Top
Image Alt

انتقاد ابن حجر للحاكم

  /  انتقاد ابن حجر للحاكم

انتقاد ابن حجر للحاكم

نذكر ما انتُقد فيه الحاكم، وخاصَّةً فيما ادَّعاه أو فيما زعمه من أنَّه ليس في الصَّحيحيْن إلا القسم الأوّل من المتَّفق عليه. أمَّا القسم الثاني فليس في الصَّحيحيْن، والقسم الثالث أيضًا وما بعدهما؛ لأنّ القسم الثاني إنَّما هو أحاديثُ بعض الصحابة الذين ليس لهم إلا راوٍ واحد، والقسمُ الثالث أحاديثُ بعض التابعين الذين ليس لهم إلا راوٍ واحد.

على كل حال نبدأ أولًا بـ:

قال ابنُ حجر -بعد أن ذكر هذه الأقسام على وجه التَّلخيص-: هذا حاصلُ ما ذكره الحاكمُ مبسوطًا مطوَّلًا في كتاب (المدخل إلى معرفة الإكليل). وكلٌّ من هذه الأقسام التي ذكَرها في هذا المدخل مدخولٌ، يعني: ليس صحيحًا، أو يُنتقد عليه.

قال: ولولا أنَّ جماعةً من المصنِّفين، كالمجد بن الأثير، في مقدِّمة (جامع الأصول) تلقَّوا كلامَه فيها بالقَبول، لقلَّة اهتمامهم بمعرفة هذا الشَّأن، واسترواحهم إلى تقليد المتقدِّم دون البحث والنَّظر، لأعرضتُ عن تعقُّب كلامه في هذا؛ فإنَّ حكايتَه خاصَّة تُغني اللَّبيبَ الحاذق عن التَّعقُّب، فأقول:

– أمَّا القسم الأول الذي ادَّعى أنَّه شرطُ الشَّيخيْن، فمنقودٌ بأنَّهما لم يشترطا ذلك، يعني: لم يشترطا أن يكون للصَّحابيِّ راويان، ولم يشترطا أن يكون للتَّابعيِّ أيضًا راويان، ولا يقتضيه تصرُّفُهما؛ وهو ظاهرٌ بَيِّنٌ لمن نظر في كتابيْهما.

– وأمَّا زعمُه بأن ليس في الصَّحيحيْن شيءٌ من رواية صحابيٍّ ليس له إلا راوٍ واحد، فمردودٌ بأنَّ البخاريَّ أخرج حديث مرداس الأسلمي, وليس له إلا راوٍ إلا قيسَ بن أبي حازم، في أمثلةٍ كثيرة مذكورة في أثناء الكتاب.

وإنصافًا للحقِّ، وقبل أن نُكمل انتقاد ابن حجر، نقولُ:

إنَّ الحاكم لعلَّه رجع عن رأيه في الصَّحابيِّ؛ فقد نقل السَّخاوي في (فتح المغيث) قال:

“وقد وجدتُّ في كلام الحاكم التَّصريحَ باستثناء الصَّحابة من ذلك، وإن كان مناقضًا لكلامه الأوّل؛ ولعلَّه رجع عنه إلى هذا، فقال: “والصَّحابيُّ المعروف إذا لم نجد له راويًا غيرَ تابعيٍّ واحد معروف -وهذا هو القسم الثَّاني عنده من الصَّحيح المتَّفق عليه- احتججنا به وصحَّحنا حديثه؛ إذ هو صحيحٌ على شرطهما جميعًا”.

قال السَّخاويُّ -ناقلًا عن الحاكم قوله-: “الصَّحابيُّ المعروف إذا لم نجد له راويًا غيرَ تابعيٍّ واحد معروف، احتججنا به وصحَّحنا حديثه؛ إذ هو صحيحٌ على شرطهما جميعًا. فإنَّ البخاريَّ قد احتجَّ بحديث قيس بن أبي حازم عن كلٍّ من مرداس الأسلميِّ وعديِّ بن عميرة، وليس لهما راوٍ غيره. وقد احتجَّ مسلم بأحاديث أبي مالك الأشجعيِّ عن أبيه، وأحاديث مجزأة بن زاهر الأسلمي عن أبيه.

وحينئذ فكلام الحاكم قد استقام وزال ما يُلام به من قوله: “إنَّ هذا القسم لم يُخَرَّج له في (الصَّحيح)”.

ونكمل كلام ابن حجر في انتقاده على الحاكم، ثُمَّ نُفصِّل ما جاء في الصَّحيحيْن من أحاديث القسم الثاني والقسم الثالث، بما يُبيِّن أنَّ البخاريَّ ومسلمًا لم يشترطا أن يكون للصَّحابي راويان، ولم يشترطا أن يكون للتَّابعيِّ راويان حتى يقبلَ حديث هذا أو ذاك.

