باب السجدة الثانية، ولزوم الطمأنينة في الركوع والسجود، وباب صفة الجلوس في التشهد، وباب تشهد ابن مسعود
أ. باب: السجدة الثانية ولزوم الطمأنينة في الركوع والسجود.
حديث أبي هريرة:
في هذا الباب حديث مهم جدًّا, حديث يحتاج له كثيرًا في بيان فروض الصلاة، وبيان ما لا تقوم الصلاة إلا به, وهو: ما يُصْطلح عليه بحديث المسيء صلاته. وقد جاءت روايتان في هذا الحديث: رواية عن أبي هريرة، وهي التي ذكرها الإمام مجد الدين ابن تيمية. ورواية أشرنا إليه, وأشار إليها الشوكاني فيما سَبَق, وهي: رواية رفاعة بن رافع.
الرواية الأولى عند الإمام مجد الدين ابن تميمة, والرواية الثانية عند الترمذي. وقد ذَكَر الترمذي أو رَوَى الترمذي هذا الحديث وذاك.
قال الإمام مجد الدين ابن تيمية -رحمه الله-: عن أبي هريرة: ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَل المسجد, فدخل رجُلٌ فصلّى, ثم جاء فسلّم على النّبي صلى الله عليه وسلم. فقال: “ارجعْ، فصلّ! فإنك لم تُصلَّ!” فرَجَع فصلّى كما صلّى, ثم جاء فسلّم على النّبي صلى الله عليه وسلم . فقال: “ارجعْ فصلِّ! فإنك لم تُصلِّ!”. فرجع فصلّى كما صلّى, ثم جاء فسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم . فقال: “ارجعْ فصلِّ! فإنّك لم تصلِّ!”. ثلاثًا. فقال: والذي بَعَثك بالحق! ما أُحْسِن غيره فعلِّمْني.
فقال: “إذا قُمت إلى الصلاة فكبِّرْ, ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن. ثم اركع حتى تطمئنّ راكعًا. ثم ارفع حتى تطمئنّ قائمًا. ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدًا. ثم ارفع حتى تطمئنّ جالسًا. ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدًا. ثم افعل ذلك في الصلاة كلها)). متفق عليه. أي: رواه البخاري ومسلم وأحمد, لكن ليس لمسلم فيه ذكْر السجدة الثانية. وفي رواية لمسلم: ((إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء, ثمّ استقبل القبلة فكبِّر…)) إلى نهاية الحديث.هذه هي رواية حديث المسيء صلاته عند أبي هريرة, وهي رواية متّفق عليها.
قال الإمام الترمذي في هذا الحديث: “هذا حديث حَسَن صحيح”. وقد رواه من طريق يحيى بن سعيد القطان, قال: حدّثنا عبيد الله بن عمر, قال: أخبرني سعيد ابن أبي سعيد, -أي: المقبري- عن أبيه، عن أبي هريرة.
ب. ما جاء في وصف الصلاة:
1. حديث رفاعة بن رافع:
ونقرأ عند الترمذي حديث رفاعة بن رافع: ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد يومًا, -قال رفاعة: ونحن معه، إذ جاءه رجل كالبدوي, فَصَلّى فأخَفّ صلاته. ثم انصرف فسلّم على النّبي صلى الله عليه وسلم . فقال النّبي صلى الله عليه وسلم : وعليك -أي: وعليك السلام. فارجعْ فصلِّ! فإنك لم تصلّ!. فرجع فصلّى، ثم جاء فسلّم عليه. فقال: وعليك. فارجعْ فصلّ! فإنك لم تصلّ!. ففعل ذلك مرّتَيْن أو ثلاثًا, كلّ ذلك يأتي النّبي صلى الله عليه وسلم فيسلّم على النّبي صلى الله عليه وسلم فيقول النّبي صلى الله عليه وسلم : وعليك. فارجع فصلِّ!, فإنك لم تصلِّ!. فَعاف الناس وكَبُر عليهم)).
وفي رواية عند الترمذي، أو في نُسخة عند الترمذي: ((فخاف الناس وكَبُر عليهم أنّ من أخفّ صلاته لم يُصلِّ)). فقال الرجل في آخِر ذلك: ((فأرني وعلِّمْني؛ فإنّما أنا بشر أصيب وأخطئ. فقال: أجل! إذا قمتَ إلى الصلاة فتوضّأْ كما أمرك الله, ثم تشهّدْ فأقم أيضًا. فإن كان معك قرآن فاقرأْ وإلّا فاحمد الله وكبِّرْهُ وهلِّلْه. ثم اركع فاطمئنّ راكعًا. ثم اعتدل قائمًا. ثم اسجدْ فاعتدلْ ساجدًا. ثم اجلسْ فاطمئنّ جالسًا. ثم قُمْ. فإذا فَعَلْتَ ذلك، فَقَد تمّت صلاتك, وإن انتقَصْتَ منه شيئًا انتقصتَ من صلاتك. قال: وكان هذا أهون عليهم من الأولى, أنه من انتقص من ذلك شيئًا، انتقص من صلاته ولم تذهب كلّها)).
قال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة -أي: الذي قرأناه والذي سيأتي عنده- وعمار بن ياسر. ثم قال: حديث رفاعة بن رافع حديث حسن, قال: وقد رُوي عن رفاعة هذا الحديث من غير وجه.
قال الشوكاني: الحديث فيه زيادات وله طُرق, وسنشير إلى بعضها عند الكلام على مفرداته.
قال: وفي الباب عن رفاعة بن رافع -وهو الذي قرأناه الآن- وأبي داود والنسائي, وعن عمار بن ياسر أشار إليه الترمذي, وقد ذكرنا ذلك.
وقوله: “فدخل رجل” هو: خلاد بن رافع، كذا بيّنه ابن أبي شيبة.
