النفخ في الصور
والنفخ في الصور جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تخيروا بين الأنبياء))، وثبت في الحديث في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تخيروني بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور؟)).
وجاء في الحديث الآخر: ((فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله؟))، ((إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكونُ أول من يفيق، فأجد موسى باطشًا بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله؟)) فنشأ الإشكال في هذا الحديث، وسبب هذا الإشكال ناشئ من أنه دخل على الراوي حديثٌ في حديث، فركب بين اللفظين، بيان ذلك أن قوله في الحديث: ((إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكونُ أول من يفيق، فإذا موسى آخذٌ بقائمةٍ من قوائمِ العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور؟)).
جاء بعض الرواة، فروى الحديث هكذا: ((إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور؟))، وفي لفظ آخر: ((إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفَاقَ قبلي أم كان ممن استثنى الله؟)).
ووجه الإشكال: أنه في أول الحديث قال: ((يصعقون يوم القيامة)) وهذا يدل على أن الناس قاموا من القبور، ووقفوا للحساب، وفي آخر الحديث قال: ((فأكون أول من تنشق عنه الأرض)) يدل على بدء الخروج من القبور؛ حيث تنشق عنه صلى الله عليه وسلم الأرض، ولم يقف الناس بعد للحساب، فيفسد المعنى بذلك؛ لأن انشقاق الأرض قبل الموقف والصعق في الموقف، ومنشأ الإشكال الوهم من بعض الرواة بإدخال حديث في حديث.
وحل الإشكال رد الحديث إلى أصله، وهو أن صواب الحديث هكذا: ((إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق))، وليس: “فأكون أول من تنشق عنه الأرض”. وإنما وهم بعض الرواة، فأبدل قوله: ((فأكون أول من يفيق)) بقوله: ((فأكون أول من تنشق عنه الأرض))، وحلّ الإشكال رد الحديث إلى أصله. والصواب أن هذا وهم من الرواة، وأن هذه اللفظة صوابها: فأكون أول من يفيق. لا، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، وكذلك أشكل في الحديث رواية بعض الرواة، فإنه روى في آخر الحديث: ((لا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل؟)).
ووجه الإشكال: أنه في آخر الحديث، استثني من صعقة يوم القيامة؛ لأن أول الحديث: ((إن الناس يصعقون يوم القيامة)) أو هذا في موقف القيامة، ثم قال في آخره، ((فلا أدري أفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله؟))، فاستثني من صعقه يوم القيامة.
والذين استثناهم الله إنما هم مستثنون من صعقةِ النفخة، لا من صعقة يوم القيامة كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ إِلاّ مَن شَآءَ اللّهُ} [الزمر: 68]، ولم يقع الاستثناء من صعقة الخلائق يوم القيامة، فالصعق الذي استثنى الله فيه في سورة “الزمر” و”النمل”، ذلك الصعق صعق تخريب العالم، وسببه النفخ في الصور والفزع، والمستثنى قيل ملك الموت، وثلاثة ملائكة معه.
ومنشأ الإشكال الوهم من بعض الرواة؛ حيث اشتبه عليه أن هذه الصعقة هي صعقة النفخة، وأن موسى داخل في من استثنى الله، فأبدل قوله: ((فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور؟))، بقوله: ((فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل؟)).
وحلّ الإشكال ردّ الحديث إلى أصله -كما تقدم- فالمحفوظ الذي تواترت عليه الروايات الصحيحة هو: ((فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور)) وعليه المعنى الصحيح، فإن الصعق يوم القيامة لتجلي الله لعباده، إذا جاء لفصل القضاء، وموسى صلى الله عليه وسلم إن كان لم يصعق معهم، فيكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل، فجعله دكًّا، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضًا عن صعقة الخلائق لتجلي الرب يوم القيامة، فتأمل هذا المعنى العظيم، وأما قوله: ((فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل؟))، فلا يلتئم على مساق الحديث قطعًا، فإن الإفاقة حينئذٍ هي إفاقة البعث، وكيف يقول: ((لا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور؟)).
فتأمل، وممن نبه على هذا الحافظ أبو الحجاج المزي، والحافظ العلامة ابن القيم، والحافظ عماد الدين ابن كثير، نبهوا على هذا الوهم من الرواة، وأنه دخل على الرواة حديث في حديث.
والصعق نوعان:
الأول: صعق البعث، وسببه هو النفخ في الصور، ووقته يوم القيامة.
والثاني: صعق التجلي، وسببه تجلي الله للخلائق، ووقته في موقف يوم القيامة.
والنفخ في الصور، نفختان على الصحيح، وقال بعضهم: ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة الموت، والصواب: أن نفخة الفزع، ونفخة الصعق نفخة واحدة نفخة طويلة، يطولها إسرافيل أولها: فزع وآخرها موت، وأما الحديث الذي فيه إثبات ثلاث نفخات، فهو حديث ضعيف.
فأولها النفخة الأولى، نفخة الفزع أولًا، ويتغير بها هذا العالم، ويفسد نظامه، ويسير الله الجبال، وترتج الأرض بأهلها رجًّا، وتكون كالسفينة الموقرة في البحر تضربها الأمواج، وتميد الأرض بالناس على ظهرها، تذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتثور الشياطين هاربين من الفزع؛ حتى تأتي الأقطار فتتلقاها الملائكة، وتضربها في وجوهها فترجع، ويولي الناس مدبرين، فينادي بعضهم بعضًا؛ وذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ التّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر:32، 33] وتتصدع الأرض، وتكون السماء كالمهل، فيرى الناس أمرًا عظيمًا، وهي المشار إليها بقوله تعالى: {وَمَا يَنظُرُ هَـَؤُلاَءِ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً مّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} [ص: 15] أي: من رجوع ومردّ، وقوله: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ إِلاّ مَن شَآءَ اللّهُ} [النمل: 87].
قيل: المستثنى ملك الموت، وجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وقيل: غير ذلك، وإنما يحصل الفزع لشدة ما يقع من هول تلك النفخة، ثم يكون آخرها صعق وموت، وفيها هلاك كل شيء، كما قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ إِلاّ مَن شَآءَ اللّهُ}، وقد فُسِّر الصعق بالموت.
النفخة الثانية: نفخة البعث والنشور، وقد جاء في الكتاب العزيز آيات تدل عليها كقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَإِذَا هُم مّنَ الأجْدَاثِ إِلَىَ رَبّهِمْ يَنسِلُونَ} وقوله سبحانه: {ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىَ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ}، وقوله: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مّكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41] قال المفسرون: المنادي إسرافيل صلى الله عليه وسلم ينفخ في الصور، وينادي: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، و”المكان القريب”: صخرة بيت المقدس، وبين النفختين أربعون.