Top
Image Alt

باب المواضع المنهيّ عنها والمأذون فيها للصلاة، وباب صلاة الفرض على الراحلة لعذر

  /  باب المواضع المنهيّ عنها والمأذون فيها للصلاة، وباب صلاة الفرض على الراحلة لعذر

باب المواضع المنهيّ عنها والمأذون فيها للصلاة، وباب صلاة الفرض على الراحلة لعذر

أ. باب المواضع المنهيّ عنها والمأذون فيها للصلاة:

حديث أبي سعيد: ((الأرض كلها مسجد…)):

عن أبي سعيد: أنّ النّبي صلى الله عليه  وسلم قال: ((الأرض كُلّها مَسْجدٌ، إلّا المقْبَرة والحمّام)). رواه الخمسة إلّا النّسائي. يعني: أصحاب “السّنن” إلّا النّسائي, ومَعَهم الإمام أحمد.

والحديث أيضًا أخرجه الشّافعي، وابن خُزَيْمة، وابن حبّان، والحاكم. قال التّرمذي: وهذا حَدِيث فيه اضْطراب، رواه سُفْيان الثّوري عن عمْرو بن يَحْيى، عن أبيه، عن النّبي صلى الله عليه  وسلم مُرْسلًا.

وفي الباب عن عَلي عند أبي داود، وعن ابن عُمر عند التّرمذي، وابن ماجه وسيأتي، وعن عُمَر عند ابن ماجه، وعن أبي مَرْثد الغَنوي عِنْد مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وسيأتي، وعن جابر وعبد الله بن عمْرو بن العاص، وعِمْران بن الحصيْن ومعْقل بن يسار، وأنس بن مالك، جَمِيعهم عند ابن عديّ في (الكامل)، وفي إسناد حدِيثهم عبّاد بن كثِير ضَعِيف جدّا، ضَعّفه أحمد وابن مَعِين.‌

قال ابن حَزم: أحاديث النّهْي عن الصّلاة إلى القبور، وعن الصّلاة في المَقْبرة، أحاديثُ مُتواترة لا يَسَع أحدًا تَرْكُها.

قال الإمام الشّوكاني: وفِيه أنّ المعتبر في التّواتر هو أنْ يَرْوي الحديث المتواتر جَمْعٌ عن جَمْع يَسْتحِيل تَواطؤ كلّ جَمْع على الكذب، لا أنّه يَرْويه جمعٌ كذلك عن كلّ واحد من رُواته ما لم يَعْتبره أهل الأصول، اللّهم إلّا أن يُريد بكلّ واحدٍ من رُواته كلّ رُتْبةٍ مِن رُتبِ رُواته.

ويُريد الإمام الشوكاني أنْ يُبيِّن بهذا: أنّ كلّ طَبَقة من طَبقات رُواة هذا الحديث إنّما هُم جَمْعٌ عن طَبَقة أخْرَى، وهكذا…‌

وقوله: ((إلّا الْمَقْبرة)) -مُثلّثة الباء، مَفْتوحة الميم، وقد تُكسر الميم، أي: “مَقْبَرة” و”مَقبُرة” و”مَقبِرة”، و”مِقبرة”، قد تُكْسر الميم، وهي: المحلّ الذي يُدْفن فيه الموْتَى.

والحديث يدلّ على: المَنْع من الصّلاة في المقبرة والحمّام. وقد اخْتلَف النّاس في ذلك.

وقَبْل أنْ نُبيّن هذا الاخْتلاف، نُبيِّن: أنّ المراد بالحمّام هنا ليس دَوْرة المياه، وإنّما المراد ما يَغْتسل النّاس فيه. وكان هذا مكانًا كبيرًا، وله أجزاء بَعْضها يُسْتعمل لِلْغُسل، وبعضها لا يُستعمل للغُسْل. إذن؛ ليس المراد بِكَلمة “الحمّام” هو ما يُطْلق عليه الآن كَلِمة “الحمّام”، بمعنى: أنّه مكانٌ ضَيِّقٌ يَكْفي للغسل أو يَكْفي لقضاء الحاجة. لكن المراد، إنّما هي كانت حمّامات عامّة للغسل، وكان فيها أمْكِنة أُخْرَى لا تستعمل للغسل.

