Top
Image Alt

باب المَضْمَضة والاستِنْشاق، وباب مَسْح الرأس كلّه، وصفته، وما جاء في مَسْح بعضه

  /  باب المَضْمَضة والاستِنْشاق، وباب مَسْح الرأس كلّه، وصفته، وما جاء في مَسْح بعضه

باب المَضْمَضة والاستِنْشاق، وباب مَسْح الرأس كلّه، وصفته، وما جاء في مَسْح بعضه

. باب المَضْمَضة والاستِنْشاق:

حديث عثمان رضي الله  عنه:

قال الإمام مجد الدين ابن تيمية -رحمه الله-: عن عثمان بن عفان رضي الله  عنه: “أنه دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديْه إلى المرفقين ثلاث مرات، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين. ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه  وسلم توضأ نحو وضوئي هذا. ثم قال: ((مَن توضّأ نحو وضوئي هذا، ثم صلّى ركعتيْن لا يُحدِّث فيهما نفْسه- غفر الله له ما تقدّم من ذنبه))” متفق عليه.

قوله: “فأفرغ على كفيه ثلاث مرات”:

هذا دليل على أن غسلهما في أوّل الوضوء سُنّة، قال النووي: “وهو كذلك باتفاق العلماء”.

قوله: “فمَضْمَض”:

المَضْمَضة: هي أنْ يجعل الماء في فيه ثم يُديره، ثم يَمجّه. وعند جماعة من أصحاب الشافعي وغيرهم: أنّ الإدارة شرط -أي: إدارة الماء شرط في الفم- والمعوَّل عليه في مثل هذا الرجوع إلى مفهوم المَضْمَضة لغةً، وعلى ذلك تنبني معرفة الحق. والذي في (القاموس) وغيره: أنّ المَضْمَضة: تحريك الماء في الفم.

قوله: “واستنثر”:

في رواية للبخاري: “واستنْشَق”، والاستنثار أعم؛ قاله: في (الفتح). والاستنثار هو: إخراج الماء من الأنف بعد الاستِنْشاق. وقال ابن الأعرابي، وابن قتيبة: الاستنثار هو: الاستِنْشاق. قال أهل اللغة: هو مأخوذ من النثرة، وهي: طرف الأنف.

وقد اختُلف في وجوب المَضْمَضة والاستنثار -أو الاستِنْشاق- وعدمه.

فذهب أحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، ومن أهل البيت: الهادي، والقاسم، والمؤيد بالله، إلى وجوب المَضْمَضة والاستِنْشاق والاستنثار. وفي (شرح مسلم) للنووي: أن مذهب أبي ثور، وأبي عبيد، وداود الظاهري، وأبي بكر بن المنذر، ورواية عن أحمد: أن الاستِنْشاق واجب في الغُسل والوضوء، والمَضْمَضة سُنة فيهما، وما نقل من الإجماع على عَدم وجوب الاستنثار متعقَّبٌ بهذا.

وليس في القرآن ذكر المَضْمَضة والاستِنْشاق والاستنثار، ورُدّ بأن الأمر بغسل الوجه أمر بها كما سبق، وبأن وجوبها ثبت بأمر رسول الله صلى الله عليه  وسلم والأمر مِنه أمر، بدليل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وقوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31].

واستدل القائلون بعدم وجوب المَضْمَضة والاستِنْشاق والاستنثار بحديث: ((توضّأ كما أمرك الله))، ورُدَّ بأن الأمر بغسل الوجه أمر بها كما سَبق، وبأن وجوبها ثبت بأمر رسول الله صلى الله عليه  وسلم. 

ومن جملة ما أورده في (شرح الترمذي) مِن الأدلة القاضية بوجوب المَضْمَضة والاستِنْشاق حديث عائشة عند البيهقي، بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه  وسلم قال: ((المَضْمَضة والاستِنْشاق مِن الوضوء الذي لا بدّ منه))، وقد ضُعِّف بمحمد بن الأزهري الجَوْزَجاني، وقد رواه البيهقي لا مِن طريقه، فرواه عن أبي سعيد أحمد بن محمد الصوفي، عن ابن عدي الحافظ، عن عبد الله بن سليمان بن الأشعث، عن الحسين بن علي بن مهران، عن عصام بن يوسف، عن ابن المبارك، عن ابن جريج، عن سليمان بن يسار، عن الزهري، عن عروة عنها.

إذا تقرَّر هذا علمتَ أن المذهب الحق: وجوب المَضْمَضة والاستِنْشاق والاستنثار.

