Top
Image Alt

الوصايا، والأمثال، وسجع الكهان

  /  الوصايا، والأمثال، وسجع الكهان

الوصايا، والأمثال، وسجع الكهان

ومن وصاياهم: وصية أكثم بن صيفي التميمي لقومه وبنيه، والتي يقول فيها: “يا بني تميم، لا يفوتنكم وعظي إن فاتكم الدهر بنفسي، إن بين حيزومي وصدري لكلامًا لا أجد له مواقع إلا أسماعكم، ثم قال: الهوى يقظان، والعقل راكد، والشهوات مطلقة، والحزم معقول، ولن يعدم المشاور مرشدًا والمستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل، ومن سمّع سُمع به، ومصارع الرجال تحت بروق الطمع، ومن سلك الجدد أمِن العثار، يا بني تميم، الصبر على زرع الحلم أعذب من جني ثمر الندامة، ومن جعل عِرضه دون ماله استُهدف للذم، وكلم اللسان أنكى من كلم السنان، والكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم، فإذا نجمت فهي أسد محرب أو نار تلهب”.

ومن وصاياهم: وصية امرأة عوف بن محلم الشيباني أمامة بنت الحارث لابنتها أم إياس، وكان عمرو بن حج ملك كندة -جد امرئ القيس الشاعر- قد خطبها إلى أبيها، فلما كان يوم البناء بها -أي: يوم الزواج- أوصتها أمها وصية لم تدعْ شيئًا من تأديب المرأة إلا ذكرته لها؛ قالت:

“أي بنية، إن الوصية لو تُركت لفضل تركت لذلك منك، ولكنها تذكرة للغافل ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها كنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خُلقن ولهن خُلق الرجال، أي بنية، إنك فارقت بيتك الذي منه خرجتِ وعُشّك الذي فيه درجتِ إلى وكرٍ لم تعرفيه وقرين لم تألفيه، فكوني له أمَة يكن لك عبدًا، واحفظي له خصالًا عشرًا يكن لك ذخرًا:

أما الأولى والثانية: فالصحبة بالقناعة وحسن السمع له والطاعة، وأما الثالثة والرابعة: فالتفقُّد لموضع عينيه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشمّ منك إلا أطيب ريح، وأما الخامسة والسادسة: فالتفقُّد لوقت منامه وطعامه، فإن حرارة الجوع مَلهبة وتنغيص النوم مَغضبة، وأما السابعة والثامنة: فالاحتفاظ بماله والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حُسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير، وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمرًا ولا تُفشين له سرًّا؛ فإنك إن عصيتي أمره أوغلتي صدره، وإن أفشيتي سرّه لم تأمني غدره، ثم إياكِ والفرح بين يديه إذا كان مهتمًّا، والكآبة بين يديه إذا كان فرحًا، واعلمي أنك لا تَصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاكِ وهواه على هواكِ فيما أحببتِ وكرهتِ، والله يخير لكِ”.  هذه نماذج من خطبهم.

ومن صور النثر الجاهلي: المنافرة:

وهي: التحاكم إلى شريف من الأشراف من حكمائهم الموثوق بهم في نزاع حول الشرف والمكانة والسيادة بين اثنين ليفصل بينهما، ويقضي لأيهما بالسيادة والشرف وعلو المكانة على صاحبه، وكانت الحمية الجاهلية وحب السيادة عندهم من الدوافع إلى هذه المنافرة.

ومن المنافرة ما وقع بين علقمة بن علاثة وعامر بين الطفيل العامريين؛ فقد ذكروا أنهما تنازعوا الرياسة والشرف والزعامة، وتفاقم بينهما الأمر واستثار بينهما الشر، حتى قال عامر لصاحبه: والله إني لأكرم منك حسبًا، وأثبت منك نسبًا، وأطول منك قصبًا -والمراد بالقصب هنا المجد والمنبت الأصيل- فقال علقمة: أنا خير منك أثرًا، وأعزّ منك نفرًا، وأشرف منك ذكرًا، فقال عامر: أنافرك وإني والله لأركب منك في الحماة وأقتل منك للكماة وخير منك للمولى والمولاة، فقال علقمة: أنافرك وإني والله لبرّ وإنك لفاجر، وإني لولود وإنك لعاطر، وإني لوفي وأنك لغادر، ففيما تفاخرني يا عامر؟! فقال عامر: أنافرك وأنا أنشر منك أمة، وأطول منك قمّة، وأحسن منك لمة، وأبعد منك همة، وطال بينهما الكلام وتواعدا على الخروج إلى من يحكم بينهما، وكان مع علقمة بنو خالد ومع عامرًا بنو مالك، وجعلا يطوفان أحياء العرب والناس يأبون الحكم بينهما خوفًا من وقوع الشرّ بين الحيين.

