باب صفة الأذان، وأن المؤذن يجعل أصبعيه في أذنيه ويلوي عنقه عند الحيعلة
أ. باب: صِفة الأذان:
1. حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربّه في رُؤْيا الأذان.
قال الإمام مجْد الدِّين ابن تيمية -رحمه الله-: عن محمد بن إسحاق, عن الزُّهْري, عن سعيد بن المُسيّب, عن عبد الله بن زيد بن عبد ربّه, قال: ((لمّا أجمَع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يَضْرِب بالنّاقوس, وهو له كارِه لِمُوافقتِه النّصارى، طاف بي مِن الليل طائفٌ وأنا نائم: رجلٌ عليه ثوْبان أخضران, وفي يدِه ناقُوس يحْمِله. قال: فقلت: يا عبد الله! أتبيع النّّّاقوس؟ قال: وما تَصْنع به؟ قال: قُلت أدعو به إلى الصّلاة. قال: أفلا أدلّك على خيرٍ مِن ذلك؟ فقُلت بلى! قال: تقول: “الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! أشهد ألّا إله إلّا الله! أشهد ألّا إله إلّا الله! أشهد أنّ محمّدًا رسول الله! أشهد أنّ محمّدًا رسول الله! حيّ على الصّلاة! حيّ على الصلاة! حيّ على الفلاح! حيّ على الفلاح! الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلّا الله!”. قال: ثمّ اسْتأخَر غيْر بعيدٍ. قال: ثمّ تقول إذا أقمْت الصّلاة: “الله أكبر! الله أكبر! أشهد ألّا إله إلّا الله! أشهد أنّ محمّدًا رسول الله! حيّ على الصّلاة! حيّ على الفلاح! قد قامت الصّلاة! قد قامت الصلاة! الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلّا الله”. قال: فلمّا أصبحْتُ، أتيْت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرْته بما رأيْت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ هذه الرُّؤيا حقٌّ -إنْ شاء الله. ثمّ أمَر بالتّأذين. فكان بلال -موْلى أبي بكر- يؤذِّن بذلك، ويدعو رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى الصّلاة. قال: فجاءه فدعاه ذات غداة إلى الفجر، فقيل له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، فصَرخَ بلالٌ بأعْلى صوْته: “الصّلاة خيْر مِن النّوم!”)).
قال سعيد بن المُسيّب: ((فأُدْخِلَتْ هذه الكَلِمة في التّأْذين إلى صلاة الفجر))، رواه أحمد, وأبو داود, من طريق محمّد بن إسحاق, عن محمّد بن إبراهيم التّيْمي, عن محمّد بن عبد الله بن زيْد, عن أبيه.
والحديث فيه: ترْبيع التّكبير -يعني: “الله أكبر!” أرْبع مرّات: “الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!”. وقد ذَهب إلى ذلك: الشّافعي، وأبو حنيفة ,وأحمد، وجُمهور العلماء؛ كذا قال النّووي.
ومِن أهل البيْت: النّاصر, والمُؤيّد بالله, والإمام يحْيى.
واحتجُّوا بهذا الحديث؛ فإنّ المشهور فيه: التّربيع، أي: تُذْكر “الله أكبر!” أربعًا في أوّل الأذان.
وذَهب مالكٌ وأبو يوسف، ومِن أهل البيت: زيد بن علي، والصّادق, والهادي، والقاسم, إلى تثْنِيته -أي: “الله أكبر! الله أكبر!” فقط في أوّل الأذان- مُحْتجّين بما وَقع في بعض رِوايات هذا الحديث مِن التّثْنِية، وبحديث أبي مَحْذُورة الآتي في رواية مُسْلمٍ عنه. وفيه: أنّ الأذان مَثْنى فقط.
احتجّوا أيضًا بأنّ التّثْنِية عَمَل أهل المدينة، وهم أعرَف بالسُّنَن.
واحتجّوا أيضًا بحديث أمْرِه صلى الله عليه وسلم لبلال بتشْفيع الأذان، وإيتاره الإقامة.
والحقّ: أنّ روايات التّربيع أرْجح، لاشْتِمالها على الزّيادة، لأنّها تَزيد مرّتيْن في: “الله أكبر!”، والزّيادة مقبولة هنا لِعدَم مُنافاتِها، وصِحّة مخْرجها.