 وفي الحديث نفسه بيان الاقتصار في مَسْح الرأس على واحدة.

وقوله: “ثم غَسَل وجهه ثلاث مرات”:

وكذلك سائِر الأعضاء إلا الرأس، فإنه لم يذكر فيه العدد: فيه دليل أن السُّنة الاقتصار في مَسْح الرأس على واحدة؛ لأن المطلق يصْدق بمرّة؛ وقد صرّحت الأحاديث الصحيحة بالمرّة.

وقد أجمع العلماء على أن الواجب غَسْل الأعضاء مَرة واحدة، وأن الثلاثة سُنة، لثبوت الاقتصار مِن فعْله صلى الله عليه  وسلم على مرة واحدة ومرتيْن؛ وسيأتي لذلك باب في هذا الكتاب.

وقد استُدلّ بما وقع في حديث الباب من الترتيب بـ”ثُمّ” على وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء. وقال ابن مسعود، ومكحول، ومالك، وأبو حنيفة، وداود، والمزني، والثوري، والبصري، وابن المسيب، وعطاء، والزهري، والنخعي: إنه -أي: الترتيب غير واجب.

وقد استُدل على الوجوب بظاهر الآية، وهو متوقِّف على إفادة الواو للترتيب، وهو خلاف ما عليه جمهور النُحاة وغيرهم. وهو يشير إلى الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] إلى آخر الآية الكريمة، فقد عطف الأعضاء على بعضها بالواو.

وقوله: “إلى المِرفقين”:

المرفق فيه وجهان: أحدهما بفتح الميم وكسر الفاء، والثاني عكسه، لغتان -يعني: مَرفِق ومِرفَق- واتفق العلماء على وجوب غَسْلهما -أي: المِرفقيْن مع اليديْن- ولا يخالف في ذلك إلا زفر، وأبو بكر بن داود الظاهري. فمن قال بالوجوب جعل “إلى” في الآية بمعنى: “مع”. ومن لم يقل به جعلها لانتهاء الغاية.

واستُدل لغَسْلهما أيضًا بحديث: “إنه صلى الله عليه  وسلم أدار الماء على مرفقيْه، ثم قال: ((هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به)) عند الدارقطني.

وقوله: “إلى الكعبين”:

هما العظمان الناتئان بين مفصل الساق والقدم. وما يقال في المرفقين يقال أيضًا في الكعبين، من الاختلاف الذي سبق؛ لأن {إِلَى} في كليْهما، هل هي بمعنى “مع” أو “للغاية”؟ وقد اختُلف: هل الواجب الغَسْل -يعني: في القدمين- أو يكفي المَسْح؟ وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.

وقوله: ((لا يُحدِّث فيهما نفسه)):

يعني: في الركعتيْن اللّتيْن يصلّيهما بعد الوضوء. وقال المازري، والقاضي عياض: “المراد بحديث النفس: المُجْتَلب والمُكْتَسب، وأمّا ما يقع في الخاطر غالبًا فليس هو المُراد. قال عياض: وقوله: ((يُحدِّث نَفْسه)) فيه إشارة إلى أن ذلك ممّا يَكْتسبه لإضافته إليه”.

وقوله: ((غَفَر الله له ما تقدَّم مِن ذنبه)):

رتّب هذه المثوبة على مجموع الوضوء الموصوف بتلك الصفة، وعلى صلاة الركعتين المُقيدة بذلك القَيد، وهو: ((لا يُحدِّث فيهما نَفْسه)) فلا تحصل المَغفرة إلا بمجموعهما. وظاهره مَغْفرة جميع الذنوب. وقد قيل: إنه مخصوص بالصغائر، لورود ذلك مُقيدًا، كحديث: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان؛ كفارات لما بينها ما اجتنبت الكبائر)) والله تعالى أعلم.

ب. باب استحباب تخْليل اللحية:

عن عثمان رضي الله  عنه: “أن النبي صلى الله عليه  وسلم كان يخلِّل لحيته” رواه ابن ماجه، والترمذي وصححه. وقد ذهب مالك، والشافعي، والثوري، إلى أن تخْليل اللحية ليس بواجب في الوضوء.

معنى الحديث:

أن النبي –صلى الله عليه  وسلم– إذا توضأ خلل لحيته بأن يدخل الماء إلى داخل اللحية إلى داخل اللحية حتى تمس أطراف الجلد يعني من تحت اللحية بيده اليمنى يدخلها حتى تمس أطراف الجلد أو من الخارج يخللها هكذا.