وقد اخْتَلف النّاس في جَواز الصّلاة في المقبرة والحمّام، وعَدَم جَوازها على أربعة مَذاهب أو خمسة ، في جواز الصلاة في المقبرة وعدم جَواز الصلاة فيها:

الأوّل: هو تَحْريم ذلك؛ وإلى ذلك ذَهَب أحمد وابن حزم.

والثّاني: الفَرْق بين المقبرة المنبوشة وغيرها، فقال الشافعي: إذا كانت مَنْبوشة وتُربتها مُخْتلطة بِلَحم الموتى وصَدِيدهم، لا يَجوز. فإنْ صَلّى في مَكان طاهر منها أجزأتْه.

الثّالث: الكراهة دون تفْرقة بين المنْبوشة وغيرها؛ وإلى ذلك ذَهَب الثّوري والأوزاعي وأبو حنيفة.

الرّابع: ذَهَب مالكٌ إلى جَواز الصّلاة في المَقْبرة وعَدَم الكراهة.‌

وأمّا الحمّام، ونُنبِّه مرّة ثانية إلى أنّ الحمّام الذي نَتكلّم عنه، والذي هو في الحديث ليس هو ذلك المكان الذي نُطْلق عليه الآن اسم “حمّام”, وإنّما المراد: الحمّام الكبير الذي يَسَع لِكثِير من النّاس أنْ يَغْتسلوا فيه وفي أجزائه, وأنْ يَسْتجمُّوا فيه بَعْد الغُسْل في مَكان آخَرَ، وهكذا…

فَفِيه أمْكنة ليْست هي لِمُباشرة الغُسل, بَل تُعْتبر أقسام لا يُباشر فيها الغسل، ورُبما الْخِلاف هذا في الحمّام أو النّهي لأنّه مَكان لِكَشْف العورات وغير ذلك…‌ فمن الممكن أن نقيس هذا الحكم في وقتنا الحاضر علي أماكن التجمعات الرياضية؛ ولا سيما رياضة السباحة كحمامات السباحة الموجودة في النوادي، فهناك غرف ملحقة لتغير الملابس فهل يجوز الصلاة فيها؟.

أمّا الحمّام فَذَهب أحمد إلى عَدَم صِحّة الصّلاة فيه، ومَن صَلّى فيه أعاد أبدًا. وقال أبو ثور: لا يُصلّى في حَمّام ولا مَقْبرة، على ظَاهر الحديث الذي مَعَنا. وإلى ذلك ذَهَبت الظّاهرية, كَمَا رأينا عند ابن حَزْم عند الكلام على حُكْم الصّلاة في المَقْبرة.

ورُوُيَ عن ابن عبّاس أنّه قال: “لا يُصلّيَن إلى حُشٍّ -يعني: مَكان قَضاء الحاجة، ولا في حمّام، ولا في مَقْبرة”. قال ابن حزم: ما نَعْلم لابن عبّاس في هذا مخالِفًا من الصّحابة.

قال ابن حزم: ولا تَحِلّ الصّلاة في حَمّام، سَواء في ذلك مَبْدأ بابه -أي: من بداية بابه- إلى جَمِيع حُدُوده، ولا على سَطْحه وسَقْف مُسْتوقده -يعني: الذي تُسخّن فيه المياه، وأعالي حِيطانه، خَربًا كان أو قائمًا، يعني: في أيِّ جُزْء من أجزائه.

وَكَما قُلْنا: إنّ الْحَمّام له أجْزاء كثيرة وبعضها يُغْتسل فيه, وبَعْضها لا يُغْتسل فيه, وبعضها يَسْتريح فيه الْمُغْتسلون، وهكذا… وهي كانت حمّامات عامّة، ليست خاصّة كما نَسْتعمل الْآنْ.

وذَهَب الجمهور إلى صِحّة الصّلاة في الحمّام مع الطّهارة، وَتكون مَكْروهة. وَتَمسّكوا بعمومات نَحْو حديث: ((أيْنَما أدْرَكْتَ الصّلاة فَصَلِّ)). وَحَملوا النّهي على حمّامٍ مُتَنَجِّس. والحقُّ ما قاله الأوّلون، لأنّ أحاديث المقبرة والحمّام مُخَصِّصة لذلك العموم.

