النقد الأدبي في عصر النبوة
تحدثنا عن العوامل التي أثرت في الأدب وفي النقد كذلك في عصر صدر الإسلام، ونستمر -بمشيئة الله- لنبين المقاييس التي سار عليها النقد في العصر الإسلامي، مع الوقوف عند الروايات والنماذج التي وردت عن الذين مارسوا هذا النقد كما يقول الأستاذ طه أحمد إبراهيم -عليه رحمة الله-:
كان عصر البعثة -أي: البعثة المحمدية- حافلًا بالشعر فياضًا به، وإن ضعف في بعض نواحيه، فالخصومة بين النبي صلى الله عليه وسلموأصحابه من ناحية، وبين قريش والعرب من ناحية أخرى كانت عنيفة حادة، لم تقتصر على السيف والسنان، بل امتدت إلى البيان والشعر، وإلى المناظرات والجدل، وإلى المناقضات بين شعراء المدينة وشعراء مكة وغير مكة من الذين خاصموا الإسلام، وألّبوا العرب عليه.
كان شعراء قريش ومن والاهم يهجون النبي وأصحابه، وكان شعراء الأنصار يناقضون هذا الهجاء، ولعل ذلك أول عهد حقيقي للنقائض في الشعر العربي، ولعل تلك الروح هي التي أنهضت هذا الفن في القول؛ فازدهر في العصر الأموي ازدهارًا تامًّا.
هذه المناقضات بين مكة والمدينة كانت تدعو إلى النقض وإلى الحكم وإلى الإقرار والإذعان، وكان العرب يقدرون هذا التهاجي، ويؤمنون بما فيه من قوة، ويفصحون عما فيه من لذع وإيلام، فكانت قريش تجزع كل الجزع من هجاء حسان، ولا تبالي بشعر ابن رواحة، وكان ذلك قبل أن تسلم، فلما أسلمت رأت في الشعرين رأيًا آخر، فقد كان حسان يطعن في أحسابهم ويرميهم بالهنات التي تنال من العزة الجاهلية، وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر ثم أسلموا، وكان شعر ابن رواحة هو الذي يحذ قلوبهم حذًّا.
إذًا الحياة الأدبية نشيطة، والحياة النقدية مسايرة لها في هذا النشاط، وسبق أن ذكرنا في الدرس الماضي أن الرسول صلى الله عليه وسلمكان هو الذي يقود الحياة الجديدة في البيئة الإسلامية، وغني عن البيان أن الرسول صلى الله عليه وسلمكان له علم بالشعر، وكانت له ذائقة عالية تمكنه من تذوق طعوم الكلام، والتمييز بين جيد الكلام ورديئه، وذكرنا في الدرس الماضي أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلمكان ينتقي بعض الأشعار، وقررنا أن عملية الانتقاء هي ممارسة للنقد في صميمه.
وأما علمه صلى الله عليه وسلمبالشعر، فقد روي أن سودة أنشدت في حضرة بعض نساء الرسول صلى الله عليه وسلموفي حضرته كذلك أبياتًا تقول:
فحالف ولا والله تهبط تلعة | * | من الأرض، إلا أنت للذل عارف |
ألا من رأى العبدين أو ذُكرا له | * | عدي وتيم تبتغي من تحالف |
وقد ظنت عائشة وحفصة رضي الله عنها أن سودة عرّضت بهما في هذا الشعر، وجرى بينهن كلام في هذا المعنى، فدخل عليهن صلى الله عليه وسلم وقال: ((يا ويلكن، ليس في عديكن ولا تيمكن قيل هذا، وإنما قيل هذا في عدي تميم، وتيم تميم)).
إذًا: ظنت عائشة وحفصة أن سودة تعرّض بقبيلتيهما عدي وتميم، وهما من قريش، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يبين لهما أن الشعر الذي قالته سودة، وهو أن ما تضمنه من ذكر لعدي وتيم ليس المراد بهما عديًّا وتيمًا القرشيين، وإنما المراد به عدي تميم، وتيم تميم.
