الوصية بالمنافع وبالإقراض وبالمرتبات
بمعنى أن المنافع التي يصح أن تكون محلًّا للتعاقد عليها، مثل: سُكْنى المنزل وزراعة الأرض ونحو ذلك؛ يَصِحُّ أن تكون محلًّا للوصية كذلك, إلّا أنه يُشترط أن تكون هذه المنافع موجودة عند الوفاة؛ لأنّ طبيعة المنافع أن تكون متجددة مع تجدد الزمان، وعليه يجب أن يتم استيفاؤها شيئًا فشيئًا مع تجدُّدها.
ولذلك اتفق الفقهاء على أن الوصية بالمنافع تصح, ما دامت تستند إلى شيء مملوك في حياته؛ لأنها كالأموال العينية في الملك بالعقد والإرث؛ فكانت كالأعيان في الوصية، ولذلك يجوز الوصية بالمنافع.
والرأي الراجح في الوصية بالمنافع هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء, حيث قالوا: الوصية بالمنافع تجوز كما تجوز الوصية بالأعيان تمامًا؛ لأن منفعة الدار أو منفعة الأرض الزراعية كالأعيان المالية تمامًا؛ لأنها تملّك حال الحياة بالإجارة والإعارة, فمن يؤجر دارًا أو يعيرها يملك منفعة الدار إجارة، أو إعارة في حال الحياة.
كذلك يكون تمليكها بعد الموت بالوصية من باب أولى؛ لأنّ الوصية قربة وفيها معنى الإحسان، وفيها معنى التّبرع، ولا تتعارض الوصية بالمنافع مع ملك الوارث للعين؛ فعندما نقول: إنّ الموصي أوصى بمنافع داره، فهذا لا يتعارض مع ملكية الورثة لهذه الدار؛ لأنه لا يلزم من ملك العين ملك المنفعة؛ فالورثة يتملكون الدار والمنفعة يجوز للموصي أن يوصي بها لأشخاص آخرين.
صور الوصية بالمنفعة:
الوصية بالمنفعة قد تكون معلومة بمدة معينة بالبداية والنهاية، كأن يوصي شخصٌ بمنافع داره لمدة سنة، فيقول: أوصيت بمنافع داري أو سُكنى داري لمدة سنة لفلان. هذا الشخص المُوصى له يستحق هذه المنفعة، وهي السُّكنى في المدة المعلومة من حيث البداية والنهاية، إذا وقعت هذه المدة بعد وفاة الموصِي؛ لكن إذا حدد الموصي مُدّة، وقال: أوصيتُ له بمنافع الدار الفلانية لمدة سنة من كذا إلى كذا، ووجدنا أن الموصي طالت به الحياة وطال به العمر وانتهت السنة قبل الموت، فإذا انقضت هذه المدة قبل وفاة الموصي بطلت الوصية؛ لأنّه لم يحدث ما أراده الموصي، ولأن الوصية لا تنفذ إلا بعد الموت.
وفوات الوقت المحدد للانتفاع يعتبر كهلاك العين أو كالرجوع فيها، لكن إذا انقضى بعض المدة قبل وفاة الموصي، ثم مات بعد ذلك كأن قال: أوصيت له بمنفعة الدار لمدة سنة, تبدأ من شهر كذا إلى شهر كذا، وعاش الموصي لمدة ستة أشهر قبل أن ينتفع الموصى له بالعين، ومات بعد ستة أشهر, فالموصى له يستحق المنفعة فيما يتبقى من هذه المدة.
ولو مُنع الموصى له من الانتفاع في المدة المحددة بسببٍ من جهة الموصي، أو قد يحدث أن يمنع الموصى له من الانتفاع بعذر يحول بينه وبين الانتفاع؛ كأن يُؤسر أو يُسجن أو يغيب عن البلد لأمر ضروري, فالحكم هنا أن يكون له الحق في الانتفاع مدة أخرى عند زوال المانع الذي حدث له، إذا كانت الوصية لا يمكن تنفيذها إلا باستعمال الموصى له شخصيًّا؛ فالوصية لشخص معين بسكنى دار محددة، وعرض له العارض الذي مثلنا له بسجن أو كذا، ومنعه من الانتفاع؛ يمكن تنفيذ هذه الوصية له ما دام يستعملها بنفسه.
وإذا أمكن أن تنفذ الوصية باستعمال الموصى له أو غيره، كالوصية لشَخْصٍ باستغلال أرض مدة مُحَدّدة، وحدث له ما يمنع، فلا يكون له الحق في الانتفاع مدة أخرى؛ لأنّ نوعية الاستغلال هنا يجوز أن يكون بشخص آخر غير شخص الموصى له.