قوله في حديث أبي هريرة: “فدخل رجل فصلى”، زاد النسائي: “ركعتَيْن”, -أي: “فصلّى ركعتَيْن”. وفيه: إشعار بأنه صَلّى مَثْنى. قال الحافظ ابن حجر: “والأقرب: أنها تحية المسجد.”
وقوله: “ثم جاء فسلّم”، زاد البخاري: “فرَدّ النبي صلى الله عليه وسلم “. وفي مسلم, وكذا البخاري في: الاستئذان،” من رواية ابن نُمير: ((فقال: وعليك السلام)). وهذه الزيادة تَرُدّ ما قاله ابن المنيّر من أنّ الموعظة في وقت الحاجة أهمّ من ردّ السلام.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((فإنك لم تصلّ)): قال عياض: “فيه: أن أفعال الجاهل في العبادة عن غير عِلْم لا تُجزئ”. أي: لا يُعذر الجاهل بذلك؛ وهذا مبنيّ على أن المراد بالنفي: نَفْي الإجزاء, وهو الظاهر. -يعني: ((لم تُصلِّ!)) يعني: لم تصحّ صلاتك، ولم تجزئ عنك. ومن حَمَله على نَفْي الكمال، تمسّك بأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة بعد التعليم؛ فدلّ على إجزائها، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ كذا قال بعض المالكية.
وقد احتجّ بتوجّه النفي إلى الكمال بما وقع في بعض روايات الحديث, عند أبي داود والترمذي، من حديث رفاعة الذي قرأناه قريبًا بلفظ: ((فإن انتقصتَ منه شيئًا، انتقصتَ من صلاتك)). يعني: انتقصت شيئًا ممّا علّمتك إياه، انتقصت من صلاتك. ((وكان هو أهون عليهم من الأوّل))، أي: أنهم كانوا أوّلًا فَهِموا أنّ الصلاة غير مُجزئة, فلمّا قال ذلك صلى الله عليه وسلم كان ذلك أهون عليهم؛ لأنّ معناه -كما في الحديث- أنه مَن انتقص من ذلك شيئًا انتقص من صلاته ولم تذهب كلّها. قالوا: والنقص لا يستلزم الفساد، وإلا لزم في ترك المندوبات لأنها تُنتقص بها الصلاة، ومع ذلك لا تفسد.
قال الشوكاني: وقد جعل صاحب (ضوء النهار) نفي التمام هنا هو نفي الكمال بعينه, واستَدلّ على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء -أي: في حديث رفاعة: ((فإن انتقصتَ من ذلك شيئًا، فقد انتقصتَ من صلاتك)).
ورَدّ الشوكاني مبيِّنًا أنّ النفي هنا نفي الصحة أو نفي الذات. قال: لا يخفاك أنّ الحجة في أن الذي جاءنا عن الشارع من قوله وفعله وتقريره, لا في فهم بعض الصحابة، لو سلّمنا أن فهمهم حُجّة لكونهم أعرف بمقاصد الشارع, فنحن نقول بموجب ما فهموا، ونُسلّم أنّ بين الحالتَيْن تفاوتًا. -يعني: بين قوله: ((لم تُصلّ)) وبين قوله: ((فانتقصت من ذلك شيئًا، فقد انتقصت من صلاتك))- ولكنّ ذلك التفاوت من جِهة أنّ من أتى ببعض واجبات الصلاة فقد فَعَل خيرًا من قيام وذكْر وتلاوة, وإنما يُؤمر بالإعادة لِدفع عقوبة ما تَرَك؛ فَترْك الواجب سبَبٌ للعقاب. فإذا كان يعاقَب بسبب ترك البعض, لزمه أن يفعله؛ إن أمكن فَعَله وحده، وإلا فعَله مع غيره، والصلاة لا يمكن المتروك منها إلا بفعل جميعها.
وقوله: ((ثلاثًا)), يعني: أرجعه ثلاث مرات, في رواية للبخاري: ((فقال في الثالثة أو في التي بعدها)), ((فقال في الثانية أو في الثالثة)), ورواية الكتاب أرجح لعدم الشك فيها -أي: الرواية التي معنا في كتاب (المنتقى) لابن تيمية، والتي قرأناهأ. ولكونه- صلى الله عليه وسلم كان من عادته استعمال الثلاث في تعليمه. والرجل هنا في مقام التعليم حتى في إرجاعه هذا من مراحل التعليم.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((إذا قمت إلى الصلاة، فكبِّرْ))، وفي رواية للبخاري: ((إذا قمتَ إلى الصلاة فأسْبغ الوضوء, ثمّ استقبل القبلة، فكبِّرْ)). وهي في (مسلم) أيضًا كما قال المصنِّف مجد الدين ابن تيمية. وفي رواية للبخاري أيضًا والترمذي وأبي داود: (( فتوضّأْ كما أمَرك الله, ثم تشهّد، وأقِمْ)). والمراد بقوله: ((ثم تشهّد)): الأمر بالشهادتَيْن عقب الوضوء، لا التشهد في الصلاة؛ كذا قال ابن رسلان. وهو الظاهر من السياق؛ لأنه جَعَله مرتّبًا على الوضوء، ورتّب عليه الإقامة والتكبير, وذلك قبل الدخول في الصلاة بالإقامة؛ وإنما يَدْخل في الصلاة بالتكبير والقراءة. فقد جَعَله مرتّبًا على الوضوء، ورتّب عليه الإقامة والتكبيرة والقراءة, كما في رواية أبي داود. والمراد بقوله: ((وأقِمْ)): الأمر بالإقامة.
