(الوساطة بين المتنبي وخصومة) للقاضي الجرجاني
نتحدث هنا عن كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه) للقاضي الجرجاني، ومؤلف الكتاب علي بن عبد العزيز من كبار النقاد العباسيين، كان شاعرًا مجيدًا وكاتبًا رصينًا، قوي الأسلوب، وكان عالمًا في الفقه والتفسير والتاريخ، له عدد من الكتب والمؤلفات التي فُقدت وضاعت، وكتابه (الوساطة) من أهم الكتب التي أُلفت في النقد الأدبي، وهو موجود والحمد لله بأيدي الدارسين والباحثين.
ولد القاضي الجرجاني بمدينة جرجان عام مائتين وتسعين من الهجرة، وطوّف بكثير من بلاد الإسلام، فذهب إلى العراق والشام، وصحب الوزير البويهي الصاحب بن عباد الذي قلده قضاء جرجان، ثم قضاء مدينة الري، ولم يعزله عنه إلا موته، وكان ذلك عام ثلاثمائة وستة وستين من الهجرة، وبسبب توليه القضاء عُرف بهذا اللقب: القاضي الجرجاني.
أما كتاب (الوساطة) فهو أحد المصادر المهمة للنقد الأدبي في العصر العباسي، وهذا الكتاب لا يقل أهمية عن كتاب (الموازنة بين الطائيين) الذي ألفه الآمدي؛ فقد قدم كلٌّ من الكتابين زادًا طيبًا أثرى النقد الأدبي، ووسع من مجراه وعمقه وطوره، والكتاب الذي نتحدث عنه وضعه صاحبه في الخصومة التي كانت شديدة وحامية بين المتنبي وخصومه، وبين أنصار المتنبي ومحبيه، وشانئيه وعائبيه، فهي وساطة بين أنصار شاعر واحد وخصومه، وليست موازنة بين شاعرين كما كان الشأن عند الآمدي.
ومن الناس من تعصب للمتنبي وأعلى قدره ورفع مكانته في مجال الشعر، ومنهم من تحامل عليه وأذرى بشعره، واجتهد في إخفاء محاسنه وتتبع أخطائه وسقطاته، وقد أنكر القاضي الجرجاني مسلك كل فريق، ورأى أن كلًّا منهما بعيد عن الحق، وحاول القاضي في هذه (الوساطة) أن يتحرَّى الحق والعدل في النظر إلى شعر المتنبي، وألا يكون ضمن الفريق المتعصب للمتنبي الذي لا يرى له عيبًا، ولا أن يكون من الذين يتعصبون على المتنبي ولا يرون له حسنة.
فالجرجاني إذًا في كتابه يؤدي دور القاضي العادل النزيه، وتبدو هذه الصفات -صفات العدل، والتواضع، والتثبت- من خلال ما ورد في كتاب (الوساطة) الذي وضعه.
أما منهجه في كتابه، فقد استهلَّ الكتاب بمقدمة طويلة وضّح من خلالها منهجه ومقصده من هذا الكتاب، واتجاهه في هذه الخصومة الشديدة والشائكة؛ ليبين أنه لن يكون متعصبًا، ولن يكون متحاملًا.
ولكي يحقق القاضي غايته ويصل إلى هدفه بدأ بالحديث عن الشعر العربي من الجاهلية حتى عصر المتنبي، واستشهد بكمٍّ كبير منه في المواضع التي رأى حاجة إلى الاستشهاد بها، فكانت أغلاط الشعراء هي الفقرة الأولى من الكتاب، وعن طريقها توصل إلى أنه لم تسلم قصيدة لشاعر منهم، أي: من المتقدمين، من أن يلحقها عيب في بيت أو أكثر من أبياتها؛ إما في اللفظ والنظم، أو الترتيب والتقسيم، أو المعنى، أو الإعراب.
ولكن السبق الزمني لهؤلاء الشعراء، واعتقاد الناس فيهم بأنهم القدوة والنموذج جعل لهم من المكانة وحسن الظن بهم ما يحول دون الحديث عن عيبهم، أو التنديد بما ورد في أشعارهم من أخطاء أو عيوب، ولولا ذلك لوجدنا كثيرًا من أشعارهم معيبة مسترذلة ومردودة منفية، لكن الظن الجميل والاعتقاد الحسن ستر عليهم، ونفى عنهم ما لحقهم من عيوب. وتدليلًا على صدق ما توصل إليه في أشعار القدماء، استعرض العديد من النماذج الشعرية لكبارهم؛ من أمثال امرئ القيس، ولبيد، وزهير، والفرزدق، وغيرهم.
