النقد الشعري في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وقد ظلت وفود العرب تختلف إلى المدينة في عهد الخلفاء الراشدين وتجمعهم أنديتها، فيخوضون في رجالات الجاهلية من شعراء وأبطال وأجواد، وقد يخوض الخليفة في بعض ما يخوضون، وقد يتحدث مع الوفد القادم عن شاعر له مؤانسة وتكريمًا، وأخص الخلفاء الذين عُرِف عنهم ذلك عمر بن الخطاب.
كان رضي الله عنه عالمًا بالشعر، ذا بصر فيه، تحدث مرة مع وفد غطفان فقال: أي شعرائكم الذي يقول:
أتيتك عاريًا خلقًا ثيابي | * | على خوف تظن به الظنون؟ |
قالوا: النابغة.
قال: فأي شعرائكم الذي يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة | * | وليس وراء الله للمرء مذهب؟ |
قالوا: النابغة.
قال: فأي شعرائكم الذي يقول:
فإنك كالليل الذي هو مدركي | * | وإن خلت أن المنتأى عنك واسع؟ |
قالوا: النابغة.
قال: هذا أشعر شعرائكم.
فالنابغة في رأي عمر أشعر غطفان، أشعر شعراء عبس وذبيان، أشعر من عنترة ومن عروة بن الورد، ومن الشماخ بن ضرار ومزرد أخيه، وهذه الرواية واردة في (الشعر والشعراء) لابن قتيبة، وفي (العقد الفريد) لابن عبد ربه، وفي (جمهرة أشعار العرب)، وفي أكثر روايات (الأغاني)، وهناك رواية واحدة جاءت في (الأغاني) اختلفت عن هذه الرواية السابقة في البيت الثالث، بأن جعلت عمر يسأل: من أشعر الناس؟ فلم يجبه أحد، فأنشد الأبيات السابقة فقيل له: إنها للنابغة؛ فقال: هو أشعر العرب.
إذًا تدل هذه الروايات على أن عمر أُعجب بشعر النابغة، وكان يفضّله مرة على شعراء قومه خاصة، ويفضله أخرى على الشعراء أجمعين.
ويضيف الأستاذ -المرحوم- طه أحمد إبراهيم فيقول: “ولكن شيء آخر يروى عن عمر، ولا يتمشى مع ما سبق، يقول ابن عباس: “قال لي عمر ليلة مسيره إلى الجابية في أول غزوة غزاها: هل تروي لشاعر الشعراء؟ قلت: ومن هو؟ قال: الذي يقول:
ولو أن حمدًا يخلد الناس أخلدوا | * | ولكن حمد الناس ليس بمخلد |
قلت: ذلك زهير، قال: فذاك شاعر الشعراء. قلت: وبم كان شاعر الشعراء؟ قال: لأنه كان لا يعاظل في الكلام، وكان يتجنب وحشي الشعر، ولم يمدح أحدًا إلا بما فيه”.
ويعقب الأستاذ المؤلف فيقول: “وظاهر أن هناك تعارضًا في الحكمين، فالنابغة أشعر غطفان أو أشعر العرب عند عمر، وزهير شاعر الشعراء عنده كذلك، إن النصوص التي لدينا ترجّح أن عمر قدم النابغة على غطفان وحدها، ولكن هذا لا يكفي في طرح الرواية الأخرى، ولا بد أن نفترض صحتها، ونتلمس لها ما يقبله الفن من تخريج، ولا سيما أن هذا أول عهدنا بحكمين متعارضين لناقد واحد، وأن مثل هذه الأحكام تصادف الباحث في النقد عند العرب في بعض الأحيان”.
ويقول: لقد قدمنا أن النقد قائم على التأثر الوقتي، وعلى الانفعال السريع دون أن يكون فيه شمول أو تفكير طويل، فالناقد يعجب بأبيات من الشعر فيقدم صاحبها، فإذا خلا القلب من سحر هذه الأبيات، واختلف الموطن والأحوال، وتأثر بشعر آخر قدم صاحبه، ولا يمكن أن يكون الأمر إلا كذلك حتى كأن النقد لا يستند إلى بحث وتحليل.