وظاهر قوله: ((فكبِّرْ)) في رواية حديث الباب: وجوب تكبيرة الافتتاح. وقد تقدّم الكلام على ذلك في أوائل أبواب: صفة الصلاة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ثم اقرأْ ما تيسّر معك من القرآن))، في رواية لأبي داود والنسائي من حديث رفاعة: ((فإن كان مَعَك قرآن فاقرأْ، وإلا فاحْمَد الله تعالى وكبِّرْه وهلِّلْه)).
الذي معنا من رواية أبي هريرة: ((ثم اقرأْ ما تَيَسّر معك من القرآن)), ولكن في رواية رفاعة عند أبي دواد والنسائي: ((فإن كان معك قرآن فاقرأْ, وإلّا فاحْمد الله تعالى وكبِّرْه وهلِّلْه)). وفي رواية لأبي داود من حديث رفاعة: ((ثم اقرأ بـ”أمّ القرآن”, وبما شاء الله)). وقد تمسّك بحديث الباب من لم يوجب قراءة الفاتحة في الصلاة. فحديث الباب فيه: ((ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن)), وحتى في بعض روايات رفاعة -كما قلنا. عند أبي داود والنسائي: ((فإن كان معك قرآن فاقرأ, وإلا فاحْمَد الله تعالى وكبِّرْه وهلِّلْه)), ولكنّ روايات أخرى عند أبي داود من حديث رفاعة, -كما ذكرنا: ((ثم اقرأ بـ”أمِّ القرآن” وبما شاء الله)). قلنا أيضًا: إنه عند أحمد وابن حبان: ((ثم اقرأْ بـ”أمِّ القرآن”، ثم اقرأ بما شئت)).
قال الشوكاني: وأجيب عن حديث الباب بأن قراءة الفاتحة ليست بواجبة, أجيب عنه بهذه الروايات المصرّحة بـ”أمّ القرآن”, من روايات حديث رفاعة. وقد تقدم البحث عن ذلك في باب: وجوب قراءة الفاتحة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ثم اركعْ حتى تطمئِنّ))، في رواية لأحمد وأبي داود: ((فإذا ركعتَ فاجْعَل راحتَيْك على رُكبتَيْك، وامدد ظهرك، ومَكِّن ركوعك)), وفي هذا تفصيلٌ أو تفسيرٌ لقوله في روايتنا: ((ثم اركعْ حتى تطمئنّ))؛ فهذا يُبيِّن كيفية الاطمئنان.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ثم ارفعْ حتى تعتدل قائمًا))، في رواية لابن ماجه:((ثم ارفعْ حتى تطمئنّ قائمًا))، وهي على شرط مسلم، وأخرجها إسحاق بن راهويه في مسنده، وأبو نعيم في مستخرجه، والسراج عن يوسف بن موسى أحد شيوخ البخاري.
قال الحافظ ابن حجر:فثبت ذِكْر الطمأنينة في الاعتدال على شرط الشيخَيْن, ومثله في حديث رفاعة عند أحمد وابن حبان, وفي لفظ لأحمد: ((فأقِم صُلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها)). وهذه الروايات تَرُدّ مذهبَ مَنْ لم يُوجب الطمأنينة. وقد تقدّم الكلام في ذلك في الدرس السابق.
وقوله: ((ثم اسجدْ حتى تطمئنّ ساجدًا)): فيه دليل على وجوب السجود، وهو إجماع, ووجوب الطمأنينة فيه, خِلافًا لأبي حنيفة حيث يقول بمجرد الركوع والسجود. وكما قيل: إنه يستَدلّ بقوله في القرآن: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}
[الحج:77]. فمجرّد الركوع والسجود إتيان بالفريضة. وقد فصّلنا القول في ذلك، وبيّنّا أنه رُوي عن أبي حنيفة غير ذلك, كما ذَكَر الطحاوي.
وقوله: ((ثم ارفعْ حتى تطمئنّ جالسًا))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ثم ارفعْ حتى تطمئنّ جالسًا)): فيه دَلالة على وجوب الرفع والطمأنينة فيه, ولا خلاف في ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ثمّ اسجدْ حتى تطمئنّ ساجدًا)): فيه أيضًا وجوب السجود والطمأنينة فيه, ولا خلاف في ذلك. وقد استدل بهذا الحديث على عدم وجوب قَعْدة الاستراحة، لأنه لم يذكرها.
قال الشوكاني: وقد استُدل بالحديث على: عدم وجوب الإقامة، يعني: حديث أبي هريرة، وحديث رفاعة بن رافع, وإن كان جاء في بعض روايته وجوب الإقامة؛ لكن هذا كان معروفًا قبل ذلك أنه ليس واجبًا, ودعاء الافتتاح، ورفع اليديْن في الإحرام وغيره, ووضع اليمنى على اليسرى, وتكبيرات الانتقال، وتسبيحات الركوع والسجود، وهيئات الجلوس, ووضْع اليد على الفخذ، والقعود، ونحو ذلك…
وللحديث فوائد كثيرة”. قال أبو بكر ابن العربي: “فيه أربعون مسألة”. ثم سَرَدها، وذلك في كتابه (عارضة الأحوذي) التي هي شرح للترمذي, وموضعها عند كلامه على حديث أبي هريرة وحديث رفاعة, كما ذُكر في الترمذي، والذي قرأناه عند الترمذي.
بعض فوائد الحديث التي ذكرها ابن حجر في (الفتح):
استدل به على وجوب الطمأنينة في الأركان, واعتذر بعض من لم يقل به بأنه زيادة على النّص -كما قلنا: الذي وَرَد في النص القرآن الكريم: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}- فالمأمور في القرآن مطلق السجود، فيصدق بغير طمأنينة، فالطمأنينة زيادة, والزيادة على المتواتر -وهو القرآن الكريم- بالآحاد، لا تُعتبر.
