اهتمام الحركة الصليبية الصهيونية بمستقبل إسرائيل، ومواقف أمريكا المتصلّبة ضدّ العرب
عندما غزا الجيش الإسرائيلي لبنان، وقف الصهيوني الصليبي “جيري فلويل” يدافع عن هذا الغزو، ويعلن أنّ الأرض التي وعد الله بها إسرائيل تمتدّ من النيل إلى الفرات. ففي 6 فبراير سنة 1983م، صرّح هذا الرجل لصحيفة “كورير تايمز تليجراف” التي تصدر في ولاية “تكساس” بأنه يؤيد أخذ الإسرائيليِّين للأراضي العربية من العراق، وسوريا، وتركيا، والسعودية، ومصر، والسودان، وكل لبنان، والأردن، والكويت. أما فلسطين كل فلسطين التي كانت تحت السيطرة الإسرائيلية أساسًا، فهذه مسألة منتهية؛ لأنها كلّها ملْك لليهود أصلًا، وهي التي أبرم الله وعْده مع أنبياء بني إسرائيل أنها ملْك لإسرائيل ولأبنائه من بعده. أرأيتم هذه الأساطير؟
وكان هذا مناسبة تظهر فيها ثنائية الموقف الصليبي الصهيوني في أمريكا، وربّما في أنحاء العالم؛ لأن الصليبية الصهيونية في أمريكا كانت تراوغ أحيانًا وتدّعي أنها لا تناصر إسرائيل، ولكن بعد هذه التصريحات أصبح الموقف الأصولي الصليبي واضحًا لا يحتاج إلى مراوغة.
ومن هنا وجدنا التناقضات في الموقف الصليبي الصهيوني؛ فبعد أن كان هدفهم هو تبشير اليهود بالمسيحية، تنازلوا عن رسالة التبشير وأخذوا يعاضدون الأهداف الصهيونية لتحقيق حُلم إسرائيل. وبعد أن كان هدفهم نشر تعاليم المسيح بين غير المسيحيّين، أخذوا يروّجون لما يسمّى بالألفية الثالثة التي تقع فيها معركة “هرمجدون” أو المعركة الفاصلة بين قوى الخير وقوى الشر. بعد أن كانوا يعتقدون أنّ اليهود هم قتَلة المسيح، انقلبت الآية وأخذ الصليبي الصهيوني يضع اليهود في المرتبة الأولى ثم المسيحي الأصولي في المرتبة الثانية، بعد أن كانوا يعتبرون الشعب اليهودي ملعونًا ومطرودًا من رحمة الله لأنه قتل المسيح.
بعد أن كان العرب يمثِّلون فئة من فئات البشر عند الصليبية الصهيونية، بدأ الأصولي الصهيوني والأصولي الصليبي يعتقد أنّ العرب من قوى الشر وليست من قوى الخير، ونسي أن العرب فيهم المسلم وفيهم اليهودي وفيهم المسيحي. إلى هذا الحد طغت قضية التعصب للفكر الصهيوني على الأصولية الصليبية فأعْمَتْها عن الحقائق التاريخية تمامًا، وقلَبَت الموازين وأخذت تتسنّم ذُرى الإعلام الأمريكي لتروِّج لدعاياتها ضدّ العرب وضدّ المسلمين وضدّ القضية الفلسطينية عمومًا.
أبنائي وبناتي، لا أريد أن أترك هذه القضايا دون أن أضَع أمامكم بعض الوثائق التاريخية التي تؤكِّد ما نقول؛ حتى لا يكون كلامنا مرسلًا بدون دليل تاريخي. لكي نوضّح لكم قوّة هذه الصلة وأثرها في السياسة الأمريكية وفي موقف الصليبية الصهيونية عمومًا، أذكر لكم إعلانًا قام به أعضاء السفارة الصليبية الدولية في القدس. سوف أورد فقط فقرات من هذا الإعلان؛ لأنه إعلان طويل جدًّا، لكن فقط سوف أضع أمام حضراتكم بعض الفقرات التي تبيِّن مدى الصلة وقوّة هذه الصلة، بل اهتمام الحركة الصليبية الصهيونية بمستقبل إسرائيل ومستقبل الصهيونية اليهودية العالمية في العالم.