وحِكْمة الْمَنْع من الصّلاة في المقبرة قيل: هو ما تَحْت المصلّي من النّجاسة. وقيل: لِحُرْمة الموتى.  وحِكْمة الْمَنْع من الصّلاة في الحمّام: أنّه يَكْثر فيه النّجاسات. وَقِيل: إنّه مَأوَى الشّيطان.

ب. الباب نفسه:

حديث أبي مَرْثد الغنوي: ((لا تُصلُّوا إلى القبور…)):

وهو عن أبي مرثد الغنوي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم : ((لا تُصلّوا إلى القبور، ولا تَجْلسوا عليها)). رواه الجماعة إلّا البخاري، وابن ماجه.

والحديث يدلّ على مَنْع الصّلاة إلى القبور، وقَدْ تقدّم الكلام في ذلك، وعلى مَنْع الجلوس عليها، وظاهر النّهي: التّحريم.

وقَدْ أخرج مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: ((لَأَنْ يَجْلس أَحَدُكم على جَمْرة فَتَحْرق ثِيابَه فتخلُص إلى جِلْده، خَيْرٌ من أنْ يَجْلس على قَبْر أخيه)).

قال الإمام الشّوكاني مُقَوِّيًا التّحريم والْمَنْع، قال: وقَد صَحّت الأحاديث القاضية بالمَنْع، ولا حُجّة في قَوْل أحدٍ, لا سِيّما إذا كان مُعَارضًا للثّابت عنه صلى الله عليه  وسلم.

وقد أخْرَج أبو داود والتّرمذي، وصحّحه وابن ماجه, وابن حبّان، والحاكم من حديث جابر بلفظ: ((نُهِيَ أنْ يُجَصّص القبر وَيُبْنى عليه, وأنْ يُكْتَبَ عليه، وأنْ يُوطَأَ)). وهو في (صَحيح مسلم) بدون الكتابة. وقال الحاكم: الكتابة على شَرْط مسلم، والجلوس لا يَكون غالبًا إلّا مَعَ الْوَطْء.‌

جـ. الباب نفسه:

حديث جُنْدب بن عبد الله البَجَلي: ((إنّ مَنْ كان قَبْلكم…)):

عن جُندب بن عبد الله البجلي، قال: سَمِعت رسول الله صلى الله عليه  وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: ((إنّ مَنْ كان قَبْلكم كانوا يَتّخِذون قبور أنْبِيائِهم وصالِحِيهم مَسَاجد. ألَا فَلَا تَتّخِذوا الْقُبور مَسَاجد! إنِّي أنْهاكم عن ذلك!)). رواه مسلم.

الحديث أخرجه النّسائي أيضًا. وفي الباب عن عائشة عند الشّيخيْن والنّسائي، وعن أبي هريرة عند الشّيخيْن وأبي داود والنسائي، وعن ابن عبّاسٍ عند أبي داود والتّرمذي وَحَسّنه.

هذا من نَاحِية أسانيد هذا الحديث وَشَواهِده.‌

أمّا من حَيْث أحكامه، فالحديث يدلّ على تَحْريم اتّخاذ قُبور الأنبياء والصّلحاءمَساجد. قال العلماء مُبَيِّنِين الْحِكْمة في هذا النّهي، قالوا: وإنّما نَهَى النّبي صلى الله عليه  وسلم, عن اتّخاذ قَبْره وقَبْر غيره مسجدًا خَوْفًا من المبالغة في تَعْظيمه والافْتِتان به، وَرُبما أدّى ذلك إلى الْكُفْر، كَما جَرَى لِكثِير من الأُمَم الخالية.

ولمّا احتاجت الصّحابة رضي الله  عنهم والتّابعون إلى الزِّيادة في مَسْجد رسول الله صلى الله عليه  وسلم, حِين كَثُر المسلمون وامتدّت الزّيادة إلى أنْ دَخَلت بُيُوتُ أمّهات المؤمنين فيه, وفيها حُجْرة عائشة مَدْفن رسول الله صلى الله عليه  وسلم وصاحبيْه أبي بكر وعُمر, بَنَوْا على القبر حِيطانًا مُرتفِعة مُستديرة حَوْله لِئَلّا يَظْهر في المسجد, فَيُصلِّي إليه العوامّ ويُؤدِّي إلى المحظور.