قال: الذين لا يقولون بعدم وجوب الطمأنينة في الأركان: إنّ الذي وَرَد في القرآن الكريم, هو مطلق السجود ومطلق الركوع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، وهذا متواتر، فلا يُعارَض بالحديث الذي معنا. ولكن ردّ عليهم بأنها ليست زيادة, لكن بيان للمراد بالسجود، -فـ{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} أي: اطمئنّوا في الركوع والسجود. وهكذا فليست زيادة بالآحاد على القرآن الكريم المتواتر, وأنّه خالف السّجود اللغوي. يعني: السجود المأمور به في القرآن الكريم, ليس هو السجود اللغوي, وإنما هو السجود الشّرعي؛ لأنه -أي: السجود اللغوي- مجرّد وَضْع الجبهة, فبيّنت السّنّة: أن السجود الشرعي ما كان بالطمأنينة, أي: لا يتحقق بها شرعًا إلا بطمأنينة. ويؤيِّده: أنّ الآية نزلت تأكيدًا لوجوب السجود. وكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه يصلّون قبل ذلك, ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يُصلِّي بغير طمأنينة.
وعلى هذا، فليس الحديث زيادة على ما في كتاب الله, وإنما هو بيان له، وهو تأكيد لوجوب السجود لا بكيفيته بوجود الاطمئنان فيه.
قال ابن حجر: وفي هذا الحديث من الفوائد: وجوب الإعادة على مَن أخلّ بشيء من واجبات الصلاة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر الرجل بالإعادة، لأنه أخلّ بشيء من موجبات الصلاة وهو الاطمئنان.
وفيه: أن الشروع في النافلة مُلزِم.
قال ابن حجر: وفي الحديث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى منكرًا، فأمر بالمعروف من الصلاة التامة الكاملة, ونهى عن المنكر الذي فعله ذلك الرجل وهو يصلّي.
وفيه: حسن التعليم بغير تعنيف؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علّمه دون أن يُعنِّفه.
وفيه: إيضاح المسألة، وتخليص المقاصد؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اختصر له على الواجبات.
وفيه: طلب المتعلِّم من العالِم أن يُعلِّمه، كما فَعَل هذا الرجل، وكما طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه: تكرار السلام وردّه، وإن لم يخرج من المواضع, إذا وقع صورة انفصال. -يعني الموضع واحد، الذي كان فيه، صلى الله عليه وسلم ، والرجل- لكن وقع صورة الانفصال بأن ذهب وصَلّى ثم جاء.
وفي الحديث: جلوس الإمام في المسجد، وجلوس أصحابه معه، كما يدلّ عليه ذلك الحديث.
وفيه: التسليم للعالِم والانقياد له, والاعتراف بالتقصير، والتصريح بحُكم البشرية في جواب الخطأ؛ وكل هذا حديث من الرجل ليعلِّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيه: حُسن خُلقه صلى الله عليه وسلم ولطف معاشرته. وهذا واضح.
وفيه: تأخير البيان في المجلس للمصلحة, فلم يُبيِّن له من أوّل الأمر، وإنما بيّن له بعد أن أرجعه ليصلِّي مرة ومرتيْن وثلاث. وقد استشكل تقرير النبي صلى الله عليه وسلم على صلاته الفاسدة. يعني: ترَكه يصلِّي والصلاة فاسدة على ذلك؛ لأنه ترك فيها بعض الواجبات, وهي فاسدة على القول بأنه أخلّ ببعض الواجبات. وأجاب المازري: عن ذلك -عن هذا الاستشكال- بأنه أراد استدراجه بفعل ما يجهله مرات, لاحتمال أن يكون فعَله ناسيًا أو غافلًا, فيتذكّره فيفْعله من غير تعليم.
وفي الحديث: حجّة على من أجاز القراءة بالفارسية, لكون ما ليس بلسان العرب لا يُسمّى قرآنًا. يعني: المترجَم القرآن الذي تُرجم إلى لغة أخرى لا يسمّى قرآنًا، وإنّما هو تفسير أو غير ذلك؛ قاله القاضي عياض.
والحقّ أنّ هذا الحديث له أهمية كبرى، ويحتاج إلى دراسات مستفيضة, لِما له من فوائد جمّة في الصلاة وغيرها.
2. حديث أبي قتادة:
عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أشرّ الناس سرقة: الذي يسرق من صلاته. فقالوا: يا رسول الله, وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتمّ ركوعها ولا سجودها. -أو قال: ولا يُقيم صلبه في الركوع والسجود)). رواه أحمد .
ولأحمد من حديث أبي سعيد مثْله, إلا أنه قال: ((يسرق صلاته)).
وفيه: أنّ ترك إقامة الصلب في الركوع والسجود جَعَله الشارع من أشرِّ أنواع السرقة. وجَعَل الفاعل لذلك أشر من تلبّس بهذه الوظيفة الخسيسة, التي ما لا أوضع ولا أخبث منها, تنفيرًا عن ذلك وتنبيهًا على تحريمه. وقد صرّح صلى الله عليه وسلم بأنّ صلاة من لا يُقيم صُلبه في الركوع والسجود غير مجزئة, كما أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه النسائي وابن ماجه, من حديث أبي مسعود, بلفظ: ((لا تُجزئ صلاة الرّجل حتى يقيم ظهرَه في الركوع والسجود))، ونحوه عن علي بن شيبان عند أحمد وابن ماجه.
وقد تقدّم في باب: أنّ الانتصاب بعد الركوع فَرْض، وقد تكلّمنا على هذيْن الحديثَيْن وشرحناهما, وبيّنا: أنّ معنى هذا: أنّ الصلاة غير صحيحة, وأنّ عدم الإجزاء هنا يعني: عدم الصحة. والأحاديث في هذا الباب كثيرة, وكلها تردّ على من لم يوجب الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال منهما. وكما سَبَق أنّ الذين يقولون بذلك هُم: الحنفية الذين يقولون: إنّ القرآن الكريم أمَرَ بمطلق أو بمجّرد الركوع والسجود, وأحاديث الآحاد هذه زيادة على القرآن الكريم.