إلى أن وصلا إلى رجل يسمى هَرِم بن قطبة الفزاري، فقال لعامر: لأحكمن بينكما ثم لأفصلن فأعطياني موثقًا أطمئن إليه أن ترضيا بما أقول وتُسلما بما قضيت، وأمر بنيه أن يفرقوا جماعة الناس خوفًا من الفتنة، ثم جعل يرجئهما ويمهلهما أسبوعًا حتى إذا بلغ الأجل خرجا إليه فشرع يخوّف كل واحدًا منهما من صاحبه إذ استدعى كل منهما بمفرده سرًّا من غير أن يعرف الآخر، فقال لعامر: قد كنت أرى لك رأيًا وإن فيك خيرًا، وما حسبتك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك، أتنافر رجل لا تفخر أنت وقومك إلا بآبائه؟! فما الذي أنت به خير منه، وكذلك فعل مع علقمة، حتى أصبح كل واحد منهما لا همّ له إلا أن يسوي الرجل بينه وبين صاحبه، ثم دعاهما بعد ذلك والناس مجتمعون فقال: قد تحاكمتما إليّ وأنتما عندي كركبتي البعير الأجرم -المكتنز الذي دار لحمه عظمه- تقعان إلى الأرض معًا وتقومان معًا، وليس فيكما أحد إلا وفيه ما ليس في صاحبه، فرضيا بحكمه وانصرف كل واحدًا منهما إلى قومه، واستطاع هَرِم بحكمته وكياسته أن يرضي كل منهما ولم يفضل أحدًا منهما على صاحبه.

وقد امتدت الحياة بهرم إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله  عنه   فسأله عمر: أيهما كنت منفرًا؟ أي: كنت مفضلًا، فقال: يا أمير المؤمنين، لو قلتها الآن لعادت جذعة يعني الحرب أو الفتنة، فقال له عمر: إنك لأهل لموضعك من الرياسة؛ يريد الإشادة بحكمته.

أما الحكمة: فهي قول موجز، يتضمن حُكمًا مسلمًا ناتجًا عن تجربة وخبرة حاثًّا على الفضائل، كافًّا على الرذائل، وهي تدل على فصاحتهم العالية وبلاغتهم المتينة، فإنهم يصوغون المعاني الكبرى في ألفاظ وجيزة.

من ذلك قولهم: “رُب أخ لك لم تلده أمك”، وقولهم: “آخر الدواء الكي”، وقولهم: “آفة الرأي الهوى”، “ليس من العدل سرعة العزل”، “ليس بيسير تقويم العسير”، “مقتل الرجل بين فكّيه”، “إذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد”، “لو أنصف المظلوم لم يبقَ فينا ملوم”، “حافظ على الصديق ولو في الحريق”، “لا جماعة لمن اختلف”، “أسرع العقوبات عقوبة البغي”، “خير الأعوان من لم يراءِ بالنصيحة”، “شرّ الملوك مَن خافه البريء”.

وكما أن الحكمة تدل على بلاغتهم العالية فإن الأمثال كذلك.

والأمثال: جمع مثل، وهو عبارة وجيزة قصيرة، تتضمن معنًى معينًا.

والمثل له مورد وله مضرب، فمورده الحادثة التي ارتبطت به أول ما قيل، ومضربه الحوادث المشابهة للحادثة للتي قيل فيها، وكثيرٌ من الأمثال بقي ونُسي مورده، وبعضها ظل مذكورًا ومورده كذلك مذكور.