كلام ابن حجر في انتقاده على الحاكم:

قال ابن حجر: “وأمَّا قوله بأنَّه ليس في الصَّحيحيْن من روايةِ تابعيٍّ ليس له إلا راوٍ واحد” فمردودٌ أيضًا، فقد خرَّج البخاريُّ حديثَ الزُّهري، عن عمر بن محمد بن جبير بن مطعم، ولم يروِ عنه غيرُ الزُّهريِّ في أمثلة قليلة لذلك”.      

تعقُُّّب ابن حجر للحاكم في قوله: “إنََّّ الغرائب الأفرادَ ليس في الصَّحيحيْن شيءٌ منها”:

– وأما قوله: “إنَّ الغرائب الأفراد ليسَ في الصَّحيحيْن منها شيء”، والغرائب الأفراد إذا رواها ثقات فهي القسم الرابع من الصَّحيح عند الحاكم”.

أمَّا قوله ذلك فليس كذلك -يعني: ليس الأمر على ما قال في الصَّحيحيْن- بل فيهما قدرُ مائتي حديث من الغرائب الأفراد، قد جمعها الحافظ ضياء الدين المقدسي في جزء مفرد.

– وأما قوله: “إنَّه ليس فيهما من روايات مَن روى عن أبيه عن جَدِّه، مع تفرُّد الابن بذلك عن أبيه”، وهو القسم الخامس من الحديث المتَّفق على صحته”.

قال ابن حجر: فهو منتقدٌ:

– برواية سعيد بن المسيَّب، عن أبيه، عن جدِّه.

– وبرواية عبد الله والحسن ابني محمَّد بن عليٍّ، عن أبيهما، عن عليٍّ.

– وغير ذلك…

وفي ذلك ما تفرَّد به بعضُهم، وهو في الصَّحيحيْن، أو في أحدهما.

هذا انتقادُ ابن حجر على الحاكم، في أقسامه الخمسة من الصَّحيح المتَّفق عليه.                     

انتقاد ابن حجر للحاكم في الأقسام المختلَف فيها:

قال: أمَّا الأقسام الخمسة، التي ذَكر أنَّه مختلفٌ فيها، وليس في الصَّحيحيْن منها شيءٌ:

القسم الأول:

فالأول الذي هو المراسيل، وقد وافق ابنُ حجر الحاكمَ في قوله، لكنه قال: “إنَّهما قد يُخرِجان ذلك في الشَّواهد”، أي: ليس في أصل الكتاب، وإنَّما كشواهد للأصول التي عنده.

القسم الثاني:

وفي الثَّاني -وهو أحاديث المدلِّسين- نظرٌ، يُعرفُ من كلامنا في التَّدليس.

وكلامُ ابن حجر في التَّدليس وغيره، يُبيِّن:

أنَّ ما في الصَّحيحيْن من أحاديث المدلِّسين هي التي بيَّن فيها هؤلاء المدلِّسون سماعاتهم في الأحاديث التي روَوها.

فإذا كانت هناك روايةٌ لمدلِّس في أحد الصَّحيحيْن، فمعنى ذلك أنَّه قد ثبت سماع المدلِّس لهذه الرواية من شيخه. فمثلًا: أبو الزُّبير إذا قال: “عن جابر”، وثبت عند مسلم أنَّه قد سمع هذا الحديث من جابر، فإنَّه يرويه. وإذا ثبت عنده أنَّه دلَّسه، فإنَّه لا يرويه.

ولذلك: ففي كلام الحاكم نظرٌ، كما ذكر ابن حجر.

القسم الثالث:

وأمَّا ما اختُلف في إرساله ووصْله بين الثِّقات: ففي الصَّحيحيْن منه جملةٌ. وقد تعقب الدَّارقطنيُّ بعضَه في كتاب (التَّتَبُّع) له، وهو كتابٌ مطبوع. قال الحافظ ابن حجر: وأجبنا عن أكثره، أي في مقدِّمة (فتح الباري).

فمعنى ذلك: أنَّ ما في الصَّحيحيْن من ذلك فهو ترجيح زيادة الثِّقة، وزيادةُ الثقات مقبولة؛ لأنّ الذي وصل الحديث قد زاد على الَّذي رواه مرسلًا؛ فهما قد غلَّبا رواية الوصل إذا كانت من ثقة، وهذا الذي هو موجود في الصحيحيْن.

القسم الرابع:

قال الحافظ بن حجر: “وأمَّا روايات الثقات غير الحفاظ، ففي الصَّحيحيْن منه جملة أيضًا؛ لكنه حيث يقع مثل ذلك عندهما يكونان قد أخرجا له أصلًا يقوِّيه”.

القسم الخامس:

قال ابنُ حجر: “أمَّا روايات المبتدعة” -وهم القسم الخامس من الصَّحيح المختلَف فيه عند الحاكم- قال: “إذا كانوا صادقين، ففي الصَّحيحيْن عن خلق كثير من ذلك، لكنَّهم من غير الدُّعاة ولا الغلاة. وأكثر ما يُخرجان من هذا القسم في غير الأحكام”. يعني: في الفضائل وغيرها، وليس في أحكام الحلال والحرام.

