرئ القيس بهذه البلادة حتى يكون صادقًا في وصفه بهذا الوصف.
فإما أن يكون امرؤ القيس خانه التعبير في وصفه للفرس، وتكون المرأة محقة في هذا النقد، وإما أن نقول: إن الرواية من أصلها موضوعة، ولكنها لا تنفي أن الشعراء الجاهليين كانوا يتحاكمون، وكان يتصدى للحكم بينهم بعض من يختارونه؛ ثقة في قدرته على تمييز الكلام، ومعرفة جيده من رديئه.
وهذه النماذج التي سبقت كلها تتمثل في النقد الذي ينظر إلى المعنى، وإلى المواءمة بين ما يريد الشاعر التعبير عنه، والألفاظ التي يستخدمها للتعبير عن هذا المعنى، ومدى قدرة الشاعر على التوفيق، وإصابة الناحية الجمالية في تعبيره الشعري.
وفي هذا المجال أيضًا يروى عن أبي عمر الشيباني؛ أن عمرو بن الحارث الأعرج الغساني أثنى على قصيدة حسان بن ثابت، التي منها:
لله در عصابة نادمتهم | * | يومًا بجلق في الزمان الأول |
وسماها: البتارة، فكأنها قد بترت المدائح كلها عندما أُنشدت.
ولشدة إعجاب الجاهليين بقصيدة الشاعر سويد بن أبي كاهل، ومطلعها:
بسطت رابعة الحبل لنا | * | فوصلنا الحبل منها ما اتسع |
لقّبوها باليتيمة؛ أي: ليس مثلها قصيدة.
على أن احتفالهم بالمعلقات -وهي القصائد المشهورة في الجاهلية- يدل على شعورهم بالجمال في الشعر، ويؤكد حسن اختيارهم للرائع الجيد منه.
وكل هذا يدل على أن الجاهليين كانوا يستحسنون الشعر، وكانوا ينقدونه، وكان بعضهم يتحاكم إلى من يرون أنه قادر على الحكم ليحكم أيهم أشعر.