وهذه الرواية تدل على علم دقيق من الرسول صلى الله عليه وسلم بمعاني الكلام والمقصود به، وتدل كذلك على علمه صلى الله عليه وسلم بأنساب العرب.
وروي كذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرّ ومعه أبو بكر رضي الله عنه برجل، يقول في بعض أزِقّة مكة:
يا أيها الرجل المحول رحله | * | هلّا نزلت بآل عبد الدار؟ |
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بكر، هكذا قال الشاعر؟ قال: لا يا رسول الله، ولكنه قال:
يا أيها الرجل المحول رحله | * | هلّا سألت عن آل عبد مناف؟ |
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا كنا نسمعها)).
إذًا الرسول صلى الله عليه وسلميعرف الشعر، ويعرف رواياته، ويعرف المراد به، وينتقي منه كما ذكرنا من قبل.
بل إن الروايات تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلمكان يلفت أنظار أصحابه إلى ما يُستجاد من الشعر، وما يمكن أن تتضمنه الأشعار من الجودة الفنية؛ من ذلك ما ورد أن كعب بن زهير وأخاه بجيرًا خرجا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغا مكانًا يسمى أبرك العزاف، فقال كعب لبجير: اذهب فقابل هذا الرجل -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم- وأنا مقيم ههنا، فانظر ما يقول. وقدم بجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام فأسلم، وبلغ ذلك كعبًا فقال في ذلك شعرًا تعرض فيه للرسول صلى الله عليه وسلم بالهجاء، ونفر من دخول الإسلام، فلما بلغ ذلك الرسول أهدر دمه، فكتب إليه بجير يأمره أن يسلم، ويقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويخبره أن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل الرسول منه ذلك، وأسقط ما كان عليه قبل، فقدم كعب وأنشد النبي صلى الله عليه وسلم قصيدته المعروفة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول | * | متيم إثرها لم يفد مغلول |
أو مكبول، في رواية.
وما سعاد غداة البين إذ رحلت | * | إلا أغن غضيض الطرف مكحول |
إلى أن قال في مديح الرسول صلى الله عليه وسلم:
إن الرسول لسيف يستضاء به | * | مهنّد من سيوف الله مسلول |
في فتية من قريش قال قائلهم | * | ببطن مكة لما أسلموا زالوا |
فما زال أنكاس، ولا كُشُف | * | عند اللقاء، ولا ميل معازيل |
لا يقع الطعن إلا في نحورهم | * | وما بهم عن حياض الموت تهليل |
شُمّ العَرَانين أبطال لبوسهم | * | من نسج داود في الهيجا سرابيل |
فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلمإلى من حوله: ((اسمعوا))، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلميكون من أصحابه مكان المائدة من القوم، يتحلقون حلقة دون حلقة، فيلتفت إلى هؤلاء وإلى هؤلاء.
وبعض الروايات يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلملما قال كعب: “إن الرسول لسيف” قال: ((بل، قل: نور))، أي: إن الرسول لنور يستضاء به، وتذكر الروايات أيضًا أن كعبًا قال: “مهند من سيوف الهند” فعدلها الرسول صلى الله عليه وسلموأمره أن يقول: “مهند من سيوف الله”.
وذلك كله يدل على بَصَر الرسول صلى الله عليه وسلم بالكلام، وهذا لا شك فيه وهو مقرر؛ لكنه يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم مارس توجيه الشعر، ومارس نقده.
فإذا تركنا الرسول صلى الله عليه وسلم وانتقلنا إلى أصحابه الكرام، فإننا نذكر منهم أبا بكر رضي الله عنه حيث كان أبو بكر يحفظ الشعر، وكان عالمًا بالأنساب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستنشده أحيانًا بعض ما يحفظ، ويدور بينهما حوار حول بعض الأبيات، وقد ذكرنا ما يدل على ذلك.