وعلى الرّغم من أنّ هذه الأحاديث ترُدّ عليهم, فقد بيّنا أنّ النّص على الطمأنينة في الركوع والسجود, ليس فيه زيادة على كتاب الله تعالى, وإنّما هي بيانٌ له وليست زيادة.
ب. باب: صفة الجلوس في التشهد.
1. حديث وائل بن حجر:
عن وائل بن حجر: ((أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلِّي, فسجد ثم قعد فافترش رجْله اليسرى)). رواه أحمد وأبو داود والنسائي, وفي لفظ لسعيد بن منصور في سننه: ((صليت خَلْف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قَعَد وتشهّد, فرش قدمَه اليسرى على الأرض وجلس عليها)).
2. حديث رفاعة بن رافع:
وقد ذكر الإمام مجد الدين ابن تيمية مثْل هذا عن رفاعة بن رافع: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: ((إذا سجدتَ فَمكِّن لسجودك, فإذا جلست فاجلسْ على رجلك اليسرى)). رواه احمد. وهذا جزء من الحديث المشهور للمسيء صلاته من رواية رفاعة بن رافع، وقد ذكرناه قبل قليل.
قال الإمام الشوكاني -رحمه الله-: حديث وائل أخرجه أيضًا ابن ماجه، والترمذي وقال: “حسن صحيح”. وحديث رفاعة أخرجه أبو داود باللّفظ الذي سَبق في باب الأول, ولا مَطْعن في إسناده. وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة وابن حبان.
وقد احتجّ بالحديثَيْن القائلون باستحباب فَرْش اليسرى ونصب اليمنى في التّشهد الأخير, وهم: زيد بن علي، والهادي، والقاسم، والمؤيد بالله, وأبو حنيفة وأصحابه، والثوري.
وقال مالك والشافعي وأصحابه: “إنّه يَتَورّك المصلي في التشهد الأخير”. وقال أحمد بن حنبل: “إن التورك يختص بالصلاة التي فيها تشهُّدان”. واستَدّل الأوّلون أيضًا بما أخرجه الترمذي وقال: “حسن صحيح” من حديث أبي حُميد الساعدي: ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جَلَس -يعني: للتّشهد. فافترش رجله اليسرى, وأقبل بصدور اليمنى على قِبْلته)). ونصّه كما أورده مجد ابن تيمية في هذا الباب قال: ((فإذا جَلَس في الرّكعتَيْن، جلس على رجْله اليسرى ونصب اليمنى. فإذا جلس في الركعة الأخيرة، قدّم رجْله اليسرى, ونَصَب الأخرى وقَعَد، على مقعدته)). رواه البخاري. ومن هذا، يَتَبيّن: أنّ افتراش رجله اليسرى وإقباله بصدور اليمنى على قِبلته, إنّما كان في التّشهد الأوسط دون الأخير. وعلى كل حال، فقد احتجّوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت في هذا الحديث: ((وكان يفرش رجله اليسرى, وينصب رجله اليمنى)).
وَوَجْه الاستدلال بهذيْن الحديثَيْن وبحديث الباب: أنّ رواتها ذكروا هذه الصّفة لجلوس التشهد, ولم يقيّدوه بالأوّل. واقتصارهم عليها من دون تعرّض لذكْر غيرها, مشعر بأنها هي الهيئة المشروعة في التشهديْن جميعًا. هذا عن الرواية التي أوردها الشوكاني بالنسبة لحديث أبي حميد.
قال الشوكاني: ولو كانت مختصة بالأول، لذكروا هيئة التشهد الأخير ولم يهملوه، لاسيما وهم بصدد بيان صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصدد تعليمه لِمَن لا يُحسن الصلاة؛ فعُلم بذلك: أنّ هذه الهيئة شاملة لهما.
ونذكّر بأنّ ما أورده مجد الدين ابن تيمية لحديث أبي حُميد, فرّق بين الجلستيْن: ((فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدّم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته)). رواه البخاري .
وإن كان مجد الدين ابن تيمية قد أشار إلى رواية أخرى, قال: وقد سَبق لغيره بلفظ أبسط من هذا, وكأنه يشير إلى ما سبق من الأحاديث التي نحن بصدد الكلام عليها.
ويمكن أن يقال: إن هذه الجلسة التي ذَكَرها -التي ذكر هيئتها أبو حميد في هذا الحديث- جلسة التشهد الأول, بدليل حديث الآتي الذي ذَكرناه, وقُلنا: إنّه فرّق بين الجلستَيْن؛ فإنّه وَصَف هيئة الجلوس الأوّل بهذه الصفة, ثمّ ذَكَر بعدها هيئة الجلوس الآخَر, فَذَكر فيها التّورك. واقتصاره على بعض الحديث في هذه الرواية ليس بمنافٍ لِمَا ثَبَت عنه في الرواية الأخرى, لا سيما وهي ثابتة في (صحيح البخاري). ولا يُعدّ ذلك الاقتصار إهمالًا لبيان هيئة التشهد الأخير في مقام التصدي لصفة جميع الصلاة؛ لأنه رُبما اقتصر من ذلك على ما تدعو الحاجة إليه, وهو: بيان جلسة التشهد الأول.
