باب: النظر إلى المخطوبة
روى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئًا)).
ورواه عنه بسند آخر مع زيادة في الألفاظ قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل نظرت إليها، فإنّ في عيون الأنصار شيئًا، قال: قد نظرت إليها، قال: على كم تزوجتها؟ قال: على أربع أواق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على أربع أواق؟! كأنما تنحتون الفضة من عُرْضِ هذا الجبل! ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه، قال: فبعث بعثًا إلى بني عبس، بَعَثَ ذلك الرجلَ فيهم)).
وفي حديث الواهبة المتفق عليه: ((فصعّد فيها النظر وصوبه)) وفي حديث المغيرة بن شعبة: ((أنه خطب امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) وعن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا خطب أحدكم المرأة، فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)).
وفي ضوء هذه الأحاديث المتقدمة نستطيع أن نقول:
لقد منح الإسلام للرجل حقّ النظر إلى من يريد خطبتها وتزوجها، ومنح المرأة كذلك حق النظر إلى هذا الخاطب، وذلك قبل الإقدام لإتمام الزواج، وهو النظر إلى جمالها الظاهري؛ لأن الجمال الظاهري أوّل جانب لميل الزواج والرغبة إليه، وسبب الأنس والمحبة بين الزوجين، فلا يؤدي إلى الندامة في غالب الأحوال، وإنما كان استحباب نظر الرجل إلى المرأة قبل الخطبة والزواج، وكذلك نظر المرأة إلى الرجل؛ لما جاء في الحديث عن المغيرة بن شعبة أنه قال: ((خطبت امرأة فذكرتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: هل نظرت إليها؟ فقلت: لا، قال: فانظر إليها، فإنه أحرى أن يُؤْدَمَ بينكما، فقال: فأتيتها وعندها أبوها، وهي في خدرها، قال: فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر إليها، قال: فسكتا، قال: فرَفَعَتِ الجارية جانب الخدر فقالت: أُحَرِّجَ عليك إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر إليّ لَمَا نظرت، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرك أن تنظر إلي أن تنظر، قال: فنظرت إليها فتزوجتها، فما وقعت عندي امرأة تزوجتها بمنزلتها)).
فقولهصلى الله عليه وسلم: ((انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) لأنّ العين -كما يقولون- بريد القلب ورسول العاطفة، وإذا ما وقع حبها في قلبه، وتَمّ الزواج، دامت بينهما المودة والألفة والمحبة والوفاق، إلّا أنه لا يجوز له النظر إليها إلّا بعد العزم وقبل الخطبة؛ لحديث جابر بن عبد الله الأنصاري؛ حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “((إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل))، يقول جابر: فخطبت جارية، فكنت أتخبأ -أي أختفي- لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتَزَوُّجِها، فتزوجتها”.
وللحديث شاهد يؤيده في جواز النظر إلى المخطوبة قبل الإقدام على الزواج منها، فعن محمد بن مسلمة قال: ((خطبت امرأة فجعلت أتخبأ لها حتى نظرت إليها في نخل لها، فقيل له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئ خطبة امرأة، فلا بأس أن ينظر إليها)).
والنص الفقهي يقول: لا بأس أن ينظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، إلى وجهها، وهي مستترة بثيابها، وذلك إن علم أنه يشتهيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإنه أحرى أن يُؤْدَم بينكما))؛ لأنّ المقصود من ذلك هو إقامة السنة لا قضاء الشهوة، ولا يسبق للأذهان أنّ هذه النصوص تبيح للخاطب أن يتجاوز الحدود الشرعية في الرؤية الجسدية، إنما ذلك هو إغراء له باستشفاف الحالة النفسية لخطيبته، فقد يرى فيها من المزايا النفسية، أو الجوانب الأخرى؛ كرجاحة العقل وحسن التصرف وجمال الأناقة وكمال الاحتشام، ما يغريه بالاقتران بها، وربط حياته بحياتها.
فنستنبط منه أمورًا فقهية متعددة، وهذه الأمور هي في مضمونها تعد اللبنات الأولى في تكون الأسرة وبنائها على أساس سليم، وذلك إذا ما سار المرء الذي يريد الزواج على ضوء هذه الأمور في اختيار شريكة حياته وأم أولاده، وهذه الأمور التي نتحدث عنها في ضوء هذا الحديث هي:
أولًا: رؤية المخطوبة.
ثانيًا: حكم النظر إلى المخطوبة.
ثالثًا: تعرف الخاطب على صفات المخطوبة.
رابعًا: تحريم الخلوة بالمخطوبة، والأمر بغض النظر والعفو عن نظر الفجأة.