لقد جاء تأليف القاضي لكتابه (الوساطة) بمثابة الرد على خصوم المتنبي من النقاد الذين تحاملوا عليه، ولم يكن لهم هدف سوى تجريحه وكشف مساوئ شعره وتتبع سرقاته، تدفعهم إلى ذلك العديد من الدوافع الشخصية التي لا صلة لها بالأدب أو النقد، فحاول القاضي أن يقف من هذه الخصومة المتعسفة موقف الوسيط النزيه، والحَكَم العَدَل، وهو ما تُمليه عليه طبيعة عمله قاضيًا، فاختار عنوانًا يلائم طبيعة هذا الموقف (الوساطة)، وقام بهذه الوساطة بين المتنبي وخصومه.
والوساطة -كما نعرف- في جوهرها تقريب لوجهات النظر، فالرجل يريد أن يحاور المتعصبين ضد المتنبي، الذين لا يهمّهم إلا أن يعثروا على سقطاته، ويكشفوا عيوبه، ولكنه اختار المدخل الصحيح؛ فلم يفعل كما فعل غيره من المتعصبين للمتنبي، الذين لا يرون للمتنبي عيبًا، بل أراد أن يقول: إنه ما من شاعر إلا وله عيوب، وما من شاعر إلا وله محاسن، هذا المدخل هو الذي جعل هذا الكتاب متفردًا، وجعله موضع قبول الكثير من النقاد والدارسين.
أما عن أهم ما احتواه الكتاب، فقد تناول القاضي الجرجاني عددًا من القضايا الأدبية والنقدية المهمة، أرسى من خلالها بعض المبادئ الأساسية في ميدان النقد الأدبي: مبدأ الحياد والنزاهة في النظر إلى مجمل شعر الشاعر، إذا أراد الناقد أن يحكم عليه حكمًا صحيحًا، وألا يخضع الناقد للآراء السابقة دون مناقشة لها، فلا بد أن يعرض على عقله وعلى ذوقه ما ذُكر عن شعر الشاعر، وأن ينظر فيه، وأن يبحث من خلال المقومات الأساسية للشعر المتمثلة في الطبع، والموهبة، والذكاء، والدربة، والممارسة، في الأحكام التي ذُكرت من قبله عن شعر الشاعر، ثم يدرسها بعناية.
وتحدث القاضي الجرجاني في هذا الكتاب عن قضية اللفظ والمعنى، وعن قضية الطبع والصنعة، وعن عمود الشعر، وعن السرقات الأدبية، وأولى هذه المسألة -مسألة السرقات الأدبية، أو المعاني التي تنتقل من شاعر إلى شاعر، أو يأخذها واحد عن واحد- عناية كبيرة في كتابه هذا؛ لأن مسألة السرقات كانت من أهم الأمور التي تحدث فيها خصوم المتنبي وعابوه بسببها، وهذه القضايا وتلك الموضوعات تحدث عنها القاضي في مقدمة الكتاب.
ثم بعد ذلك تبدأ وساطة القاضي في مناقشة خصوم المتنبي والرد على نقدهم له، وعمد الجرجاني في سبيل ذلك إلى مبدأ المقايسة، أو الموازنة بين المتنبي وبين شاعرين من كبار الشعراء المحدَثين، وهما أبو نواس وأبو تمام، وقدَّم منتخبات من أشعارهما وراح يناقشها ليوازن بينها وبين شعر المتنبي؛ مؤكدًا أن غايته هي الاعتذار للمتنبي، وأنه لا يريد الغضَّ من قَدْر هذين الشاعرين الكبيرين، ولا كشف أخطائهما، ويخلص من ذلك إلى شعر المتنبي فيذكر جملة من محاسنه، ويأتي بأمثلة من هذا الشعر تؤكد جودته، وتكشف عن حسنه، ثم ينتقل إلى ذكر معايبه وسرد سرقاته التي تحدَّث عنها نقاده وعائبوه، والتي استأثرت بكثير من اهتمامهم وعنايتهم حتى جعلتهم لا يرون من محاسن المتنبي شيئًا.