ويقال: في حديث رفاعة المذكور ها هنا, إنّه مُبيّن بروايته المتقدمة في الباب الأول. وأمّا حديث وائل وحديث عائشة رضي الله عنها وهما مُطلقان, فقد أجاب عنهما القائلون بمشروعية التورك في التشهد الأخير، بأنهما محمولان على التشهد الأوسط؛ جمعًا بين الأدلّة، لأنّهما مطلقان عن التّقيِيد بأحد الجلوسَيْن, وحديث أبي حُميد مُقيّد, وحَمْل المطلق على المقيد واجب.
قال الإمام الشوكاني: ولا يَخْفاك أنه يبعد هذا الجمع: ما قدّمنا من أن مقام التصدي لبيان صفة صلاته صلى الله عليه وسلم يأبَى الاقتصار على ذكر هيئة أحد التشهديْن, وإبطال الآخر، مع كونه صفته مخالفة لصفة المذكور، لا سيما حديث عائشة,؛ فإنها قد تعرّضت فيه لبيان الذكْر المشروع في كل ركعتيْن, وعقّبت ذلك بذكر هيئة الجلوس؛ فمِن البعيد أنْ يُخصّ بهذه الهيئة أحدهما ويُهمَل الآخر. ولكنه يلوح من هذا: أن مشروعية التورك في الأخير آكد من مشروعية النصب -نصب اليمنى والفَرش، أي: افتراش اليسرى. وأمّا أنه ينفي مشروعية النصب والفرش، فلا. -يعني: يكون هذا جائزًا وهذا جائزًا, وإن كان مشروعية التّورك آكد. قال الإمام الشوكاني: وأمّا أنه ينفي مشروعية النصب والفرش, -يعني: نصب اليمنى وفرش اليسرى في الجلوس عليها. فلا ينفي ذلك، وإن كان حقّ حَمْل المطلق على المقيد هو ذلك، لكنه مَنَع من المصير إليه ما عرّفناك. والتفصيل الذي ذَهَب إليه الإمام أحمد يرُدّه قولُ أبي حميد في حديثه الآتي: ((فإذا جلس في الركعة الأخيرة)). وفي رواية لأبي داود: ((حتى إذا كانت السجدة فيها التسليم…)) إلخ. -يعني: التشهد الأخير.
قد اعترض ابن القيم عن ذلك بما لا طائل تحته. وقد ذَكَر مسلم في صحيحه من حديث ابن الزبير: صِفَة ثالثة لجلوس التشهد الأخير, وهي: ((أنه صلى الله عليه وسلم كان يَجْعل قَدَمه اليسرى بين فَخِذه وساقه، ويفرش قدمه اليمنى)). واختار هذه الصّفة أبو القاسم الخِرَقي في مصنّفه. ولعلّه صلى الله عليه وسلم كان يَفْعل هذا تارة.
وقد وَقَع الخلاف في الجلوس للتّشهد الأخير, هل هو واجب أم لا؟ فقال بالوجوب: عمر بن الخطاب، وأبو مسعود الأنصاري، وأبو حنيفة، والشافعي، ومن أهل البيت: الهادي، والقاسم، والناصر، والمؤيّد بالله. وقال علي بن أبي طالب، والثوري، والزهري، ومالك: إنه غير واجب. استَدلّ الأوّلون بملازمته صلى الله عليه وسلم له. واستَدلّ الآخرون بأنه صلى الله عليه وسلم لم يعلّمه المسيء، وهو قد علّمه الواجبات, وكونه لم يُعلّم المسيء ذلك كان ذلك دليلًا على أنه ليس من الوجوب. ومُجرّد أنه صلى الله عليه وسلم كان يلازم ذلك لا تفيد الوجوب, وهذا هو الظاهر لا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء بعد أن علّمه: ((فإذا فعلت هذا، فقد تمّتْ صلاتك)). ولا يُتوهّم أنّ ما دلّ على وجوب التسليم دلّ على وجوب جلوس التشهد؛ لأنه لا ملازمة بينهما.
ونقول: إنّ بعض ما لازمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته ليس واجبًا, كما هو معروف في فروع الفقه.
جـ. باب: ذكْر تشهّد ابن مسعود وغيره.
1. حديث ابن مسعود.
وقد أورد الإمام مجد الدين ابن تيمية في هذا الباب حديثَيْن. أوّلًا: حديث ابن مسعود. والثاني: حديث ابن عباس. والكلام عليهما سواء، إلّا في قليل من الاختلاف؛ ولذلك سنقرؤهما ونتكلّم عنهما معًا، إن شاء الله تعالى.
قال الإمام مجد الدين ابن تيمية: عن ابن مسعود قال: ((علّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفّي بين كفّيْه, كما يُعلِّمني السورة من القرآن: التحيات لله، والصلوات والطّيِّبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله)). رواه الجماعة. وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قَعَد أحدُكم في الصلاة, فليقلْ: التحيّات لله…)). وذكَره. وفيه عند قوله: ((وعلى عباد الله الصالحين. فإنّكم إذا قُلتم ذلك فقد سلّمتم على كلِّ عبد لله صالح في السماء والأرض)). وفي آخِره: ((ثم يَتخيّر من المسألة ما شاء)). متّفق عليه.
ولأحمد من حديث أبي عُبيدة، عن عبد الله أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود, عن عبيد الله، قال: علّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد، وأمره أن يُعلّمه الناس: ((التحيات لله…)) وذكَره. قال الترمذي: “حديث ابن مسعود أصحّ حديث في التشهد, والعمل عليه عند أكثر أهل العِلْم من الصحابة والتابعين”. أمّا الرواية الآخِرة، فهي من رواية أبي عبيدة, عن عبد الله أبيه, ويقال: إنّه لم يسمع من أبيه.
وقد رَوَى التّشهُّد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة غير ابن مسعود، منهم: ابن عبّاس -وسنقرؤه بعد قليل. ومنهم جابر، أخرج حديثه النسائي وابن ماجه, والترمذي في (العلل)، والحاكم، ورجاله ثقات. ومنهم عُمَر, أخرج حديثه مالك، والشافعي, والحاكم، والبيهقي, رُوي مرفوعًا.