جـ. باب غسل اليدين مع المرفقين:

حديث أبي هريرة:

عن أبي هريرة رضي الله  عنه: أنه توضأ فغَسَل وجْهه فأسبغ الوضوء، ثم غَسَل يده اليمنى حتى أشرع في العَضُد، ثم غَسَل يده اليسرى حتى أشرع في العَضُد، ثم مَسَح رأسه، ثم غَسَل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غَسَل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه  وسلم يتوضأ. وقال: قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((أنتم الغُرُّ المحجّلون يوم القيامة مِن إسباغ الوضوء؛ فمَن استطاع منكم فلْيُطلْ غُرّته وتحْجيله)) رواه مسلم.

قوله: “أشرع في العَضُد، وأشرع في الساق”: معناه: أدخل الغُسل فيهما.

وقوله: ((أنتم الغُرُّ المحجّلون)):

قال أهل اللغة: الغّرَّة: بياض في جبهة الفَرس، والتَّحجيل: بياض في يدها ورجلها. قال العلماء: سمّى النور على الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة: غُرّة وتحجيلًا، تشبيهًا بغُرّة الفَرس.

هذا الحديث الذي فيه: “أشرع في العَضُد وأشرع في الساق” مصرِّحٌ باستحباب تطويل الغُرَّة. وكذلك جاء في غير هذا الحديث من روايات صرّح باستحباب تطويل الغُرّة والتحجيل.

والغُرّة: غَسل شيء مِن مُقدم الرأس، أو ما يجاوز الوجه زائد على الجزء الذي يجب غَسله.

والتحْجيل: غَسل ما فوق المرفقيْن والكعبيْن.

وقوله: ((فمن استطاع منكم)):

تعليق الأمر بإطالة الغُرّة والتحْجيل بالاستطاعة، قَرينة قاضية بعدم الوجوب؛ ولهذا لم يذهب إلى إيجابه أحد من الأئمة.

د. باب تحريك الخاتم وتخْليل الأصابع، ودلْك ما يحتاج إلى ذلك:

حديث أبي رافع وابن عباس والمستورد بن شداد:

قال الإمام مجد الدين ابن تيمية -رحمه الله-: عن أبي رافع: “أن رسول الله صلى الله عليه  وسلم كان إذا توضأ حرّك خاتمه” رواه ابن ماجه، والدارقطني.

يدل الحديث  على مشروعية تحريك الخاتم ليزول ما تحته من الأوساخ، وكذلك ما يُشبه الخاتم من الأسورة والحِلية ونحوهما…

قال الإمام مجد الدين -رحمه الله-: وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه  وسلم قال: “إذا توضأت فخَلِّل أصابع يديْك ورجليْك” رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي.

يدل الحديث على مشروعية تخْليل أصابع اليديْن والرجليْن.

هـ. باب مَسْح الرأس كلّه، وصفته، وما جاء في مسح بعضه:

عن عبد الله بن زيد: “أن رسول الله صلى الله عليه  وسلم مَسَح رأسه بيديْه، فأقبل بهما وأدبر: بدأ بمُقدّم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردّهما إلى المكان الذي بدأ منه” رواه الجماعة.

قوله: “مَسَح رأسه”، زاد ابن الصبّاغ “كُلَّه” أي: مَسَح رأسه كلّه، وكذا في رواية ابن خزيمة.

وقوله: “فأقبل بهما وأدبر”:

قد اختُلف في كيفية الإقبال والإدبار المذكور في الحديث؛ فقيل: يبدأ بمُقدّم الرأس الذي يلي الوجه، ويذهب بهما إلى القفا، ثم يردّهما إلى المكان الذي بدأ منه وهو مبتدأ الشعر.

وقوله: “أدبر”:

على البداءة بالدبر؛ فيكون من تسمية الفعل بابتدائه.

فقه الحديث: يدل على مشروعية مَسْح جميع الرأس، وهو مستحبٌّ باتفاق العلماء، أي: الاستحباب أنْ يبدأ بمَسْح رأسه من المُقدّم إلى المُؤخر، ثم يرجع ثانية إلى ما بدأ منه؛ قاله النووي، وعلّل ذلك بأن ذلك مستحب؛ لأنه طريق إلى استيعاب جميع الرأس، وإلى وصول الماء إلى جميع شعْره.

error: النص محمي !!