Top
Image Alt

باب حُكم الماء إذا لاقتْه النّجاسة، وباب أسآر البهائم

  /  باب حُكم الماء إذا لاقتْه النّجاسة، وباب أسآر البهائم

باب حُكم الماء إذا لاقتْه النّجاسة، وباب أسآر البهائم

باب: حُكم الماء إذا لاقتْه النّجاسة:

عن أبي سعيد الخدري، قال: قيل: يا رسول الله، أنتوضّأ من بئر بُضاعة؟ وهي بئر يُلقى فيها الحِيَض ولحوم الكلام، والنّتْن. فقال رسول الله صلى الله عليه  وسلم : ((الماء طهور، لا يُنجِّسه شيء))، رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن.

وقال أحمد بن حنبل: حديث بئر بضاعة صحيح. وفي رواية لأحمد وأبي داود: “إنه يُستقَى لك من بئر بضاعة، وهي بئر تُطرح فيها مَحايض النساء ولحْم الكلاب وعذِر الناس” فقال رسول الله صلى الله عليه  وسلم : ((إنّ الماء طهور لا يُنجِّسه شيء)).

قال الشوكاني: “وفي الباب عن جابر عند ابن ماجه بلفظ: ((إنّ الماء لا يُنجِّسه شيء))، وفي إسناده: أبو سفيان طريف بن شهاب، وهو: ضعيف متروك. وعن ابن عباس عند أحمد، وابن خزيمة، وابن حبّان، بنحوه.

قوله: ((أتتوضأ)) -بتاءيْن مثناتيْن مِن فوق-: خطاب للنبي صلى الله عليه  وسلم كذا قال في (التلخيص).

وقوله: ((النَتْن))-بنون مفتوحة، وتاء مثنّاة من فوق ساكنة، ثم نون- قال ابن رسلان: “وينبغي أن يُضبط بفتح النون وكسر التاء -“النَتِن”- وهو: الشيء الذي له رائحة كريهة، من قولهم: نَتِن الشيء، بكسر التاء، ينتَن بفتحها؛ فهو: نَتِن”.

وقوله: ((بئر بُضاعة))، أهل اللّغة يضُمّون الباء ويكسرونها، والمحفوظ في الحديث: الضّمّ.

وقوله: ((والحِيض))-بكسر الحاء-: جمع حِيضة. مثل: سِدَر وسِدْرة. والمراد بها: خرقة الحيْض الذي تمسحه المرأة بها. وقيل: الحِيضة الخِرقة التي تستثفر المرأة بها.

وقوله: “وعَذِر الناس”: -بفتح العين المهملة، وكسر الذال المعجمة-: جمع عَذِرة، ككَلِمة وكَلِم، وهي: الخُرْء -يعني: الغائط- وأصلها اسم لفِناء الدار، ثم سُمِّي بها الخارج من الدُّبر، من باب تسمية المظروف باسم الظرف.

وقوله: ((إلى العانة)): قال الأزهري وجماعة: هي موضع منبت الشَّعر فوق قُبُل الرجل والمرأة.

وقوله: ((دون العورة))، قال ابن رسلان: يُشبه أن يكون المراد به: عورة الرجل”، أي: دون الركبة، لقوله صلى الله عليه  وسلم : ((عورة الرَّجل: ما بيْن رُكبتِه وسُرَّتِه)).

وقوله: ((ماء متغيّر اللون))، قال النووي: يعني بطول المكث وأصل المنبع، لا بوقوع شيء أجنبيّ فيه.

وهنا نُنبِّه على شيء مهم، وهو: أنه كيف يُلقي الناس مثل هذه الأشياء -الحِيض، وعذِر الناس وغيرها في هذا البئر، على الرغم من أنهم يستعملونها، على غير عادة العرب في التّنزّه؟

قال الإمام الخطّابي- مبيِّنًا معنى أن يُلقى في هذا البئر بعض هذه الأمور النّجسة- قال: “قد يتوهّم كثير من الناس إذا سمع هذا الحديث: أنّ هذا كان منهم عادة، وأنهم كانوا يأتون هذا الفعل قصدًا وتعمدًا؛ وهذا ما لا يجوز أن يُظَنّ بذمِّيّ بل بوثنيّ فضلًا عن مسلم.

ولم يزل مِن عادة الناس قديمًا وحديثًا، مسلِمهم وكافرهم، تنزيهُ المياه وصوْنها عن النجاسات؛ فكيف يُظن بأهل ذلك الزمان، وهم أعلى طبقات الدِّين، وأفضل جماعة المسلمين؟ والماء في بلادهم أعزّ والحاجة إليه أمس. كيف يكون هذا صنيعهم بالماء وامتهانُهم له، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه  وسلم من تغوّط في موارد الماء ومشارعه؟ فكيف مَن اتّخذ عيون الماء ومنابعه رصدًا للأنجاس ومطرحًا للأقذار؟ هذا ما لا يليق بحالهم؛ وإنما كان هذا من أجل أن هذه البئر موضعها في حدور الأرض -يعني: في منحدر الأرض- وأنّ السيول كانت تكسح هذه الأقذار مِن الطرق والأقنية وتحملها فتُلقيها فيها، وكان الماء لكثرته لا يؤثّر فيه وقوع هذه الأشياء ولا يُغيِّره. فسألوا رسول الله صلى الله عليه  وسلم عن شأنها ليعلموا حُكمها في الطهارة والنجاسة.