إذًا: لم يتوقف القاضي عند ذكر العيوب، عيوب المتنبي، ولم يتوقف عند ذكر حسناته، وإنما حاول الرجل أن يضع يده على الحسنات، وعلى العيوب.
وهذه وقفة مع بعض القضايا والموضوعات التي وردت في كتاب (الوساطة)، والتي منها مثلًا: العوامل المؤثرة في صياغة الشعر، حيث تحدث الجرجاني عن أهم العوامل التي تؤثر في شعر الشاعر، والتي تؤدي إلى اختلاف الشعراء فيما بينهم، فهذا يتسم شعره بالرقة والسهولة، وذاك شعره يكون صعبًا. ويُرجع القاضي الجرجاني هذا إلى عوامل ثلاثة:
العامل الأول: هو اختلاف الطبائع وتركيب الخلق بين الشعراء، فإن سلامة اللفظ -كما يقول- تتبع سلامة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة.
العامل الثاني: فهو يتعلق بالبداوة والحضارة، فالإقامة في البادية غير الإقامة في الحاضرة؛ فالذي يقيم في البادية يكون طبعه جافيًا، والذي يقيم في الحاضرة يكون طبعه رقيقًا، هذا هو الغالب.
ويدلل القاضي على صحة ما ذهب إليه من رقة الشعر ولين أسلوبه في الحاضرة، وخشونته وجفافه في البادية؛ بأن شعر عدي بن زيد -وهو جاهلي- أسلسُ من شعر الفرزدق ورجز رؤبة، ويُرجع ذلك لملازمة عدي الحاضرة وبُعده عن بداوة الأعراب.
العامل الثالث: فهو طبيعة التجربة الشعرية نفسها، فالغزل يستدعي رقة الأسلوب، والفخر والحماسة يستدعيان القوة والجزالة.
ومن هذه القضايا والموضوعات أيضًا: الطبع والصنعة، وهو يقول في هذا الموضوع: “ومِلاك الأمر في هذا الباب خاصة ترك التكلف ورفض التعمل، والاسترسال في الطبع، وتجنب الحمل عليه والعنف به، ولست أعني بهذا كل طبع، بل المهذب الذي قد صقله الأدب وشحذته الرواية، وجلته الفطنة، وأُلهم الفصل بين الرديء والجيد، وتصور أمثلة الحسن والقبح”، وأوضح ما يتجلى فيه الفرق ما بين المصنوع والمطبوع من الشعر، هو شعر البحتري وشعر جرير، وراح القاضي يدلل على صدق قوله وصواب رأيه ببعض النماذج من أشعارهما.
ومن الأمور التي تحدث عنها أيضًا: مسألة عمود الشعر العربي، وعمود الشعر العربي: هو مجموعة الصفات التي رأى النقاد أن القدماء ساروا على هديها في بناء شعرهم في العصر الجاهلي وما تبعه، حتى ظهر المولّدون والمحدَثون الذين اتُّهموا بأنهم خالفوا هذه الصفات، وخرجوا على عمود الشعر، وهذه الصفات يجليها القاضي الجرجاني في قوله: “وكانت العرب إنما تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، وتُسلم السبق فيه -أي: في الشعر- لمن وصف فأصاب، وشبه فقارب، وبدَهَ فأغزر، ولمن كثرت سوائر أمثاله وشوارد أبياته، ولم تكن -يعني: العرب- تعبأ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر، ونظام القريض”.
هذه إذًا هي الصفات التي تمثل عمود الشعر العربي في نظر القاضي الجرجاني، واعتمدت هذه الصفات على أنها طريقة العرب في شعرهم، وأن الذي يخرج عنها يكون خارجًا على عمود الشعر العربي.