ممّا جاء في هذا الإعلان: “نحن الممثِّلون للمؤتمر المسيحي الصهيوني الدولي الثاني المنعقد في القدس العاصمة الأبدية لإسرائيل”. هكذا العاصمة الأبدية لإسرائيل، كأنهم معترفون بإسرائيل ومعترفون بأنّ القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل. ومعنى هذا: أن قوانين الأمم المتحدة وقوانين مجلس الأمن ضربوا بها عرض الحائط. “نعلن في 14 إبريل 1988م في مناسبة الذكرى الأربعين لاستقلال إسرائيل”؛ لأن إسرائيل كان ميلادها سنة 1948م بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعقد هذا المؤتمر 1988م، فتكون الفترة الزمنية هي: أربعين عامًا. “ننتهز هذه الفرصة لنعلن سيادة الله وعصمة كلمته المقدسة بأنّ خطّته للفداء سوف تقيم السلام والبركات في النهاية في الشرق الأوسط ولكلّ البشرية من خلال وُعوده الميثاقية الأزلية لإسرائيل. إن المسيحية الصهيونية هي صهيونية كتابية تؤمن بالكتاب المقدس، وتعلن تحقُّق أهدافه النبوئية والتي تتجمع في عودة المسيح إلى القدس”.
هذه هي النبوءة التي يدورون حولها؛ لهذا نحن نفهم من الكتاب: أن الله أحبّ شعبه، وقد أعطاهم الحق في تحمّل المسئولية، وأعطاهم الحق في امتلاك وبناء الأرض الموعودة، وأعطاهم الحق في أن يحكموا المسكونة -المسكونة يعني: العالم- وبالتالي من خلال كلمته. “لهذا نحن نعلن حبّنا لإسرائيل والشعب اليهودي”. من الذي يعلن هذا؟ هم: الصليبيون المتصهينون. وأين أعلنوها؟ في السفارة الصهيونية الصليبية في القدس. ومتى أعلنوها؟ في مناسبة الاحتفال بمرور أربعين عامًا على قيام دولة إسرائيل.
“ونعلن تأكيدنا للحق الكتابي للشعب اليهودي؛ كي يعيش بحرية في كامل أرض إسرائيل، والتي تشمل: يهوذا، والسامرة، وغزة كدولة يهودية. ونعلن تشجيعنا لعودة كلّ اليهود من الشتات إلى الأرض، كاستجابة لدعوة الله القوية والمحبة لشعب إسرائيل، والتي عَبَّر عنها أنبياؤه. إننا ندعو كلّ الدول العالمية كي تعترف وتحترم قداسة وعْد الله للشعب اليهودي”. اقرأ هذه العبارة مرة ثانية: “إننا ندعو كلّ الدول العالمية كي تعترف وتحترم قداسة وعْد الله للشعب اليهودي بإعطائهم أرض كنعان كمِلْكية نهائية، وفي نفس الوقت كي يؤمنوا بوعوده الخاصة بكلّ ذرية إبراهيم”. والغريب: أنهم نسُوا أنّ العرب من ذرية إبراهيم.
“نحن نتحدى الكنيسة كي تتوب عن كلّ معاداة للسامية في الماضي والحاضر، وعن أيّة عقائد تجاهلت أو بدّلت الحقيقة الكتابية لوجود إسرائيل، وعن أيّ خطايا بالتعهد أو إسقاط العهد ضد الشعب اليهودي”. التوبة المذكورة هنا هي: توبة الكنيسة عن اتّهامها لليهود بقتل مَن؟ بقتل السيد المسيح.
وترتّب على هذا: إعلان البابا يوحنّا الثاني -الذي مات منذ فترة قليلة- إعلانه تبرئة اليهود من دم المسيح. هذه هي التوبة التي تطلبها الصليبية الصهيونية من الكنيسة: أن تتوب عن كلّ معاداة للسامية في الماضي أو الحاضر. “ونحن ندعو الكنيسة إلى أن تصوم وتصلّي باجتهاد من أجْل سلام أورشليم القدس، وندعو الكنيسة أن تتوسّط من أجْل إسرائيل، ومن أجْل سكّانها، ومن أجْل كلّ اليهود في كل مكان. وندعو الكنيسة أن تعبّر عن الحب والدعم لإسرائيل وللشعب اليهودي في الفكر والكلمة، والعمل حسب التوجيهات التي أعطاها الرب.