وفي الحديث: ذِكْر الشّهادتيْن مثْنى مثْنَى؛ وقد اختَلف النّاس في ذلك. فذَهب أبو حنيفة والكوفيّون, والهادوية، والناصرية إلى: عدَم اسْتِحْباب التّرجيع، تَمسّكًا بظاهر الحديث.
و”التّرجيع”: هو العَوْد إلى الشّهادتيْن مرّتيْن مرّتيْن، برفْع الصّوْت بعدَ قوْلها مرّتيْن مرّتيْن بِخفْض الصّوت؛ ذَكَر ذلك النّووي في (شرح مسلم).
وروى ابن خُزيْمة، والدارقطني, والبيْهقي, عن أنس أنّه قال: مِن السُّنة إذا قال المُؤذِّن في الفجر: “حيّ على الفلاح!”, قال: “الصّلاة خيْرٌ مِن النّوم”. قال ابن سيِّد النّاس اليَعْمُري: “هو إسنادٌ صحيح”.
وفي الباب عن عائشة عِند ابن حبّان، وعن نُعيْم النّحام عند البيهقي.
وقد ذهب إلى القوْل بشَرْعيّة التّثْويب عُمَر بن الخطّاب وابنه, وأنس والحسن البصري, وابن سيرين والزُّهْري, ومالك والثوري, وأحمد وإسحاق, وأبو ثَوْر وداود, وأصحاب الشّافعي. وهو رأي الشافعيّ في القديم، ومكروه عنده في الجديد. وهو مرويّ عن أبي حنيفة.
واختلفوا في محلّه، فالمشهور أنّه في صلاة الصّبح فقط, كما سبق في كثير من الأدلّة. وعن النّخعي وأبي يوسف: أنّه سُنّة في كلّ الصلوات، وكأنّهم قاسوا الصّلوات على صلاة الفجر. وحَكى القاضي أبو الطّيب، عن الحسن بن صالح: أنّه يُستحبّ في أذان العشاء.
والأحاديث لم تَرِِد بإثباته إلّا في صلاة الصبح لا في غيرِها؛ فالواجب الاقتِصار على ذلك، والجزْم بأنّ فَِعْله في غيرها بدْعة, كما صرّح بذلك ابن عُمر وغيره.
قال الشوكاني: “وأقُول: قد عرَفتَ ممّا سَلف رفْعَه إلى النّبي صلى الله عليه وسلم والأمْر به على جهَة العموم، وليس في حالٍ مخْصوص فقط. أمَر به صلى الله عليه وسلم على جِهة العموم مِن دون تخْصيص بوقْت دون وقت. وابن عُمر لمْ يُنْكِر مطْلق التّثويب، بل أنكَره في صلاة الظّهر. ورواية الإنكار عن علي رضي الله عنه لو صحّت لا تَقْدح في مَرويّ غيره، لأنّ المُثبِت أوْلى، ومَن عَلِم حُجّة على مَن لم يَعْلم، والتّثويب زيادةٌ ثابتةٌ؛ فالقول بها لازم”.
وانْتَقل الشّوكاني إلى نُقطة أخْرى وهي في إفراد الإقامة, أو عدَم إفرادها. قال الإمام الشوكاني: وفي الحديث: إفراد الإقامة إلّا التّكبير في أوّلها وآخِرها: “الله أكبر! الله أكبر!” ففِيه تثْنيَة، و”قد قامَت الصّلاة” ففِيها تثْنِية أيضًا.
وقوْله في الحديث: ((لمّا أجمَع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يضرب بالنّاقوس))، هو الذي تضْرب ٍبه النّصارى لأوْقات صلاتهم، وجَمْعه: نواقيس. والنّقْس: ضرْب النّاقوس.
وقوله: ((حيّ على الصّلاة! حيّ على الفلاح!)): اسم فِعْل كلِمة: ((حيّ)) معناه: أقبِلوا إليها، وهلُمّوا إلى الفوْز والنّجاة. وفُُتِحت الياء لسُكونها, وسُكون الياء السّابقة المُدْغمة: ((حيّ)).
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((فقُم مع بلال، فألْق عليه ما رأيْت؛ فإنّه أندَى صوتًا منك)). أي: أحسن صوْتًا منْك. وفيه دليلٌ على استحباب اتّخاذ مؤذِّنٍ حَسَن الصّوْت.