ومن أمثال العرب التي وردتنا قولهم: “تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها”؛ يضرب في صيانة المرء الكريم لنفسه عن المكاسب الخسيسة. وقولهم: “المقدرة تُذهب الحفيظة”، “مقتل الرجل بين فكيه”، “إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه”، “من استرعى الذئب ظلم”، “في الجريرة تشترك العشيرة”، “وقد يأتيك بالأخبار ما لم تزوِّد”، “كذي العري يكوى غيره وهو راتع”، “كالمستجير من الرمضاء بالنار”، “يخبط خبط عشواء”، “المنية ولا الدنية”، “تحت الرغوة اللبن الصريح”، “هدنة على ذخن”، “رمتني بدائها وانسلّت”.

ومن أمثالهم أيضًا: “حبك الشيء يُعمي ويصم”؛ يضرب للتغاضي عن المساوئ فيما يحبه الإنسان أو فيمن يحبه، وقولهم: “يداك أوكتا وفوك نفخ”، يُضرب لمن يقع في شر أعماله.

ومن أمثالهم أيضًا: “جزاء سنمار”، وهذا مثل مورده مذكور، ذكروا أن رجلًا روميًّا بنى للنعمان بن امرئ القيس اللخمي قصر الخورنق بالكوفة، فلما أتمّه قال سنمار: إني أعرف حجرًا لو زال لانهدم هذا القصر، فقال له النعمان: أيعرفها أحد غيرك؟ قال: لا، فقال: لا جرم لأدعنه وما يعرفه أحد، ثم أمر به فرمي من أعلى القصر فخرّ ميتًا، فضرب العرب به المثل لمن يُجزى بالإحسان إساءة.

وبعض الأمثال يأخذ صورة فرضية؛ وذلك كالأمثال التي رُويت على لسان بعض الطير أو بعض الحيوان، فقد زعموا أن أرنبًا التقطت ثمرة فاختلسها منها الثعلب، فانطلقت به إلى الضبّ تشكوه فنادته الأرنب -أي: نادت الضب- فقال: سميعًا دعوتي، قالت: أتيناك لنحتكم إليك، قال: عادلًا حكّمتما، قالت: فاخرج إلينا، قال: في بيته يؤتى الحكم، قالت: إني وجدت ثمرة، قال: حلوة فكليها، قالت: فاختلسها الثعلب فأكلها، قال: لنفسه بغى الخير، قالت: فلطمته لطمة قال: بحقك أخذتي، قالت: فلطمني أخرى، قال: حرّ انتصر، قالت: فاقضِ بيننا، قال: قضيت، فذهبت أقواله كلها أمثالًا.

وواضح من هذا أن الحادثة التي ورد فيها المثل يمكن أن تكون حقيقية ويمكن أن تكون متخيلة.

ومن صور النثر الجاهلي: “سجع الكهان”:

والكهان: طائفة من الناس رجالًا أو نساءً، كانوا يزعمون أنهم يعرفون بعض الغيب، وكانوا الناس يذهبون إليهم فيما أشكل عليهم من أمورهم يستشيرونهم فيها.

وكان من الكهان من يزعم أن له تابعًا من الجن يسترق له السمع ويلقيه إليه ليخبر به الناس، ومنهم من كان يعتمد فيما يقول به على مقدمات تظهر له تشبه الفِرَاسة وحسن التوقع، وعلى أي حال فإن لهم أسلوبًا عرفوا به، يتسم بعدم وضوح الدلالة وبكثرة الاختلاف والتأويل عندما يراد تفسير كلامه، كما يتسم أسلوبهم في سجعهم بكثرة اليمين والحلف بالظواهر الطبيعية المختلفة.

والأخبار التي تحيط بالكهان والكهانة تحمل ما يمكن استغرابه أو التعجب منه، فمن كهانهم رجل يسمى سطيح بن ربيعة الذئبي، يقولون: إنه كان يدرج كما يدرج الثوب، فلم يكن فيه عظم إلا الجمجمة، وأن وجهه كان في صدره ومنهم شق بن الصعب، ويقولون: إنه كان شطر إنسان، ومن كهانهم -بل يقال: إنه أكهنهم- رجل يسمى عزى بن أبي حية، ومن كلامه الذي ينسب إليه: والأرض والسماء والعقاب والصقعاء واقعة ببقعاء، لقد نفر المجد بني العشراء، للمجد والسناء.