ثمّ بَنَوْا جِداريْن من رُكْنَيْ القبر الشّمالِيَيْن حَرّفوهما حَتّى الْتَقَيا، حتّى لا يَتمكّن أحدٌ من اسْتِقبال القبر. وبطبيعة الحال اخْتَلف الأمر وتَبيّن هذا مِن ذاك, بَعْدمَا آلَ البناء والعَمار في المسجد النّبوي الشّريف إلى ما آل إليه الآن. ‌

وقد رُوِي أنّ النّهي عن اتّخاذ القبور مساجد كان في مَرَض مَوْته، قبْل اليوم الذي مات فيه بِخَمْسة أيّام. وقد ذُكَر هذا في رواية الباب الّتي مَعَنا.

وقد حَمَل بَعْضهم الوعيد على مَن كان في ذلك الزّمان، لِقُرْب العهد بعبادة الأوثان، خاصّة أنّه قد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه  وسلم : ((اللّهم لا تَجْعل قَبْري وثنًا يُعبَد)). ولا شكّ في أنّ دُعاءه صلى الله عليه  وسلم مُسْتجابٌ -بإذن الله عز وجل .

د. الباب نفسه:

حديث زيد بن جبيرة: ((أنّ رسول الله صلى الله عليه  وسلم نَهَى أنْ يُصلّى في سبعة…)):

عن زيد بن جُبَيْرة، عن داود بن حُصيْن، عن نافع، عن ابن عمر: ((أنّ رسول الله صلى الله عليه  وسلم نَهَى أنْ يُصلّى في سَبْعة مَواطن: في المَزْبلة، والمَجْزرة، والمَقْبرة, وقارِعَة الطّريق، وفي الحمّام، وفي أعطان الإبل, وفَوْق ظَهْر بَيْت الله)). رواه عَبْد بن حَمِيد في “مُسنده”، وابن ماجه، والتّرمذي وقال: إسناده ليس بِذاك القوي. وقد تُكلِّم في زيد بن جُبَيْرة مِن قِبَل حِفْظه.

قال مجد الدين ابن تيمية: “والعُمَري ضَعّفه بَعْض أهل الْعِلَم مِن قِبَل حِفْظه”.

قال الشّوكاني: “الحديث في إسناد التّرمذي: زَيْد بن جُبَيْرة وهو ضَعِيف، كَما قال التّرمذي.

وقد تقدّم الكلام في المقبرة، والحمّام، وما فيها من الأحاديث الصّحيحة, والخلاف في جَواز الصّلاة وَعَدم جَواز الصّلاة فيها، ولكنّنا نُذَكِّر أيضًا بأنّ المُراد بـ”الحمّام” ليس هو الحمّام الذي نَعْرفه أو نَتَعارف عليه الآن، ولكنّه الحمّام الذي كان عامًّا، والذي فيه أمْكِنة مُتّسعة لِمَن يَسْتريح ولِمَن يَتَنظَّف، وغير ذلك؛ فَهو ليس مكانًا ضَيِّقًا مَهْما اتّسَع كَما نَعْرف فيه الآن، وأنّ الْعِلّة فيه أنّه رُبما يَكون فيه بعض الأوساخ، أو ما فيه مِنْ كَشْف العوْرات، وقد سَبَق الكلام على ذلك.‌

وقوله: ((المَزْبلة)): من الأماكن الّتي نَهَى أنْ يُصلّى فيها، وهو المكان الذي يُلقى فيه الزَّبْل.

وقوله: ((والمَجْزرة)) -بِفَتْح الزّاي: المكان الذي يُنْحر فيه الإبل, وتُذْبح فيه الْبَقر والغنم.

وقوله: ((وقَارِعة الطّريق)) قِيل: الْمُراد به: أعْلَى الطّريق، وقيل: صَدْره، وقيل: ما بَرَز منه.‌

وقوله ((أعطان الإبل)) العطن: مبرك الإبل حول الماء.  لحديث رسول الله صلى الله عليه  وسلم  ((صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل‏)) ‏‏.‏ رواه أحمد والترمذي وصححه.‏

والحديث يدُلّ على تَحْريم الصّلاة في هذه المواطن. أمّا في ((المَزْبلة)) و((المَجْزرة))، فَلِكوْنهما مَحلًّا للنّجاسة؛ فَتَحْرم الصّلاة فيهما من غير حائل اتّفاقًا، ومع الحائل فيه خِلاف. والحائل أنْ يُبْسط ثَوْبٌ نَظِيفٌ على المكان فَيُصلّى عَلَيْه.