ومن الجائز أن يكون للنقد حكمان متعارضان ما دام النقد لا يقوم إلا على التأثر الخاص، وكثيرًا ما يولع ناقد في شبابه بشاعر، فإذا كبر واحتنك أصبحت روحه غريبة عن روح ما كان به مولعًا.
وشيء آخر يبعد هذا التعارض ويجعله ظاهريًّا فقط، هو أن أشعر تنصرف إلى المعاني أو الغرض الذي يجري به الحديث، على هذا تدل النصوص العربية، فكثيرًا ما تذكر كتب الأدب أن فلانًا أشعر الناس، وتتبع ذلك بعبارة حيث يقول: فهو أشعر الناس في هذا القول، أي: في هذا الغرض أو في هذه المناسبة، وعلى أي حال، فهذا الكلام في التوفيق بين الروايتين المتعارضتين كلام جيد ومقبول.
على أن هذه الرواية يظهر لنا منها أيضًا أن ابن عباس كان طرفًا في الحوار، وأن عمر رضي الله عنه يسأله عن شاعر الشعراء، وهذا يدل على أن ابن عباس أيضًا كان له علم بالشعر، وأنه كان يحفظ منه الكثير، وذلك مقرر عند العلماء وواضح في تفسير ابن عباس للقرآن الكريم، حيث كان عندما تغمُض عليه كلمة يريد معرفة معناها، كان يستعين على تفسير القرآن بالشعر رضي الله عنه.
ونمضي مع الروايات التي تتحدث عن عمر رضي الله عنه وممارسته للنقد الأدبي، وكان في عهد الخلفاء الراشدين أسباب أخرى تدعو إلى النقد غير الوفادة، وغير الأحاديث التي تفيض بها المجالس، فالشعراء أو بعضهم كان يتكسب بالشعر، وهذا التكسب يدفعهم إلى المديح غالبًا ويحملهم على الهجاء في بعض الأحيان، والهجاء في كل عصور الأدب ينال من أخلاق المهجوّ ومروءته وعرضه، أو بعبارة أخرى: هو نوع من القذف يحرمه الإسلام، ويعاقب عليه من يحرص على إقامة حدود الله من ولاة المسلمين.
والرواة يذكرون أن الحطيئة هجا الزبرقان بن بدر بقصيدته، التي جاء فيها:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها | * | واقعد؛ فإنك أنت الطاعم الكاسي |
وأن الزبرقان استعدى عليه عمر بن الخطاب، وأن عمر جعل يهوّن البيت على الزبرقان، ويحمله على أنه معاتبة لا هجاء؛ كراهة أن يتعرض لشأن الحطيئة، ولكن الزبرقان صعب وعز وأنكر ألا تبلغ به مروءته وهمته إلا أن يأكل ويلبس، وبعث عمر رضي الله عنه في طلب حسان، بعث في طلب شاعر كالحطيئة يعرف من أمر الشعر، فسأله فقال: لم يهجُه، ولكن سَلَحَ عليه، وكان هذا قضاء من حسان على أن البيت مؤلم، وكان حاملًا للخليفة على حبس الحطيئة.
وهذا الحكم تقدير لشعر الحطيئة، وإفصاح عن قوة معانيه وشدة إيلامها للنفوس، ولم يكن في الشعر بعد البعثة شاعر أهجى للناس من الحطيئة، عرفت له العرب ذلك وعرفه له عمر، فاشترى منه أعراض المسلمين بنفحة من المال.
فهذه الرواية إذًا تبين لنا أن عمر رضي الله عنه حكم بحبس الحطيئة من واقع مسئوليته كأمير للمؤمنين، يعاقب من يتجنّى على أعراض الناس، وعندما سأل عمر حسانًا عن رأيه في البيت كان يعلم ما فيه، ولكنه أراد الحجة على الحطيئة بشهادة شاعر مثله.
وفي رواية قال حسان: ذَرَق عليه، فألقاه عمر -أي: ألقى الحطيئة- في حفرة اتخذها محبسًا، وفي هذه الواقعة لما حبس عمر الحطيئة بسبب هذا الهجاء، أنشد الحطيئة أبياتًا يستشفع فيها عمر، ومنها:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ | * | زُغْب الحواصل، لا ماء ولا شجر؟ |
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة | * | فاغفر، عليك سلام الله يا عمر |
وقد رقّ عمر لهذه الأبيات التي استعطفه بها الحطيئة، فعفا عنه.
