باب التأمين والجهر به مع القراءة، وباب حكم من لم يحسن فرض القراءة
أ. باب: التّأمين والجهر به مع القراءة:
1. حديث أبي هريرة:
عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: ((إذا أمّن الإمام فأمِّنوا؛ فإنّه من وافقَ تأمينُه تأمينَ الملائكةِ غُفر له ما تقدّم من ذنبه)) وقال ابن شهاب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول: ((آمين)). رواه الجماعة، إلّا أنّ الترمذي لم يَذْكر قول ابن شهاب.
وفي رواية: ((إذا قال الإمام: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين} [الفاتحة:7] فقولوا: “آمين”؛ فإنّ الملائكةَ تقول: “آمين”، وإنّ الإمام يقول: “آمين”؛ فمن وافقَ تأمينُه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدّم من ذنبه)). رواه أحمد والنسائي.
وفي الباب عن علي عند ابن ماجه، وعن بلال عند أبي داود، وعن أبي موسى عند أبي عوانة، وعن عائشة عند أحمد والطبراني وابن ماجه، وعن ابن عباسٍ عند ابن ماجه أيضًا، وفي إسناده طلحة بن عمْرو.
وقوله: ((إذا أمّن الإمام)): فيه مشروعية التأمينِ للإمام، وقد تعقِّب بأنّ القضية شرطية فـ: ((إذا)) للشّرط، فلا تدلّ على المشروعية. ورُدّ ذلك بأنّ ((إذا)) تشعِر بتحقيق الوقوع, كما صرّح بذلك أئمة المعاني عندما ذهبوا إلى التّفرقة بين “إذا” وبين “إنْ”؛ فـ: “إذا” إنّما تشعر بتحقق الوقوع -وقوع الجزاء، أمّا “إن” فتشعِر بعدم تحقق الوقوع -يعني: إن أمّن الإمام مثلًا، هذه تُشعِر بترجيحِ عدم التحقق. فهنا ((إذا)) تُشعر بتحقّق الوقوع, كما صرّح بذلك أئمة المعاني.
وقد ذهب مالك إلى: أنّ الإمام لا يؤمِّن في الجهرية. وفي رواية عنه مطلقًا. وكذا رُوي عن أبي حنيفة والكوفيّين. ولعلّهم ذهبوا إلى ذلك لأنّ: ((آمين)) ليست من (الفاتحة)، وليست من القرآن الكريم.
قال الشوكاني: “وأحاديث الباب تردُّ ما ذهب إليه مالك، وما ذهب إليه أبو حنيفةَ والكوفيون”.
وظاهر الرواية الثانية منه: أنّه يوقعه عند قول الإمام: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين} [الفاتحة: 7] حيث قال فيها: ((إذا قال الإمام: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين} فقولوا: “آمين”)).
وجمعَ الجمهور بين الروايتَيْن بأنّ المراد بقوله: ((إذا أمّن))، أي: أراد التأمين، لِيَقع تأمين الإمام والمأموم معًا.
وقيل: المراد بقوله: ((إذا قال: {وَلاَ الضَّالِّين} فقولوا: “آمين”))، أي: إذا لم يقل الإمام: “آمين”. وقيل: الأوّل لمن قَرُب من الإمام، والثاني لمن تباعد عنه؛ لأنّ جَهْر الإمام بالتأمين أخفض من جهره بالقراءة.
هذا عن قول المأموم: “آمين”، هل تكون مع الإمام، أو تكون بعد قوله: {وَلاَ الضَّالِّين} وقد أرادوا أن يجمعوا بينهما في ذلك؛ فقالوا: إنّ المراد بقوله: ((إذا أمّن)) أي: أراد التأمين، ليقع تأمين الإمام والمأموم معًا.
قال الحافظ: يُخالفه رواية معمر عن ابن شهابٍ بلفظ: ((إذا قال الإمام {وَلاَ الضَّالِّين}، فقولوا: “آمين”؛ فإنّ الملائكة تقول: “آمين”، والإمام يقول: “آمين”)).
قوله: ((فأمِّنوا)) استُدلّ به على مشروعية تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإمام، لأنّه رَتّبه عليه بالفاء، لكن قد تقدّم في الجمع بين الروايتَيْن: أنّ المراد المقارنة؛ وبذلك قال الجمهور.
وقوله: ((تأمين الملائكة)) قال النووي: “واختُلِف في هؤلاء الملائكة، فقيل: هم الحفظة. وقيل: غيرهم.
وقوله: ((آمين)) هو بالمدِّ والتخفيف في جميع الروايات، وعن جميع القُرّاء -يعني: التخفيف في الميم، فلا تُشدّد. وحَكَى أبو نصر عن حمزة والكسائي: الإمالة.
وفيه ثلاث لغاتٍ أخر شاذّة:
- القصر: حكاه ثعلب، وأنشد له شاهدًا، وأنكره ابن درستويه، وطعن في الشاهد بأنّه لضرورة الشعر، أي: “أمين”، وليس بالمدّ. وحَكَى عياض ومَن تبعه، عن ثعلب: أنّه إنّما أجازه في الشعر خاصّة.
- التشديد مع المدّ: “آمِّين”.