فكان من جوابه صلى الله عليه  وسلم لهم: أنّ الماء لا ينجِّسه شيء، يريد الكثير فيه الذي صفته صفة ماء هذه البئر في غزارته، وكثرة اجتماعه، لأن السؤال إنما وقع عنها بعيْنها، فخرج الجواب عليها.

الأحكام المستنبطة من الحديث:

يدلّ الحديث على أنّ الماء لا يتنجّس بوقوع شيء فيه، سواء كان قليلًا أو كثيرًا، ولو تغيّرت أوصافُه أو بعضها؛ لكن قام الإجماع على أنّ الماء إذا تغيّر أحدُ أوصافه بالنجاسة، خرج عن الطَّهوريّة؛ فكان الاحتجاج به لا بتلك الزيادة -كما سلف.

ب. باب: أسآر البهائم:

حديث ابن عمر وهو قوله: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه  وسلم يُسأل عن الماء يكون بالفلاة مِن الأرض، وما ينوبه من السِّباع والدّواب، فقال: إذا كان الماء قلَّتيْن لم يَحمِل الخبَث))، فمعناه: أن هذه الأسآر إذا كانت من ماء دون القلّتيْن، فإنه يحمل الخبث. فحديث ابن عمر في القلّتيْن يدلّ على نجاستها، وإلا يكون التحديد بالقلّتيْن في جواب السؤال عن ورودها على الماء عبثًا.

ثم ساق المصنِّف حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم : ((إذا ولغ الكلبُ في إناء أحدِكم فلْيُرقْه، ثم ليغسلْه سبْع مرّات))، رواه مسلم والنسائي.

وفي الباب أحاديث، منها: عن عبد الله بن مغفل، وفيها: ((يُغسل ويُعفَّر بالتراب ثمانِي مرّات)). وحديث ابن عمر الذي أشار إليه المصنِّف في القلّتيْن قد استُدِلّ به على نجاسة أسآر البهائم لِما ذَكَره.

قوله: ((إذا وَلَغ)) قال في (الفتح): “يقال ولَغَ يَلَغ -بالفتح فيهما. إذا شرب بطرف لسانه فيه فحرّكه.

وقوله: في ((إناء أحدِكم))، ظاهره: العموم في الآنية، وهو يُخرج ما كان من المياه في غير الآنية، وقيل: أصل الغسل معقول المعنى وهو: النجاسة؛ فلا فرق بين الإناء وغيره. وقال العراقي: “ذكْر الإناء خرج مخرج الغالب لا للتّقييد؛ فمعناه: سواء كان الماء في إناء أو في غيره”.

وقوله: ((فلْيُرِقْه))، قال النسائي: “لم يذْكر: ((فلْيُرقه)) غير علي بن مسهر” -هذا الذي في إسناد مسلم كما بيَّنّا. وقال ابن مندة: “تفرّد بذِكر الإراقة فيه عليّ بن مسهر، ولا يُعرف عن النبي صلى الله عليه  وسلم – بوجْه من الوجوه”. قال الحافظ: “ورد الأمر بالإراقة عند مسلم، من طريق الأعمش عن أبي صالح، وأبي رزين عن أبي هريرة. وقد حسّن الدارقطني حديث الإراقة، وأخرجه ابن حبّان في “صحيحه”، ورواه مسلم بزيادة: ((أُولاهنّ بالتراب))”.

والحديث يدل على وجوب الغسلات السّبْع من ولوغ الكلب؛ وإليه ذهب ابن عباس وعروة بن الزبير، ومحمد بن سيرين، وطاوس، وعمرو بن دينار، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود. وذهبت العترة والحنفيّة إلى عدم الفرْق بين لعاب الكلب وغيْره من النّجاسات، وحملوا مثلَ حديثنا على النّدب.

وقد اختُلف أيضًا في وجوب التتريب للإناء الذي ولَغ فيه الكلب.

واستُدلّ بهذا الحديث على نجاسة الكلب، لأنه إذا كان لعابُه نجسًا -وهو عَرَق فمه- ففمُه نجِس، ويستلزم ذلك نجاسة سائر بدنه، وذلك لأن لعابه جزء من فمه، وفمه أشرف ما فيه، فبقيّة بدنه أوْلى؛ وقد ذهب إلى ذلك الجمهور.

وقال عكرمة، ومالك -في رواية عنه- إنه طاهر، ودليلهم: قول الله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، ولا يخلو الصيد عن التلوث بريق الكلاب، ولم نُؤمَر بالغسل.