وممّن رَوَى حديث التشهد غير ما سبق: أبو هريرة. قال الحافظ: “وإسناده صحيح”.
وقوله: ((التّحيّات لله)) هي: جمع “تحيّة”. قال الحافظ ابن حجر: ومعناها: السلام.
وقوله: ((والصلوات)) قيل: المراد: الصلوات الخمس. وقيل: أعمّ. وقيل: العبادات كلّها. وقيل: الدعوات. وقيل: الرحمة.
وقوله: ((والطيبات)) قيل: هي: ما طاب من الكلام. وقيل: ذكْر الله، وهو أخص؛ لأنّ ما طاب من الكلام يشتمل على ذِكْر الله وغيره.وقيل الأعمال الصالحة وهو أعم.
وقوله: ((السّلام)). قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير): أكثر الروايات فيه -يعني: في حديث ابن مسعود. بتعريف: ((السلام)) في الموضعَين: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)). وَوَقَع في رواية للنسائي: ((سلام علينا)). يعني: وعلى عباد الله الصالحين، بالتنكير.
وفي رواية للطبراني: ((سلامٌ عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته)). بالتنكير. وقال الحافظ في (الفتح): “لم يَقَع في شيء من طُرق حديث ابن مسعود, بحذف الألف واللّام” -أي: في: ((السلام))- بحيث تكون نكِرة- وإنما اختُلف في ذلك في حديث ابن عباس الآتي.
قال البيضاوي: علّمهم صلى الله عليه وسلم أن يُفردوه صلى الله عليه وسلم بالذّكر، لِشَرفه ومزيد حقّه عليهم. ثم علّمهم أن يخصُّوا أنفسهم؛ لأنّ الاهتمام بها أهمّ. ثمّ أمَرهم بتعميم السلام على الصالحين, إعلامًا منه بأنّ الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملًا لهم. انتهى.
والمراد بقوله: ((ورحمة الله)): إحسانه. وقوله: ((وبركاته)): زيادته من كل خير؛ قاله الحافظ ابن حجر.
وقوله: ((وأشهد أن لا إله إلا الله))، زاد ابن أبي شيبة: ((وحده لا شريك له))، قال الحافظ في (الفتح): وسنده ضعيف, لكن ثَبَتَت هذه الرواية في حديث أبي موسى عند مسلم. يعني: إذا لم تكن هذه الزيادة ثَبَتت في حديث ابن مسعود وسندها ضعيف, لكنّها ثبتت في حديث أبي موسى عند مسلم، فهي صحيحة, وفي حديث عائشة الموقوف في (الموطأ), وفي حديث ابن عمر عند الدارقطني وعند أبي داود, عن ابن عُمر أنّه قال: “زِدتُ فيها: “وحده لا شريك له”. وإسناده صحيح.
وقوله: ((وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله)): سيأتي في حديث ابن عباس بدون قوله: ((عبده)). وقد أخرج عبد الرزاق عن معطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمَرَ رجلًا أن يقول: “عبدُه ورسوله)). ورجاله ثقات لولا إرسالُه. وعلى كل حال يمكن أن تُقوّى هذه الرواية المرسلة بهذا الحديث الذي معنا.
وقوله: ((فإنّكم إذا فعلتم ذلك))، في لفظ للبخاري: ((فإنكم إذا قُلتموها))، والمراد قوله: ((وعلى عباد الله الصالحين)). وهو كلام مُعترَض بين قوله: ((الصالحين)). وبين قوله: ((أشهد)).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((على كلِّ عبد صالح)) يعني في قوله: ((السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فإنكم إذا قلتم ذلك فقد سلّمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض)). استُدلّ به على أن الجمع المضاف والجمع المحلّى باللام؛ -يعني: بالألف واللام- يعمّ.
وقوله: ((في السماء والأرض)) -في رواية: ((بين السماء والأرض))- أي: على كل عبد صالح في السماء والأرض, أو بين السماء والأرض. أخرجها الإسماعيلي وغيره. -يعني رواية: ((بين السماء والأرض)).
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((ثم يتخيّر من المسألة ما شاء)).
قال الشوكاني: قد قدّمنا في باب: الأمر بالتشهد الأوّل: اختلاف الروايات في هذه الكلمة. وقد بين الشوكاني ذلك في باب الأمر بالتشهد الأوّل, وسقوطه بالسهو, فقال: وأمّا الزيادة في قوله: ((ثم ليتخيّر أحدُكم مِن الدّعاء أحبّه إليه، فلْيدْعُ به ربّه عز وجل )). وهذا في حديث ابن مسعود في التشهد الأوسط. وقد رواه احمد والنسائي. قال: وأمّا الزيادة في قوله: ((ثم ليتخيّر…)) إلى آخِر الحديث، فأخرجها البخاري بلفظ: ((ثم ليتخيّرْ أحدُكم مِن الدعاء أعجَبَه إليه، فيدْعو به)). وفي لفظ له: ((ثم يتخيّر من الثناء ما شاء)). وأخرجها أيضًا مسلم بلفظ: ((ثم ليتخيّر من المسألة ما شاء)). وفي رواية للنسائي عن أبي هريرة: ((ثم ليَدْعُ لنفسه بما بدا له)). قال الحافظ: “إسنادها صحيح”. وفي رواية أبي داود: ((ثم ليتخيّرْ أحدُكم من الدعاء أعجبَه إليه)). وقد قرأنا ذلك عند الشوكاني؛ لأننا لم نتعرّض لهذا الحديث في ذلك الباب قبل ذلك.