وقِيل: إنّ الْعِلّة في المَجْزرة: كَوْنها مَأْوَى الشّياطِين، وَكَوْنها مَأوَى الشّياطِين يَرْجع أيضًا إلى كَوْنها مَحَلًّا للنّجاسة, كَما تَكُون دَوْرات المياه النّجسة مَحَلّا وَمَأوًى للشّياطِين. ولذلك أُمِرْنا بِذِكْر الله قَبْل الدّخول فيها، وبالتّسمية وبالاستعاذة من الشّياطين.

وأما ((أعطان الإبل)) لحديث رسول الله صلى الله عليه  وسلم  ((صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل‏)) ‏‏.‏ رواه أحمد.

وأمّا في ((قارعة الطّريق))، فَلِما فيها من شُغْل الخاطر الْمُؤدِّي إلى ذَهاب الخُشوع الذي هو سِرُّ الصّلاة. وقيل: لأنّها مَظنّة النّجاسة.

وأمّا في ((ظَهْر الكَعْبة))، فَلأنّه إذا لم يَكن بين يديْه سُتْرة ثابتة تَسْتره لم تصحّ صلاته، لأنّه مُصلٍّ على البيْت لا إلى البيْت. وَذَهب الشّافعي إلى الصّحة بِشَرط أنْ يُستقَبل من بنائها قدْرَ ثُلُثَيْ ذِراع. وعند أبي حنيفة لا يُشْترط ذلك. وكذا قال ابن سُريج، لأنّه كَمُستقبِلٍ العرْصة لَوْ هُدم البيْت -والعياذ بالله تعالى، يَعْني: الأرض التي عليها الكَعْبة.

وأمّا الصّلاة إلى ((الْمَقْبرة))، فَلِحديث النّهي عن اتّخاذ القبور مساجد، وقد تَقدّم. وأمّا الصّلاة إلى جدار مِرْحاضٍ، فَلِحديث ابن عبّاسٍ في سَبْعةٍ مِن الصّحابة بلفظ: ((نَهَى عن الصّلاة في المسجد تِجاهَه حُشّ)) -أي: مَكان قَضاء الحاجة. أخرجه ابن عديّ. قال العراقي: “ولم يصحّ إسناده”،

وأمّا في ((الْكَنِيسَة والْبَيْعة))، فَرَوَى ابن أبي شيبة في (المصنّف) عن ابن عبّاس: أنّه كَرِه الصّلاة في الكنيسة إذا كان فيها تصاوير. وقد رُوِيَت الكراهة عن الحَسَن. ولم يَرَ الشّعبي وعطاء بن أبي رباح بالصّلاة في الكنيسة والبَيْعة بَأْسًا. ولم يَرَ ابن سِيرِين بالصّلاة في الكنيسة بأسًا. وصلّى أبو موسى الأشْعَري وعُمر بن عبد العزيز في كَنِيسة.

ولَعَلّ وَجْه الكراهة: ما تَقَدّم من اتّخَاذهم لِقُبور أنبيائهم وَصُلحائهم مَسَاجد، لأنّها تُصيِّر جَمِيع اْلبِيَع والمساجد مَظِنّةً لِذَلك. ‌

وأمّا الصّلاة إلى التّماثيل، فَلِحديث عائشة الصّحيح: أنّه قال لَها رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((أَزِيلي عنّي قرامك هذا)) يعني: السّتائر الّتي فيها تَصاوير، ((فإنّه لا تَزال تَصاويره تَعْرض لِي في صَلاتي)). وَكان لها سِتْرٌ فيه تَماثيل.‌

وأمّا النّهي عن الصّلاة إلى النّائم والمُتحدّث: فهو في حَدِيث ابن عبّاس عند أبي داود وابن ماجه, وفي إسناده مَنْ لَمْ يُسمَّ.‌

وأمّا في بَطْن الوادي فَوَرد في بَعْض طُرُق حَدِيث الباب بَدَل الْمَقْبرة، قال الحافظ: “وهي زِيادةٌ باطلةٌ لا تُعرف”.‌