قال ابن حجر: “نعم. وقد أخرجا لبعض الدُّعاة الغُلاة، كعمران بن حطَّان، وعبَّاد بن يعقوب وغيرهما، إلا أنَّهما لم يُخرِّجا لأحدٍ منهم إلا ما توبع عليه”.

وقسمٌ سادس:

قال: وقد فات الحاكمَ من الأقسام المختلَف فيها قسمٌ آخَر، نبَّه عليه القاضي عياض -رحمه الله تعالى- وهو: رواية المستورين؛ فإنَّ رواياتهم مِمَّا اختُلف في قََبوله وردِّه. ولكن يمكن الجواب عن الحاكم في ذلك: بأنَّ هذا القسم وإن كان مما اختُلف في قبول حديثهم ورده، إلا أنَّه لم يطلق أحد على حديثهم اسم الصِّحَّة، بل الَّذين قبلوه جعلوه من جملة الحسَن بشرطيْن:

– أحدهما: ألا تكون رواياتهم شاذَّة.

– وثانيهما: أن يوافقهم غيرُهم على روايةِ ما رووه.

فقبولها حينئذ إنَّما هو باعتبار المجموعيَّة، كما قُرِّر في الحسَن. والله تعالى أعلم.                       

تفصيل ما أجمله ابن حجر:

ونعود إلى تفصيل ما أجمله الحافظ ابن حجر، في أنَّ العلماء انتقدوا على الحاكم أقسامه الأولى، والتي رأى أنَّها ليست في الصَّحيحيْن:

فأول الأقسام وأرفعُها -كما عرفنا-: المتَّفق عليها، أحاديث الصَّحيحيْن: صحيحَي البخاريِّ ومسلم، فيقول:

فالقسم الأوّل من المتَّفق عليها:

اختيارُ البخاريِّ ومسلم، وهو الدَّرجة الأولى من الصَّحيح. ومثاله: الحديث الذي يرويه الصَّحابي المشهور بالرِّواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وله راويان ثقتان، ثم يرويه التَّابعيُّ المشهور بالراوية عن الصَّحابة، وله راويان ثقتان. ثم يرويه عن أتباع التَّابعين الحافظ المتقن المشهور، وله رواةٌ من الطبقة الرابعة. ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظًا متقنًا مشهورًا بالعدالة في روايته.

فهذه هي الدرجة الأولى من الصَّحيح.

هذا ما قاله الحاكم وذكرناه في أوّل أقسامه للحديث.

فالحاكم كما يُفهم من كلامه هذا: أنَّ البخاريَّ ومسلمًا قد اشترطا أن يكون الصَّحابيُّ الذي يروي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهورًا، أي: له راويان أو أكثر نقلوا عنه الحديث. واشترطوا أن يكون ما بعد الصَّحابي من الرُّواة في السَّند من الثِّقات المشهورين بالعدالة والضَّبط، ولم يَشترط هذا في الصَّحابي راوي الحديث؛ لأنّ الصَّحابة كلَّهم عدول بتعديل الله تعالى لهم.

أمّا إذا كان الصحابي ليس له إلا راوٍ واحد فهو ليس مشهورًا، وبالتالي لا يصل حديثه إلى درجة أحاديث البخاريِّ ومسلم؛ ولهذا لم يأخذا به.

وقد عدَّ الحاكم حديثًا مثل هذا -الذي ليس للصحابي إلا راوٍ واحد أو للتَّابعي- في الدرجة الثانية أو الثالثة من درجات الصحيح المتفق عليه. ومثَّل له بحديث عروة بن مضرِّس الطَّائي، أنَّه قال: ((أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمزدلفة، فقلت: يا رسولَ الله، أتيتك من جبل طيئ، أتعبْتُ نفسي، وأكللتُ مطيَّتي. وواللهِ ما تركتُ من جبل إلَّا قد وقفت عليه، فهل لي من حجٍّ؟، فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: من صلَّى معنا هذه الصَّلاة، وقد أتى عرفة قبل ذلك بيوم أو ليلة، فقد تمَّ حجُّه وقضى تفَثَه)). وليس “ما تركت من جبل” كما يُصحّفه بعض الناس، كما نبَّهنا على ذلك.

وعقَّب الحاكم على هذا الحديث بقوله، مؤكدًا أنَّ هذا النوع من الصَّحيح قد خلا منه (الصَّحيحان). قال: وهذا حديثٌ من أصول الشَّريعة مقبولٌ متداوَل بين الفقهاء، ورواتُه كلُّهم ثقاتٌ، ولم يُخرجه البخاري ولا مسلم في الصَّحيحيْن إذ ليس له راوٍ عن عروة بن مضرِّس -وهو صحابيٌّ- غير الشعبي -وهو تابعيٌّ.

ثم عدَّد الحاكم -كما رأينا- كثيرًا من الصَّحابة الذين روَوا أحاديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لكلِّ واحدٍ منهم إلا راوٍ واحد. ثم قال: “والشَّواهد -كما ذكرنا- كثيرة، ولم يُخرِّج البخاري ومسلم هذا النَّوع من الحديث في (الصَّحيح)”.

error: النص محمي !!