ومن أخبار الكهانة والكهان: ما روي في قضية هند بنت عتبة؛ فقد قالوا: إنها كانت في الجاهلية زوجًا للفاكه بن المغيرة المخزومي، وكانت داره مثابة يغشاها الناس، فاطلع عليها زوجها يومًا وهي نائمة وقد خرج من عندها رجل فاتهمها به واستلحقها بأبيها، وفشا الخبر عنها، فخرج بها أبوها إلى بعض الكهان يستخبره عن أمرها، وأخرج معها نسوة من قومها، وأقبلوا جميعًا ومعهم زوجها في جماعة من قومه على الكاهن، فلما شارفوا داره رأى عتبة من ابنته انكسارًا وتغيرًا، فقال لها: يا بنية، لا تكتميني من أمرك شيئًا، فإن كان ما بك -أي: ما ظهر عليك- لريبة نرجع ولا بأس عليك، فقالت هند -وكانت عاقلة: لا والله يا أبتِ، ما ذاك لريبة ولا فاحشة، ولكنكم تقدمون على بشر يُخطِئ ويصيب، وأخشى أن يسمني بِسمة تبقى عليًّ وصمة عارٍ آخر الدهر، قال: سأبلوه لكي -أي: سأختبره لكي- ثم خبّأ خبيئًا وأقبلوا حتى أتوا الكاهن فسأله عما خبأ له فقال الكاهن: ثمرة في كمرة، فقال: أفصح، قال: حبة بُرٍّ في إحليل مهر، قال: صدقت، ثم استنظروه في أمر النسوة فجعل يتصفحهن واحدة واحدة حتى أقبل على هند، فقال: انهضي غير رسحاء ولا زانية، وستلدين ملكًا يقال له معاوية.

هذا ما ورد عن سجع الكهان في العصر الجاهلي.

ولما نزل القرآن وتحيّر العرب في أمر بلاغته، وأخذوا يتخبطون وهم يحاولون عدم الانقياد له وعدم التسليم لحكمه ووصفوا القرآن مرة بأنه شعر، ومرة بأنه كهانة، ولقد نفى الله سبحانه وتعالى كل ذلك عن القرآن، وتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.

ومن صور النثر الجاهلي: “القصص والأساطير”:

وأكثر قصصهم تدور حول أيامهم وحروبهم وما سجله أبطالهم فيها من بطولات وانتصارات، وما لحق بعض القبائل فيها من هزائم وانكسارات، وقد ظلوا يروون هذه القصص ويتناقلونها حتى جاء عصر التدوين، فتضمنتها كتب الأدب والتاريخ، كما تدور بعض القصص حول المحبين والعشاق.

من ذلك مثلًا: قصة المرقش الأكبر الشاعر وصاحبته أسماء بنت عوف، يقولون: إنه عشقها وهو غلام وذهب لخطبتها من أبيها، لكن الأب اعتذر له بحداثة سنه، وأنه لم يُعرف بعد بالشجاعة والإقدام والبطولة؛ فانطلق المرقش إلى بعض الملوك يمدحه وبقي عنده زمنًا، وفي هذه الأثناء أصاب عوفًا والد أسماء زمانٌ شديدٌ، وأتاه رجل أرغبه في المال وطلب منه الزواج من ابنته على مائة من الإبل، فزوّجه إياها ورحل بها الرجل إلى أهله، وقال أخوة المرقش: لا تخبروه بخبرها حين يرجع، بل قولوا له: إنها ماتت؛ يخافون عليه من الحقيقة، ولما عاد المرقش وسأل عن أسماء قال له إخوته: إنها ماتت، وكانوا قد ذبحوا كبشًا وأكلوا لحمه ودفنوا عظامه، فلما سألهم عن قبرها أخذوه إلى المكان الذي فيه عظم هذا الكبش وقالوا: هذا قبرها.