وأمّا الصّلاة في الأرض المغصوبة: فَلِما فيها من استعمال مال الْغَيْر بِغَيْر إذْنِه، وكذلك في الدّار المغصوبة، وفي الثّوب المغصوب.‌

وأمّا الصّلاة في مَسْجد الضّرار, فقال ابن حزم: “إنّه لا يُجْزئ أحدًا الصّلاة فيه، لِقِصّة مَسْجد الضّرار، وقوله تعالى في هذه القصّة: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} . [التّوبة: 108]. فَصَحّ أنّه لَيْس مَوْضع صَلاة”.‌

وأمّا الصّلاة إلى التّنور: فَكَرِهَها مُحمّد بن سِيرِين، وقال: “بَيْت نار”، ورواه ابن أبي شَيْبة في (المصنّف).‌

وَزَاد ابن حَزْم فقال: “لا تَجوز الصّلاة في مَسْجدٍ يُسْتهزأ فيه بالله عز وجل , أو برسوله صلى الله عليه  وسلم أو بشيء من الدِّين، أو في مَكانٍ يُكفَر بِشَيء من ذلك فيه”.‌

وَزادت الهادوية على ما سَبَق: كَراهة الصّلاة إلى الْمُحدِث -يعني: في الدِّين, والفاسق والسِّراج. وزاد الإمام يحيى: الجنُب، -يعني: الصّلاة إلى الجُنُب والحائض؛ فَيَكون الجميع سِتّةً وعَشِرِين مَوْضعًا.

وأمّا الصّلاة إلى السِّراج، فَلِلْفِرار مِن التّشبه بِعَبَدَة النّار، والأوْلى عَدَم التّخْصِيص بالسّراج ولا بالتّنور، بَلْ إطلاق الكراهة على اسْتِقْبال النّار أيًّا كانت؛ فَيكون اسْتقْبال التّنور والسِّراج وَغَيْرهما من أنواع النّار قِسْمًا واحدًا.

ونُنَبِّه هُنا إلى أنّ المقصود بـ”السِّراج”: ما كان يُسرج قَبْل ذلك بالْفَتِيل والزّيت, وَيمُدّه الزّيت وغير ذلك, لا سِراج الكهرباء الآن لأنّه ليس فيه تَشَبّهٌ بِمَن كانوا يَعْبدون غَيْر الله عن طَرِيق ذلك، فَلَمْ يَكُن هُناك قَبْل ذلك هَذِه الْكَهْرباء.‌

قال الشّوكاني: واعْلَم أنّ القائلين بِصِحّة الصّلاة في هذه المواطن أو في أكثرها, تَمَسّكوا في المواطن التي صَحّت أحاديثها, بأحاديث: ((أيْنما أدْركَتْك الصّلاة فصلِّ))، وهو حديثٌ رواه الإمام مجد الدين ابن تيمية في أوّل هذا الباب، فقال: عن جابر أنّ رسول الله صلى الله عليه  وسلم قال: ((جُعِلت لِيَ الأرض طَهورًا ومَسْجدًا؛ فَأيّما رَجُل أدْركتْه الصّلاةُ فَلْيصلّ حَيْث أدْركتْه)). متّفق عليه. وقال ابن المنذر ثَبَت أنّ النّبي صلى الله عليه  وسلم قال: ((جُعِلت لِيَ كُلُّ الأرض طَيِّبةً مَسْجدًا وطَهورًا)). رواه الخطّابي بإسناده.‌

قوله صلى الله عليه  وسلم في حديث جابر: ((أيْنَما أدْركَتْك الصّلاة فَصَلّ)) وَنْحوها، جَعَل هذه الأحاديث القائلون بِصِحّة الصّلاة في هذه المواطن قَرِينَةً قَاضِيَةً بصحّة تَأويل الأحاديث القاضية بِعَدم الصِّحّة.

هـ. باب: الصّلاة في السّفينة:

حديث ابن عمر: ((صَلِّ فيها قائمًا…)):

عن ابن عُمَر قال: سُئِل النّبي صلى الله عليه  وسلم: كَيْف أُصَلِّي فِي السّفِينَة؟ قال: ((صَلِِّ فيها قائمًا، إلّا أنْ تَخاف الْغَرق)). رواه الدّارقطني والحاكم -أبو عبد الله- في “الْمُسْتدْرَك” على شرْط الصّحيحيْن.