ولما استدعى الرسول صلى الله عليه وسلمحسان بن ثابت، وأمره بهجاء الكفار، وهجاء قريش الذين كانوا يناصبون الرسول ودعوته العداء، أمر صلى الله عليه وسلمحسان أن يذهب إلى أبي بكر ليسأله عن أنساب القوم، فقال حسان للرسول صلى الله عليه وسلم: “لأستلّنّك منهم كما تُسَلّ الشعرة من العجين”؛ لأن هجاء قريش والرسول صلى الله عليه وسلم منهم قد يكون فيه إيلام للرسول، وهجاء له ضمنًا، فيذكر حسان أنه سيستل الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش؛ حتى لا يصيبه ما يقوله حسان من هجاء فيهم، وأمره الرسول صلى الله عليه وسلمأن يذهب إلى أبي بكر ليعلمه أنساب القوم.
ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي استفاضت الروايات حول اهتمامه رضي الله عنه بالشعر وروايته، وحكمه عليه، ومن ذلك هذه الرواية التي تقول: “أُتي عمر رضي الله عنه بحُلَل من اليمن، فأتاه محمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، ومحمد بن حاطب، فدخل عليه زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء المحمدون بالباب يطلبون الكسوة، فقال: ائذن لهم يا غلام. فدعا بحلل، فأخذ زيد أجودها، وقال: هذه لمحمد بن حاطب، وكانت أمه عنده، وهو من بني لؤي، فقال عمر رضي الله عنه: أيهات أيهات، وتمثل بشعر عمارة بن الوليد:
أسرّكِ لما صَرّع القوم نشوة | * | خروجي منها سالمًا غير غارم |
بريئًا كأني قبل لم أك منهم | * | وليس الخداع مرتضًى في التنادم |
ردها -أي: رد الثياب- ثم قال: ائتني بثوب فألقه على هذه الحلل، وقال: أدخل يدك فخذ حلة وأنت لا تراها، فأعطهم”، قال عبد الملك: فلم أر قسمة أعدل منها.
وعمارة بن الوليد الذي تمثل عمر بشعره، هو عمارة بن الوليد بن المغيرة، خطب امرأة من قومه فقالت: “لا أتزوجك أو تترك الشراب، فأبى، ثم اشتد وَجْدُه بها، فحلف لها ألّا يشرب، ثم مر بخمار عنده شَرْب يشربون، فدعوه فدخل عليهم وقد أنفدوا ما عندهم، فنحر لهم ناقته وسقاهم ببرديه. ومكثوا أيامًا، ثم خرج فأتى أهله، فلما رأته قالت: ألم تحلف ألا تشرب؟ فقال:
ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا | * | شراب الندامى عندهم كالغنائم |
ولكننا يا أم عمرو نديمنا | * | بمنزلة الريان ليس بعائم |
أسرك لما صرع القوم نشوة | * | …. …. …. …. …. …. |
ومع أن هذا الشعر أصله في الهزل وفي المجون وجرى في باطل، لكن عمر رضي الله عنه يستعين به في الحق، ويستعين به فيما هو جد وليس فيما هو هزل؛ فذلك يدل على سعة علم عمر رضي الله عنه بالشعر، وسعة حفظه منه، وكثرة تمثله إياه، واستشهاده به.
وكما يقول الأستاذ طه أحمد إبراهيم، بصدد الكلام عن الأدب والنقد في صدر الإسلام: “إن النقد الأدبي ظل مستمرًّا في عهد البعثة الإسلامية، وإن العرب لم يكفّوا عن النظر في الشعر والمفاضلة بين الشعراء.
وقد رأينا إقرار قريش والأنصار لحسان، وقد رأينا من قال: إن ابن رواحة وكعب بن مالك لم يصنعا شيئًا في هجاء قريش. ولما رد حسان على الزبرقان بن بدر شاعر وفد تميم، قال الأقرع بن حابس في النبي: “والله لشاعره أشعر من شاعرنا، ولخطيبه أخطب”.