وقد أخْرج الدّارمي, وأبو الشّيخ بإسنادٍ مُتّصلٍ بأبي مَحْذُورة: ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَرَ بِنحْو عشْرين رجلًا فأذّنوا, فأعجبه صوْت أبي محذورة، فعلّمه الأذان)). وأخرجه أيضًا ابن حبّان مِن طريقٍ أخْرى، ورواه ابن خُزَيْمة في (صحيحه).
ب. باب: المؤذِّن يجْعل إصبعيْه في أذُنيْه، ويَلْوي عُنُقه عند الحيْعَلة:
حديث أبي جُحَيْفة: روى الإمام مجد الدين ابن تيمية -رحمه الله- قال: عن أبي جُحَيْفة قال: ((أتيْت النّبي صلى الله عليه وسلم بمكّة، وهو بالأبطَح في قُبّة له حَمْراء مِن أدَم. قال: فخرَج بلالٌ بوَضوئه. فمِن ناضحٍ ونائل. قال: فخرج النّبي صلى الله عليه وسلم عليْه حُلّة حمراء، كأنِّي أنظر إلى بياض ساقيْه. قال: فتوضّأ. وأذّن بلال، فجَعلتُ أتتبّع فاه ها هنا وها هنا؛ يقول يمينًا وشمالًا: “حيّ على الصّلاة! حيّ على الفلاح!”. قال: ثمّ رُكِزَتْ له عنَزَة، فتقدّم فصلّى الظّهر ركعتيْن. يَمرّ بين يديْه الحمار والكلب، لا يُمنَع)). وفي رواية: ((يمُرّ مِن ورائها المرأة والحمار. ثمّ صلّى العصر. ثمّ لم يزَل يُصلِّي حتّى رَجَع إلى المدينة)). متفقٌ عليه.
ولأبي داود: ((رأيت بلالًا خَرج إلى الأبطَح فأذّن، فلّما بلَغ “حيّ على الصّلاة! حيّ على الفلاح!”, لوى عُنُقه يمينًا وشمالًا، ولم يسْتدِر)). وفي رواية: ((رأيت بلالًا يؤذِّن ويدور. وأتتبّع فاه ها هنا وها هنا. وأصبَعاه في أذنيْه)). قال: ((ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قبّة له حَمْراء أراها مِن أدَم)). قال: ((فخَرج بلالٌ بين يديْه بالعنَزة, فرَكَزها. فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه حُلّة حمْراء كأنّي أنظر إلى بَرِيقِ ساقَيْه)). رواه أحمد, والترمذيّ وصحّحه.
هذا حديث صحيحٌ متّفق عليه، أخرجه البخاري عن محمّد بن يوسف, وأخرجه مُسْلم عن زهير بن حرب، عن وكيع؛ كلٌّ عن سفيان. ورُوي عن عون بن أبي جحيفة, عن أبيه قال: ((رأيت بلالًا يؤذِّن، وإصبِعاه في أذنيْه. فلمّا بلغَ “حيّ على الصّلاة! حيّ على الفلاح!”, لوى عُنقه يمينًا وشمالًا، ولم يسْتَدْبِر)).
وأبو جحيفة اسْمُه: وَهْب بن عبد الله السُّوائي، نَزَل الكوفة. والعَمَل على هذا عند بعض أهل العِلْم, يستَحِبُّون وضْع المسبِّحتيْن في الأذنيْن في الأذان.
وقال بعضهم: في الإقامة أيضًا، وهو قوْل الأوزاعي. وكان ابن عُمر لا يجْعل إصْبعه في أذنيْه.
واستحبّوا أنْ يؤذِّن مُسْتقبِل القِبْلة, لا يلْتفت إلّا في “حيّ على الصلاة! حيّ على الفلاح!”؛ فإنّه يَلْوي فيهما عنُقه ولا يُزيل قدمَيْه.
قال الإمام البَغوي: وهو في أدَب الأذان حَسَن. وأراد بالمُعتِصر الذي ضَرَب الغائط.
وفي حديث عُمر: ((إذا أذّنتَ فترَسّلْ، وإذا أقمت فاحْذِم)). ومعناه: الحَدَر أيضًا، وهو قطْع التّطْويل.
ورُوي عن ابن عمر أنّه: كان يُرتل الأذان، ويحْدُر الإقامة. وقال عمر بن عبد العزيز: “أذِّن أذانًا سمْحًا وإلّا فاعْتزِلنا”.