ومن القضايا التي تعرض لها القاضي الجرجاني أيضًا: قضية الدين والشعر، إذ يقرر أن ديانة الشاعر ينبغي أن تكون بمعزل عن الحكم على شعره، ويقول في توضيح ذلك: “فلو كانت الديانة عارًا على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببًا لتأخر الشاعر؛ لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عُدَّت الطبقات، ولكن أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد الأمة عليه بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزِّبَعْرى وأضرابهما ممن تناول الرسول صلى الله عليه وسلموعاب الصحابة بُكْمًا خُرْسًا…”، ونحن نعلم أن كعب بن زهير كان له قبل أن يدخل في الإسلام هجاء للرسول صلى الله عليه وسلمواعتذر عن هذا الهجاء، وقَبِل الرسول صلى الله عليه وسلممنه هذا الاعتذار، ودخل كعب في الإسلام، وحسن إسلامه، يقول القاضي الجرجاني: “ولكن الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر”.
فمدار الأمر في الحكم بجودة الشعر يكون من الجهة الفنية، ولا علاقة له بتدين الشاعر أو عدم تدينه. وهذا الرأي من القاضي الجرجاني ليس محل إجماع عند النقاد، فبعض النقاد يجعلون من تدين الشاعر أو عدم تدينه مدخلًا في تقويم عمله الأدبي.
ومن الموضوعات التي اهتم بها كثيرًا: السرقات الأدبية، وأشار في هذا المجال إلى ما أثره خصوم المتنبي من إغارته على شعر عدد كبير من الشعراء.
وفي مقدمتهم أبو تمام، ولقد ذهب القاضي الجرجاني إلى أن أمر السرقات في شعر المتنبي ليس على النحو الذي زعمه خصومه، وأنه لا بد من التفرقة بين نوعين من المعاني:
النوع الأول: وهو المشترك من المعاني الذي لا يجوز ادعاء السرقة فيه، والمبتذل الذي ليس أحد أولى به.
والنوع الثاني: هو المعاني المختصة، وهو الذي حاذه المبتدئ فملكه، وأحياه السابق فاقتطعه، فصار المعتدي مختلسًا وسارقًا، والمشارك محتذيًا وتابعًا، ويمثل القاضي الجرجاني للنوع الأول من المعاني وهي المعاني العامة.
فيقول: “فتشبيه الحسن بالبدر والشمس، والجواد بالغيث والبحر، والبليد البطيء بالحجر والحمار، أمور متقررة في النفس، متصورة للعقول، يشترك فيها الناس جميعًا، ولا يصح فيها ادعاء السرقة.
أما النوع الثاني الذي يكون فيه السرقة أو الأخذ، فهو الذي ابتدعه شاعر متقدم وانفرد به، ثم كثر استعماله فصار كالأول في الجلاء، والاستشهاد، والاستفاضة على ألسن الشعراء، فحمى نفسه من السرقة، وإن كان الأصل فيه لمن انفرد به، وأوله للذي سبق إليه”.
ثم يذكر أن مناط التفاضل بين الشعراء في تلك المعاني التي صارت متداولة، إنما هو في انفراد أحدهم بلفظة تستعذب، أو ترتيب يستحسن، أو تأكيد يوضع موضعه، أو زيادة اهتدى إليها دون غيره، فيريك المشترك المبتذل في صورة المبتدع المخترع.
لقد حاول الجرجاني من خلال هذا الموضوع التماس العذر للمتنبي؛ إذ كان هذا الأمر -وهو أخذ الشعراء بعضهم من بعض- داء قديمًا وعيبًا عتيقًا، وما زال الشاعر يستعين بخاطر الآخر، ويستمد منه القريحة، ويعتمد على معناه ولفظه، ثم تسبب المحدثون في إخفائه بالنقل، والقلب، وتغيير المنهاج والترتيب.
وبعد أن انتهى القاضي من موضوع السرقات، أخذ في عرض بعض المآخذ الأخرى التي أُخذت على شعر المتنبي، فوقف عند معانيه الغامضة، واستعاراته البعيدة، وألفاظه الغريبة، وغير ذلك من المعايب الأخرى، التي لم تكن كافية في نظره لإدانة الشاعر، والحكم بعدم شاعريته كما ادَّعى خصومه.
قام الجرجاني إذًا بالتوسط بين المتنبي وهؤلاء الخصوم، ونظر بعين العدل واحتكم إلى ميزان الإنصاف؛ ليعطي للمتنبي حقه، وليبين عيوبه أيضًا.
وبهذا المنهج الذي تحرى العدالة والإنصاف، واعتمد على الذوق والثقافة؛ اكتسب هذا الكتاب قيمته وأثره في مجال النقد الأدبي.