ونمضي مع الروايات التي تتحدث عن عمر بن الخطاب وبصره بالشعر، وتوجيهه لحركة النقد، فنذكر هذه الرواية حين هجا الشاعر النجاشي بني عجلان، فاستعدوا عليه عمر؛ لأنهم عُيِّروا بجدهم بسبب هذا الهجاء، وقد كان العجلان من دواعي فخرهم قبل هذا لتعجيله القِرَى للضيفان، فقال عمر: وما قال فيكم؟ فأنشدوه:
إذا الله عادى أهل لؤم ورقة | * | فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل |
فقال عمر: إنما دعا عليكم، ولعله لا يجاب، فقالوا: إنه قال -أي الحطيئة- في هجائهم:
قبيلته لا يغدرون بذمة | * | ولا يظلمون الناس حبة خردل |
فقال عمر: ليت آل الخطاب كذلك، قالوا: فإنه قال:
ولا يردون الماء إلا عشية | * | إذا صدر الرواد عن كل منهل |
فقال عمر: فذلك أقل للسكاك عن الزحام، قالوا: فإنه قال:
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم | * | وتأكل من كعب بن عوف ونهشل |
فقال عمر: كفى ضياعًا من تأكل الكلاب لحمه، قالوا: فإنه قال:
وما سمي العجلان إلا لقولهم: | * | خذ القعب واحلب، أيها العبد واعجل |
فقال عمر: كلنا عبيد الله، وخير القوم خادمهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين هجانا! فقال: ما أسمع ذلك، فقالوا: فاسأل حسان بن ثابت، فسأله فقال: ما هجاهم، ولكن سلح عليهم، أي: هجاهم هجاء مريرًا.
وعمر بن الخطاب في هذه الرواية يحاول أن يؤوِّل الكلام، وأن يصرفه عن وجهه الحقيقي؛ لكي يهدئ من ثائرة القوم، وهم بنو العجلان الذين جاءوا إلى عمر، وهم غاضبون على الحطيئة، ويشتكونه إلى عمر بوصفه أميرًا للمؤمنين، ولما وجد القوم من عمر في كل بيت تأويلًا يخرجه عن الهجاء الذي هم يعرفونه، وعمر يعرف أنه هجاء وهم يعرفون أن عمر يعرف، قالوا لعمر: اسأل حسان بن ثابت، فسأل عمر حسان بن ثابت فقال: ما هجاهم، ولكن سلح عليهم.
وقد عقّب ابن رشيق على هذه الرواية بقوله: وكان عمر رضي الله عنه أبصر الناس بما قال النجاشي، ولكن أراد أن يدرأ الحد بالشبهات، فلما قال حسان بن ثابت: ما هجاهم ولكن سلح عليهم؛ سجن النجاشي وقيل: إنه حدّه.
وفي موضع آخر من كتابه (العمدة)، قال ابن رشيق تعليقًا على ذلك: فأسلم النظر في أمرهم إلى حسان بن ثابت؛ فرارًا من التعرض لأحدهما، فلما حكم حسان أنفذ عمر حكمه على النجاشي، ولم يكن حسان على علمه بالشعر بأبصر من عمر رضي الله عنه لوجه الحكم.
ويقول الدكتور عبد الرحمن عثمان عن عمر بن الخطاب: “وأما عمر بن الخطاب، فلا يكاد يعرض له أمر إلا أن أنشد فيه بيت شعر، ولكنه كان ملتزمًا بالمنهج الديني والخلقي على ما له من ذوق مرهف وبصر حصيف في فهم الشعر ونقده، وموقفه من الشعراء ومن الشعر الجاهلي يؤكد صدق هذا الحكم بما لا يدع مجالًا للتردد أو الشك في ذوقه وسعة علمه بالشعر من ناحية، وفي التزامه للخطة الإسلامية من ناحية أخرى، فلم نره في موقف من مواقفه يدع إحساسه بالجمال الشعري يغالب المذهب الإسلامي، الذي ينبغي أن يذهب فيه الشعر، ويتسابق فيه الشعراء المسلمون”.