قال مالك: “لا بأْس أنْ يؤذِّن وهو راكب”، هذا ما قاله الإمام البغوي تعليقًا على هذا الحديث.
قال الإمام الشوكاني: الحديث أخرجه النسائي بزيادة: ((فجَعل يقول في أذانه هكذا: ينْحرف يمينًا وشمالًا)). وابن ماجه بزيادة: ((رأيته يَدُور في أذانه))، لكنْ في إسناده الحجّاج بن أرطاه.
ورواه الحاكم بزيادة ألفاظ، وقال: قد أخرجاه إلّا أنّهما لم يذْكُرا فيه إدخال الأصْبعيْن في الأذنيْن والاستِدارة، وهو: صَحِيح على شرْطِهما.
ورواه ابن خُزيْمة بلفظ: ((رأيت بلالًا يؤذِّن يتْبَع بِفِيه، يَمِيل رأسه يمينًا وشمالًا)). ورواه من طريق أخْرى بِزيادة: ((ووَضَع الأصْبعيْن في الأذنيْن)). وكذا رواه أبو عوانة في (صحيحه)، وأبو نُعَيْم في (مُسْتخرجِه) بزيادة: ((رَأى أبو حُجيْفة بلالًا يؤذِّن, ويدور وأصْبُعاه في أذنيْه)). وكذا رواه البزّار.
وقوله: ((العنَزَة)). هي عصًا كانت توضع كسُتْرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تُركَز أمامه بين يديْه حتّى لا يضرّ من يمرّ أمامه, كما في هذا الحديث.
وقوله: ((فمِن ناضحٍ ونائل)): “النّاضح” الآخِذ مِن الماء لجَسدِه تبرُّكًا ببَقِيّة وَضوئه صلى الله عليه وسلم. و”النّائل”: الآخِذ من ماءٍ في جََسَد صاحبه لفراغ الماء لقصْد التّبرّك.
وفي رواية في الصّحيح: ((ورأيت بلالًا أخرج وَضوءًا، فرأيت النّاس يبْتَدِرون ذلك الوَضوء. فَمَن أصاب منه شيئًا تمَسّح به, ومَن لم يُصِب أخَذ مِن بَلَلِ صاحبه)). وبهذه الرِّواية يُتَبيّن المراد من تلك العبارة – يعني: ((مِن ناضحٍ ونائل)). و”النّضْح”: الرّش.
وقوله: ((هاهنا وهاهنا)): ظَرْفا مَكان، والمراد بهما جِهَة اليمِين وجِهَة الشِّمال, كما فَسّره بذلك الرّاوي.
ويدل الحديث على مشروعية التفات المؤذِّن يمينًا وشمالًا. يعني: المؤذن يستقْبل القِبْلة في الأذان, لكنْ من المشروعية أنْ يلْتفِت يمينًا وشمالًا, ليصِل كلامه إلى مَن حوْله. ويدُلُّ أيضا الحديث على جعْل الأصبعيْن في الأذنيْن حالَ الأذان.
وسُنبيِّن الحكمة في ذلك.
ونُنَبِّه هنا قَبْل أنْ نتكلّم على الحديث, إلى أنّ هذا يمْكِن الاستغناء عنه بمُكبِّرات الصّوت التي تَنْشُر أذان المُؤذِّن هنا وهناك، والتفاته إذا كان يؤذِّن فيها لا يُفيد.
وفي الحديث: استحباب وضْع الأصبعيْن في الأذنيْن، وفي ذلك فائدتان ذَكَرهُما العلماء:
الأولى: أنّ ذلك أرْفَع لِصَوْته.
والفائدة الثّانية مِنْ وَضْع الأصبعيْن في الأذنيْن: أنّه عَلامة لِلْمؤذِّن لِيَعرِِف مَن يَراه على بُعدٍ، أو مَن كانَ به صَمَمٌ أنّه يُؤذِّن.
وفي هذا يُمْكنُنا أنْ نتسامح الآن, فنقول إنّه لا حاجة إلى وضْع الأصبعيْن في الأذنيْن، لأنّ الفائدتيْن موجودتان وهو والمؤذِّن أمامَ مكَبِّرات الصّوْت، اللّهم إلّا عند كثيرٍ مِن المسلمين, الذين لا يُتوفّر لهم مثلُ هذه المكبِّرات, فتَحُصل الفائدتان اللّتان نصّ عليهما الإمام الشوكاني -رحمه الله.