- التشديد مع القصر: “أمِّين”، وخطّأهما جماعة من أئمّة اللغة.
و”آمين” من أسماء الأفعال, التي تدل على الحدث كما تدلّ الأفعال على الحدث. ومعنى هذه الكلمة: اللهم استجِبْ، عند الجمهور.
هذا، والحديث من حيث أحكامه يدلّ على مشروعية التأمين.
وحَكَى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم: وجوبه على المأموم، عملًا بظاهر الأمر، لأنّ ظاهر الأمر للوجوب. وأوجبته الظاهريّة على كلِّ من يصلِّي.
والظاهر من الحديث: الوجوب على المأموم فقط، لكن لا مطلقًا، بل مقيّدًا بأن يؤمِّن الإمام.
ب. باب: حكم من لم يُحسن فرضَ القراءة:
حديث رفاعة بن رافع، وحديث عبد الله بن أبي أوفى:
عن رفاعة بن رافع: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, علّم رجلًا الصّلاة؛ فقال: إن كانَ معكَ قرآن، فاقرأْ، وإلّا فاحمد الله وكبِّره وهلِّلْه، ثم اركعْ)). رواه أبو داود والترمذي.
ثم قال: وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النّبي صلى الله عليه وسلم, فقال: ((إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن؛ فعلِّمني ما يُجزئُني، أو ما يجْزيِني. قال: قُلْ: “سبحان الله، والحمد لله, ولا إله إلا الله، والله أكبر, ولا حول ولا قوة إلا بالله”)). رواه أحمد، وأبو داود, والنسائي، والدارقطني، ولفظه: ((فقال: إنّي لا أستطيع أن أتعلّم القرآن؛ فعلِّمْني ما يجزيني في صلاتي)) فذكَره.
1. الحديث الأوّل: وهو عن رفاعة بن رافع: ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم علّم رجلًا الصلاة…)) إلى آخِره، هو طرفٌ من حديث المسيء صلاته، وأخرجه النسائي أيضًا، وقال الترمذي: “حديث رفاعة حسن”.
2. أما الحديث الثاني: وهو عن عبد الله بن أبي أوفى بمعناه، فأخرجه أيضًا ابن الجارود في (المنتقى)، وابن حبّان في (صحيحه), والحاكم في (مستدركه). وفي إسناده: إبراهيم بن إسماعيل السّكْسَكِي، وهو من رجال البخاري، لكن عِيب على البخاري إخراج حديثه، وضعّفه النسائي.
وقوله: ((فاحمَدِ الله…)) إلى آخِره، قيل: قد عيّن الحديث الثاني: لفظ الحمد والتكبير والتهليل المأمور به. ولا يَخْفى أنّه من التّقييد بموافِق المطلق, يعني: قد أطلِق هذا في بعض الأحاديث, وفي الحديث الأوّل حديث رفاعة: ((فاحمدِ الله وكبِّرْه وهلِّلْه))؛ فقيّد هذا باللّفظ: ((قلْ: سبحان الله، والحمد لله, ولا إله إلا الله، والله أكبر, ولا حول ولا قوّة إلا بالله)). فالحديث الأوّل مُطلق, والتّقييد وافَقَ المطلق في الحديث الثاني. -يعني: التقييد في الحديث الثاني وافق المطلق في الحديث الأوّل.
وقوله: ((إني لا أستطيع)) رواه ابن ماجه بلفظ: ((إنِّي لا أُحسِن من القرآن شيئًا)). قال شارح (المصابيح): “اعلم أنّ هذه الواقعة لا تجوز أن تكون في جميع الأزمان” -يعني: أن يتعلّل الرجل ذلك دائمًا, ويقول إنِّي لا أحسِن من القرآن شيئًا.
قال: لأنّ من يقدر على تعلُّم هذه الكلمات -يعني قوله: ((إني لا أستطيع))، أو قوله: ((إني لا أحسن من القرآن شيئًا))، معنى ذلك: أنّه يُجيد التعبير بالعربية, فيستطيع أن يَتعلّم هذه الكلمات، لأنّ من يقدر على تَعلُّم هذه الكلمات في قوله: ((إني لا أستطيع))، أو قوله: ((إني لا أُحسن من القرآن شيئًا))، أو من يستطيع أن يتعلّم: “سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر”، لا محالة يَقْدر على تعلُّم (الفاتحة)؛ بل تأويله وتفسير الحديث: لا أستطيع أن أتعلم شيئًا من القرآن في هذه الساعة، حتّى يستعدّ فيما بعد ذلك. وقد دَخَل عليّ وقت الصّلاة -يعني: يقول إنّي لا أستطيع أن أتعلّم شيئًا من القرآن في هذه الساعة, وقد دخل عليّ وقت الصلاة. فإذا فَرَغ من تلك الصلاة، لَزِمه أن يَتعلّم.
ومهما يَكُن من أمر، فالحديثان يدلّان على أنّ الذّكر المذكور يُجزئ مَنْ لا يستطيع أن يتعلّم القرآن، وليس فيه ما يقتضي التكرار -يعني: تكرار هذه الكلمات؛ فظاهرها: أنّها تَكْفي مرّة في كلِّ ركعة.