قال الشوكاني: وفي ذلك -يعني: ((ثم ليتخير من المسألة ما شاء))- وفي ذلك: دليل على مشروعية الدعاء في الصلاة قبل السلام من أمور الدنيا والآخرة, ما لم يكن إثمًا. وإلى ذلك ذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: “لا يجوز إلّا بالدعوات المأثورة في القرآن والسنة”. وقالت الهادوية: “لا يجوز مطلقًا”.
والحديث وغيره من الأدلة المتكاثرة التي فيها الإذن بمطلق الدعاء ومقيّده تردّ عليهم. ولولا ما رواه ابن رسلان عن البعض من الإجماع على عدم وجوب الدعاء قبل السلام، لكان الحديث منتهضًا للاستدلال به عليه, أي: على الوجوب؛ لأن التخيير في آحاد الشيء لا يدل على عدم وجوبه. يعني: إذا خيّرنا بالدعاء بآحاد الدعاء، فلا يدل ذلك على عدم وجوبه، كما قال ابن رشد. أي: يمكن في هذه الحالة -في حالة التخيير في آحاد الشيء- أن يكون واجبًا أن نفعل بآحاده؛ وهو المتقرر في الأصول. على أنه قد ذهب إلى الوجوب: أهل الظاهر.
وقال ابن حزم مثلا: إنه لو ترك الدعاء الذي هو من السنة في آخِر الصلاة: ((اللهم إني أعوذ بك من عذب القبر…)) إلى آخِره, فإنه تبطل صلاته إذا ترك هذا الدعاء؛ فهذا دليل على وجوبه -وجوب الدعاء- عند أهل الظاهر. ورُوي عن أبي هريرة -يعني: عن أبي هريرة- وجوب الدعاء بعد التشهد وبعد الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد استَدلّ بقوله في الحديث: ((إذا قعد أحدكم في الصلاة، فلْيقُل…))، وبقوله في الرواية الأخرى: ((وأمَره أن يعلِّمه الناس)): القائلون بوجوب التشهد الأخير وهم: عمر، وابن عمر، وأبو مسعود, والهادي، والقاسم، والشافعي. وقال النووي في (شرح مسلم): مذهب أبي حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء: أنّ التشهد سُنّة. وإليه ذهب الناصر من أهل البيت عليهم السلام. قال ورُوي عن مالك: القول بوجوب الأخير -أي: التشهد الأخير.
واستَدلّ القائلون بالوجوب بقول ابن مسعود: “كنّا نقول قبل أن يُفرض علينا التشهد: “السلام على عباد الله…” الحديث. أخرجه الدارقطني والبيهقي وصحّحاه. وهو مُشعر بفرْضية التشهد. وأجاب عن ذلك القائلون بعدم الوجوب, بأنّ الأوامر المذكورة في الحديث للإرشاد لعدم ذكْر التشهد الأخير في حديث المسيء. يعني: أنه لم يُذكر التشهد الأخير في حديث المسيء . وقلنا: إنّ ما ذُكر في حديث المسيء هو الواجب في الصلاة، وما لم يُذكر فيه لا يكون واجبًا. فاستدلوا على عدم الوجوب بعدم ذِكر التشهد الأخير في هذا الحديث. وأجابوا على قول ابن مسعود: “قبل أن يُفرض علينا التشهد”: “السلام على عباد الله…” الحديث، بأنّه تفرّد به ابن عُيينة, كما قال ابن عبد البر.
قال الشوكاني: ولكن هذا لا يُعدّ قادحًا, فابن عيينة من الأئمة الثقات, وأن الاعتذار بعدم الذكْر في حديث المسيء فصحيح, أي عدم ذكْر التشهد فصحيح, إلا أن يُعلم تأخّر الأمر بالتشهد عنه كما قدمنا.
والشوكاني يشير بذلك إلى أنه قال: إذا جاء أمر قبل حديث المسيء, فلا يكون هذا واجبًا إذا لم يُذكر مقتضى هذا الأمر في حديث المسيء. أمّا إذا تأخّر الأمر بعد حديث المسيء، فيُعتبر هذا إضافة إلى ما في حديث المسيء من الواجبات؛ ولذلك قال: إلّا أنْ يُعلم تأخُّر الأمر بالتشهد عنه.
فإذا كان الأمر بالتشهد قد تأخّر عن حديث المسيء فهو واجب, ولا يجوز لهم -أي: القائلين بعدم الوجوب. أن يقولوا: إن التشهد الأخير لم يذكر في حديث المسيء. قال الشوكاني: وأما الاعتذار عن الوجوب بأن الأمر المذكور صرف لهم عما يقولون من تلقاء أنفسهم في حديث ابن مسعود: “كنا نقول قبل أن يفر ض علينا التّشهد: السلام على الله, السلام على عباد الله”، إلخ. فأمروا بصيغة التشهد، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو السلام, فلا يقال السلام على الله)). فالاعتذار عن الوجوب بأنّ الأمر المذكور صَرْفٌ لهم عما كانوا يقولون من تلقاء أنفسهم كما ذكرنا, فلا يدل على الوجوب. أو بأن قول ابن عباس: “كما يُعلّمنا السورة” يُرشد إلى الإرشاد بأنّ تعليم السورة غير واجب. فمِمّا لا يُعوّل عليه في الاحتجاج بعدم الوجوب هذا.
ومن جملة ما استدلّ به القائلون بعدم وجوب التّشهد: ما ثبت في بعض روايات حديث المسيء من قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا فَعَلْت هذا، فقد تمّت صلاتك)). قال الشوكاني: ويتوجّه على القائلين بالوجوب: إيجاب جميع التشهد، وعدم التخصيص بالشهادتَيْن, كما قالت الهادوية بنفس الدليل الذي استدلّوا به على ذلك؛ لأنّ الدليل فيه التشهد ككلّ.