هذه النصوص اقتبسها الإعلان من “سِفر أشعياء” 58، 62. هذا الإعلان تبنّتْه السفارة الصليبية في القدس -كما قلنا- سنة 1988م كتعبير عن الموقف التاريخي والموقف النهائي والكنسي من إسرائيل، ومن احتلالها للأرض، ومن طرْدهم للشعب الفلسطيني، ومن اغتصاب تاريخ فلسطين من المنطقة، ومن موقفهم من المسلمين بصفة عامة.
هذه نصوص، وغيرها كثير، لم أرد أن أزحم الدرس بها، لكنّها موجودة في كثير من المراجع التي سوف نضعها بين أيديكم فيما بعد؛ لكي تكون مصدرًا لكل المعلومات التي أوردناها في هذه الدروس المتصلة بالحركة الصهيونية.
هذا التعاطف -أيها الأبناء- وهذا التضافر والتعاون التاريخي بين الحركة الصهيونية اليهودية والصهيونية الصليبية قد أضفى على القضية الفلسطينية نوعًا من الغشاوة أو الضباب، وعدم وضوح الرؤية في نظر الساسة الغربيِّين وبعض المثقّفين الغربيّين، ولم يروا القضية على حقيقتها؛ وإنما رأوها من واقع الإعلام الصهيوني الذي تعاونت كلّ مؤسساته في كل دول أوربا بلا استثناء على التعاطف مع القضية الصهيونية ضدّ القضية العربية والقضية الفلسطينية الإسلامية، واستطاعت الصهيونية العالمية بوسائل إعلامها المختلفة أن تهيِّئ العقلية الغربية بقبول فكرة دولة إسرائيل على أرض الميعاد، وهي أرض فلسطين التاريخية.
وتضافرت جهود مؤسسي هذه الحركة مع رجال المال والصحافة والإعلام وقادة الرأي السياسي؛ كي تنجح هذه الفكرة، واستطاعت بمضيّ الزَّمن أن تحوّل حُلم الحركة الصهيونية العالمية إلى واقع، واقع يقف ضدّ حركة التَّاريخ. وقف العرب والمسلمون ضدّه، ولكن العالم الغربيَّ تعامل مع القضية للأسف الشديد بمنطق القوّة وليس بقوّة المنطق؛ فاستطاعت أجهزةُ الإعلام أن تثبِّت هذه الأكاذيب في العقليَّة والذهنيَّة الغربية بصفة عامة، بعد أن تبنّتْها السياسة الأمريكيَّة.
وانطلاقًا من هذا التَّآزر الغربي الأوربي الأمريكي مع الحركة الصهيونية اليهودية بواسطة الصهيونية الصليبية، وضعوا العرب والمسلمين في مآزق كثيرة، وأوقفوا عجلة النمو والتطور في المنطقة العربية كلها بل في العالم الإسلامي كله، وزرعوا دولة إسرائيل في المنطقة العربية أشبه بالزرع غير الطبيعي، نموّ غير طبيعي. دولة يهودية دينية عنصرية صليبية مائة في المائة تطرُد شعبًا بأكمله، وتُزرع في المنطقة العربية، فتَفصل بين شرق العالم الإسلامي وغرْبه، وبين شماله وجنوبه، وتقف كحجر عثرة ضدّ النمو الاقتصادي والثقافي والاجتماعي لهذه المنطقة.