قد يكون المنع من جهة أحد الورثة أو من بعضهم، أي: يمنعونه ويصُدّونه عن أن ينتفع الموصى له بالعين الموصى بها، وهنا يكون للموصى له الحق في بدل يضمنه له من منعه، وبرفع الأمر للحاكم يستطيع أن يأخذ بدل المنفعة إذا صده الورثة أو منعوه، سواء كان المنع من بعضهم أو من جميعهم؛ فإذا كان من واحد منهم يكون الأمر راجعًا إلى هذا الواحد فقط، وإذا كان من جميعهم يكون الضمان عليهم جميعًا؛ لأنهم يعتبرون متعدين بمنعه الانتفاع بالعين، والموصى له يكون له خيار بين أن ينتفع مدة أخرى أو إن شاء أخذ بَدَل المنفعة التي حرمه منها الورثة, أو منعوه منها إذا فاتت مدته.
حكم الوصية بالإقراض:
الإقراض بمعنى أن يوصي شخص بإقراض شخص مقدارًا معينًا من المال، كأن يقول: أوصيت بإقراض شخص مقدارًا معينًا من المال، فصورة الوصية هكذا: “أوصيتُ لمحمد بأن يقترض من تركتي مبلغ ألف دينار”، وهنا الوصية كأنها موجهة إلى الورثة بأن يقرضوا محمدًا هذا ألف دينار، أو لمدة معلومة أي: لمدة شهر أو إلى آخره، فإذا كان الموصى به -ألف دينار- يساوي الثلث؛ تنفذ الوصية بدون حاجة إلى إجازة الورثة؛ أي: يأخذ القرض هذا حتى ولو لم يجزه الورثة؛ لأنّ الثُّلث يحتمله.
وإذا كان الموصى به أكثر من الثلث فلو قال: أوصيت بالألف، ووجدنا الألف يزيد على الثلث؛ لأن التركة عبارة عن ألفين فقط، تُوقف فيما زاد عليه على إجازة الورثة؛ لأنّ ثلث الألفين لا يصل إلى الألف، فتكون الزيادة التي أقل من الألف إذا أجازها الورثة تجاز ويأخذ القرض, وإذا لم يجزها الورثة نقف عند حد الثلث.
حكم الوصية بالمُرتبات:
الوصية بالمرتبات كأن يوصي شخص فيقول مثلًا: أوصيت لشخص بمبلغ من المال يأخذه مرتبًا؛ كالرواتب التي يأخذها الموظفون مثلًا، أي: إن المبلغ موزع على أزمنة معينة بالأيام أو بالشهور أو بالسنين، فقد تكون الوصية بمرتب لشخص في مدة معينة أو بمرتب له مدى الحياة، أي: مدى حياة الموصى له.
فإذا أوصى له بمرتب في مدة معينة، وكانت الوصية بهذا المرتب تحتملها التركة، بمعنى: أنه أوصى لشخص بمرتب شهري هو مائة دينار لمدة خمس سنوات، وكان مقدار الوصية هو ستة آلاف دينار، فالوصية في مدة خمس سنوات ستة آلاف دينار؛ لو كانت الوصية بالثلث خمسة آلاف وكانت الوصية خمسة عشر ألفًا فقط لكانت ثلثًا, لكن هي أكثر من ذلك؛ نُفِّذَت الوصية هنا، وهي الستة آلاف لأنها تساوي الثلث إنْ كانَت التّركة أقل من الثمانية عشر، أو أقل من الخمسة عشر؛ لأنّ الوصية ستة آلاف وهي تساوي ثلث الثمانية عشر، فلا تحتاج إلى إجازة الورثة، إن كانت التركة أقل من ذلك -أقل من الثمانية عشر- والوصية ستة آلاف، فهنا الزيادة هنا في الستة الآلاف الموقوفة على إذن الورثة، والوصية بالمرتب تنتهي بموت الموصى له.
أما عن مسألة الوصية بمرتب مدى الحياة, فيجوز أن يوصي شخصٌ لشخصٍ بمرتب مدى حياة الموصى له، بأن يقول: أوصيتُ لفلان بمرتب هو مائة دينار طيلة حياته؛ وفي هذه الحالة يقول الفقهاء: تُقَدّر حياة الموصى له عند بعض الفقهاء -وليس عند الجميع- بالسن الغالب لأهل زمانه.
أي: يقولون: غالب أهل الزمان هنا يعيشون سبعين سنة أو ستين سنة، ثم يُحذف من ثلث التركة ما يكفي لتنفيذ الوصية في تلك المدة، إذا مات الموصى له قبل انتهاء المدة التي قال الفقهاء: إنها السن الغالبة، أو بعضهم يقول مثلًا: نذهب إلى الطبيب ونُقَدّر أن هذا الرجل صحته هذه كم تعيش، وإن كانت الأعمار كلها بيد الله لا ترتبط بصحة معينة.
وإذا عاش الشخص بعد انتهاء المدة المحددة, كأن يعيش إلى ستين وعاش إلى سبعين؛ يكون له الحق في الرجوع بالمرتب الذي يكون له بعد المدة التي قدرت أن يعيش إليها، حيث يرجع بها على الورثة عند أكثر الفقهاء، وإن كان ابن القاسم من المالكية ذهب إلى خلاف ذلك، وقال: إنه لا حق له في الرجوع على الورثة بشيء في هذه المدة الزائدة. هذا، والله ولي التوفيق.