ولم يلبث أن عرف الحقيقة بعد أن ظل مدة يزور قبرَ هذا الكبش على أنه قبر محبوبته، ثم خرج يطلب أسماء ويبحث عنها، وبعد مغامرات تعرف على راعٍ يعمل عند زوجها فتوسّل إليه أن يخبره عنها ويحدّثه بخبرها، فقال الراعي: إني لا أستطيع أن أدنو منها ولكن جاريتها تأتيني كل ليلة فأحلب لها عنزًا فتحمل لبنها إليها. فقال له المرقّش: خذ خاتمي هذا، فإذا حلبت فألقه في اللبن، فإنها ستعرفه وإنك مصيب بذلك خيرًا لم يصبه راعٍ قط إن أنت فعلت ذلك.

فأخذ الراعي الخاتم، ولما راحت الجارية بالقدح وحلب لها العنز- طرح الخاتم فيه فانطلقت الجارية به وتركته بين يدي أسماء، فلما سكنت الرغوة أخذته فشربته وكذلك كانت تصنع، فقرع الخاتم ثنيتها -بعض أسنانها- فأخذته واستضاءت بالنار فعرفته فقالت للجارية: ما هذا الخاتم؟ قالت: ما لي به علم، فأرسلتها إلى مولاها أي زوجها، فأقبل فزعًا فقال لها: لما دعوتني؟ قالت له: ادعُ عبدك راعي غنمك واسأله عن أمر هذا الخاتم، فلما قصّ الراعي ما حدث عرفت أسماء أن الخاتم هو خاتم المرقّش، فطلبت من زوجها أن يُسرع في طلبه، فركب فرسه وحملها على فرسٍ آخر وسارا حتى وجداه، فاحتملاه إلى أهلهما فمات عند أسماء.

ومن قصص الجاهليين ما ينحو نحوًا أسطوريًّا، ومعنى أسطوري: أن القصة لا ترجع إلى أحداث واقعية وإنما ترجع إلى شيء خرافي متخيل.

من ذلك ما زعموه أن أخوين كانا فيما مضى في إبل لهما يرعيانها، فأجدبت بلادهما وكانا قريبين من وادٍ فيه حية قد حمته من كل أحد، فقال أحدهما للآخر: يا فلان، لو إني أتيت هذا الوادي المكلئ -أي: الذي فيه عشب- فرعيت فيه إبلي وأصلحتها؟ فقال له أبوه: إني أخاف عليك الحية، ألا ترى أن أحدًا لم يهبط ذلك الوادي إلا أهلكته؟! قال: فوالله لأهبطن، فهبط ذلك الوادي فرعى إبله به زمانًا، ثم إن الحية لدغته فقتلته، فقال أخوه: ما في الحياة بعد أخي خير، ولأطلبن الحية فأقتلها أو لأتبعن أخي، فهبط ذلك الوادي فطلب الحية ليقتلها، فقالت: ألست ترى أني قتلت أخاك؟! فهل لك في الصلح، فأدعك بهذا الوادي فتكون به، وأعطيك ما بقيت دينارًا في كل يوم؟ قال: أفاعلة أنت؟ قالت: نعم، قال: فإني أفعل، فحلف لها وأعطاها المواثيق ألا يضيرها وجعلت تعطيه كل يوم دينارًا، فكثر ماله ونمت إبله حتى كان من أحسن الناس حالًا، ثم إنه تذكر أخاه وتذكر ما كان قال من قبل، فقال: كيف ينفعني العيش وأنا أنظر إلى قاتل أخي، فعمد إلى فأس فأحدها ثم قعد وتربص بالحية، فمرت به فتبعها فضربها فأخطأها ودخلت جحرها، فرمى الفأس بالجبل فوقع فوق جحرها فأثّر فيه. فلما رأت ما فعل قطعت عنه الدينار الذي كانت تعطيه، ولما رأى ذلك منها خاف من شرّها وندم، فقال لها: هل لكِ في أن نتعاهد ونعود إلى ما كنا عليه؟ فقالت: كيف أعاهدك وهذا أثر فأسك، وأنت فاجر لا تبالي بالعهد.

فكان حديث الحية والفأس مثلًا مشهورًا من أمثال العرب، وهذه قصة أسطورية كما ترى.

error: النص محمي !!