ترتّب على ذلك: أنّ كلّ الاقتصاد العربي توقّف عن النمو، وأصبح موجّهًا لمواجهة إسرائيل في الحروب التي بدأت من سنة 1948م إلى الآن. وإسرائيل وراءها أمريكا وأوربا، والعرب لا سنَد لهم إلّا الله. تَحَكّم اليهود في الدعاية العالمية، وفي المقابل لم يكن للعرب ولا للمسلمين أيّ جهاز دعائي في الغرب ولا في أمريكا. وترتّب على هذا: أن الباطل الذي تدعو إليه الحركة الصهيونية أصبح حقًّا في نظر أوربا وأمريكا، وأنّ الحق التاريخي الذي يدعو إليه العرب وفلسطين والمسلمون أصبح باطلًا؛ لأنهم لا يَملكون وسائل الإعلام ولا وسائل الدعاية العالمية التي تمتلكها الحركة الصهيونية. ومن جانب آخر أصبح التّحكّم في اتّخاذ القرار في بلدان العالم الإسلامي محكومًا بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن، فأيّ قرار يتّخذه العرب ويطرحونه على مجلس الأمن لصالح القضية الفلسطينية تُبطله أمريكا بحقّ الفيتو.
هذه المواقف المتصلّبة من أمريكا ضدّ العرب وضدّ فلسطين أنهكت الاقتصاد العربي والاقتصاد الإسلامي، فوقفت عجلة النمو تمامًا؛ وبالتالي ظهرت مشكلات اجتماعية واقتصادية في العالم العربي نتيجةَ توقّف عجلة الاقتصاد وعجلة النمو الاقتصادي، في الوقت الذي تقف فيه أمريكا باقتصادها كلّه ودوَل أوربا باقتصادها وراء الحركة الصهيونية ووراء إسرائيل.
ومن جانبٍ آخَر أخذت الحركة الصهيونية تخترقُ كثيرًا من البلاد العربية والإسلامية بأجهزة الإعلام المرئيَّة والمسموعة، عن طريق القنوات الفضائية، فاغتالت القيم الأخلاقية في نفوس الشباب، وحطّمت كلّ معنى نبيل في عقول الشَّباب عن طريق الجاسوسية والصحافة والأندية والبث المباشر.
ترتّب أيضًا على هذا الموقف: أن كثيرين من أبناء الشعب الفلسطيني أُكرهوا على ترْك أرْضهم وديارهم إلى أرض أقاموا فيها شبْه لاجئين. ولهذه اللحظة لم يستطع العالم أن يَحُلّ هذه المشكلة. ونجد أن نفس الحركة الصهيونية الآن تبذل كلّ جهد للقضاء على كلّ محاولة للتقدم في العالم العربي، فضربت المُفاعل النووي العراقي في فترة حروبها مع إيران، وعارضت كثيرًا من صفقات الأسلحة التي تُباع للدول العربية من قِبَل الغرب ليظلَّ للحركة الصهيونية التفوّق العسكري على جميع البلاد العربية المحيطة بها، مع أنّ العرب منذ عام 1973م بادروا بعملية السلام وأخذوا يَمدّون أيديهم للحركة الصهيونية بالسلام، ولكن كالعادة اليهودية ليس لليهود وعْد ولا عهد ولا ذمّة.
ترتّب على هذا أيضًا: أنّ الحركة الصهيونية أصبحت لها دولة واقعية على الخريطة الجغرافية للعالم، واعترف بها جميع البلاد الأوربية وأمريكا طبعًا، وأصبحت الدول العربية تحاول أن تقتنص بعض الحقوق المشروعة من هذه الدولة، تقف أمامها أمريكا سدًّا منيعًا بحقّ الفيتو أحيانًا، وبالمراوغات السياسية مرة أخرى.
ولم تنتهِ هذه الحركة إلى الآن، بل نجحت في أنها صاغت ما يُمكن أن يسمّى بالحكومة الواحدة أو الحكومة التي تصدر قرارًا واحدًا تحكم به العالم من شرْقه إلى غرْبه. فالّذي يتأمّل الواقع المعاصر لنا الآن، يجد أنّ القرار الصهيوني أو القرار الأمريكي هو الذي يحكم حركة العالم من شماله إلى جنوبه ومن شرْقه إلى غربه؛ وبذلك تحقق أمر لم يكن في الحسبان وهو: إقامة الحكومة الواحدة التي تحْكم العالم بقرار واحد مصدره: النفوذ الصهيوني في أمريكا.