والذي في الحاكم من طَرِيق جعفر بن بَرْقان, عن مَيْمون بن مهران، عن ابن عمر من هذا الحديث: أنّ الحاكم قال: “هو على شَرْط مسلم”، وقال: “هو شاذٌّ بمرّة”. كَمَا نَقَل الشّوكاني وَوَافقه الذّهبي على هذا وعلى ذاك.

ولَمْ يَتَعرّض الشّوكاني لقوله: “وهو شاذٌّ بمرّة”. وَعَلَى ما قِيلَ في هذا الحديث مِمّا جَعَل الحاكم على الرّغم مِن أنّه صحّحه على شَرْط مسلم، قال: “هو شاذٌّ بمرّة”، وكأنّه يَعْني أنّه في إسناده تَفَرُّد.

وفي هذا الحديث: أن الواجب على من يصلي في السفينة القيام، ولا يجوز له القعود إلا عند خشية الغرق‏.

وفِيه أيضًا: جواز الصّلاة في السّفينة وإنْ كان الخروج إلى البرّ مُمكنًا.

د. باب: صلاة الفرض على الرّاحلة لعذر:

حديث يعلى بن مرّة:

عن يَعْلَى بن مرّة: ((أنّ النّبي صلى الله عليه  وسلم انْتَهى إلى مَضيقٍ هو وأصحابه, وهو على راحلته، والسّماء مِنْ فَوْقهم، والبِلَّة مِنْ أسفل منهم, فَحَضَرت الصّلاة، فَأمَر المؤّذِن فأذّن وأقام. ثمّ تقدّم رسول الله صلى الله عليه  وسلم على راحلته، فَصَلّى بهم يُومئ إِيماءً، يَجْعل السُّجود أخْفَض من الرّكوع)). رواه أحمد والتّرمذي.

وَقَدْ صَحّح الشافعي الصّلاة المفروضة على الرّاحلة بالشروط التي ستأتي، وَحَكى النّووي في (شَرْح مسلم)، والحافظ في “الْفَتْح” الإجماع على عَدَم جَواز تَرْك الاستقبال في الفريضة. وهذا ما يدلّ عليه هذا الحديث؛ فليس فيه: أنّ الرّاحلة كانت تَتَوجّه إلى أية وِجْهة. فَرُبما وَقَف وَصَلّى بهم وهو واقف مُتّجهًا إلى القبلة. فَليْس في هذا الحديث ما يَتَعارض مع استقبال القِبْلة.‌

قال الشّوكاني: والحديث يدلّ على جَواز صَلاة الفريضة على الرّاحلة -يعني: هو يُرجّح ذلك، ولا دَليل يدلّ على اعتبار تِلْك الشّروط إلّا عموماتٌ يَصْلحُ هذا الحديث لِتَخْصيصها. وليس في الحديث إلّا ذِكْر عُذْر المطر وَندَاوة الأرض؛ فالظّاهر صِحّة الفريضة على الرّاحلة في السّفر لِمَن حَصَل له مِثْل هذا الْعُذْر، وإن لّم يَكُن في هَوْدج، إلّا أنْ يَمْنع من ذلك إجماعٌ، ولا إجماع.

قوله: ((والبِلّة مِنْ تَحْتِنا)) -بِكسْر الباء الموحّدة، وَتشْديد اللّام، قال الجوهري: ((البلّة)) بالكسر: النّداوة. قال المصنِّف -رحمه الله- وهو مجد الدّين ابن تيمية: وإنّما ثَبَتَت الرُّخصة إذا كان الضّرر بذلك بيِّنًا، فأمّا اليسير فَلا. رَوَى أبو سعيد الخُدْري قال: ((رَأيْت رسول الله صلى الله عليه  وسلم يَسْجد في الماء والطِّين, حَتّى رَأيْت أَثَر الطِّين في جبْهتِه)). مُتّفق عليه.

رَوَى أبو سعيد الخدري قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه  وسلم يَسْجد في الماء والطِّين، حَتّى رأيت أَثَر الطِّين في جَبْهته)). مُتّفق عليه. انتهى ما قاله الإمام مجد الدين ابن تيمية.

error: النص محمي !!