وأجيب عن ذلك بأنّ إباحة الأكل ممّا أمسكن لا تُنافي وجوب تطهير ما تنجّس مِن الصيد، وعدم الأمر للاكتفاء مِن أدلّة تطهير النجس من العموم. يعني: لو سُلّم بأنه يؤكل من صيد الكلب دون تطهير، فغايته الترخيص في الصيد بخصوصه، فلا ينسحب على الماء الذي ولغ فيه أو الإناء الذي ولغ فيه.

واستدلّوا أيضًا بما ثبت عند أحمد، من حديث ابن عمر بلفظ: “كانت الكلاب تُقبل وتُدبر زمان رسول الله صلى الله عليه  وسلم في المسجد، فلم يكونوا يرشّون شيئًا من ذلك”، وهو في البخاري. وأخرجه الترمذي بزيادة: “وتبول”. ورُدّ بأن البول مُجمَع على نجاسته، فلا يصحّ حديث بول الكلاب في المسجد حجّة يعارض بها الإجماع. وأما مجرّد الإقبال والإدبار فلا يدُلّان على الطهارة. وأيضًا يُحتمل أن يكون ترْك الغَسل لعدم تعيِين موضع النجاسة، أو لطهارة الأرض بالجفاف.

قال المنذري: “إنها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها، ثم تُقبل وتُدبر في المسجد”. قال الحافظ: “والأقرب أن يقال: إنّ ذلك كان في ابتداء الحال على أصل الإباحة، ثم ورد الأمْر بتكريم المساجد وتطهيرها، وجعْل الأبواب عليها”. يعني: فلا يصحّ ذلك حجّة في أنّ لعاب الكلب طاهر، كما ذهب إليه بعضهم.

واستدلّوا على الطهارة أيضًا بما سيأتي من الترخيص من كلب الصيد والماشية والزرع. وأجيبَ بأنه لا منافاة بين الترخيص وبين الحكم بالنجاسة؛ غاية الأمر: أنه تكليف شاقّ، وهو لا ينافي التعبّد به.

جـ. باب: سؤر الهِرّ:

والسّؤر: ما بقي من شراب الهر، أو من شراب الكلب، أو غيره…

عن كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت تحت بن أبي قتادة: أن أبا قتادة دخل عليها فسكبتْ له وضوءًا، فجاءت هرة تشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت منه. قالت كبشة: فرآني أنظر، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم. فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه  وسلم : قال: ((إنها ليست بنجَس؛ إنها مِن الطّوافِّين عليكم والطّوافّات))، رواه الخمسة -أي: أصحاب السنن الأربع وأحمد. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وعن عائشة، عن النبي صلى الله عليه  وسلم : ((أنه كان يُصغي إلى الهرّة الإناء حتى تشرب، ثم يتوضّأ بفَضْلها)).رواه الدارقطني.

قال الشوكاني: والحديثان يدلان على طهارة فم الهرّة، وطهارة سؤرها؛ وإليه ذهب الشافعي، والهادي. وقال أبو حنيفة: بل نجِس كالسّبُع، ولكن خُفِّف فيه فكُره سؤرُه، واستدلّ بما ورد عنه صلى الله عليه  وسلم من أنّ الهرّ سبُع، في حديث أخرجه أحمد، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، من حديث أبي هريرة، بلفظ: ((السِّنَوْر سبُع))، وبما تقدم من قوله صلى الله عليه  وسلم عند سؤاله عن الماء وما ينوبه مِن السِّباع والدّواب، فقال: ((إذا كان الماء قُلَّتيْن لم يُنجِّسه شيء)).

وأجيبَ بأنّ حديث الباب مُصرِّح بأنها ليست بنجَس، فيُخصَّص به عمومُ حديث السِّباع -يعني: لا ينسحب على الهر، بعد تسليم ورود ما يقضي بنجاسة السِّباع. وأما مجرّد الحُكم عليها بالسبُعيّة فلا يستلزم أنها نجَس، إذ لا ملازمة بين النجاسة والسبُعيّة؛ على أنه قد أخرج الدارقطني من حديث أبي هريرة، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه  وسلم عن الحياض التي تكون بين مكة والمدينة، فقيل: إن الكلاب والسِّباع تَرِد عليها، فقال: ((لها ما أخذتْ في بطونها، ولنا ما بَقِي: شرابٌ وطَهور)).

وقوله: “فأصغى الإناء”، يعني: أمال الإناء للهرة، وفي “القاموس”: وأصغى: استمع، وإليه: مال بسمعه، والإناء: أمالَه.

وقوله: ((إنها من الطّوّافِين…)) إلخ: تشبيه للهرّة بخدم البيت الذين يطوفون للخدمة.

فالخلاصة: أن سؤر الهرّة طاهر، يجوز التطهّر به، سواء أكان مخصِّصًا لأحاديث السباع، أو كانت السباع كلّها أسآرها طاهرة -والله أعلم.

error: النص محمي !!