باب علم مختلف الحديث
وبعد بيان معرفة النّاسخ والمنسوخ، لَزِم علينا أيضًا أن نتعرّف على علْم مختلِف الحديث؛ فقد يكون الحديث صحيحًا، ويُعارض حديثًا آخَر صحيحًا، ومعرفة مختلِف الحديث إنما يكمُل للقيام به الأئمّةُ الجامعون بين صناعتَيِ الحديث والفقه، الغوّاصون على المعاني الدقيقة.
فما يُذكر في هذا الباب ينقسم إلى قسميْن:
أحدهما: أن يُمكن الجمْع بين الحديثيْن، ولا يتعذّر إبداء وجْهٍ يَنفي تنافيهما، فيتعيّن حينئذ المصيرُ إلى ذلك، والقولُ بهما معًا. ومثالُه: حديث: ((لا عَدْوى ولا طِيَرة)) مع حديث: ((لا يُورد مُمْرِضٍ على مُصِحّ)) وحديث: ((فِرَّ مِن المجذوم فِرارَك من الأسد)). فبعضُهم جعَله متعارضًا، وبعضُهم أدخله في النّاسخ والمنسوخ، كأبي حفص ابن شاهين. ولكنّ الصواب هو: الجمْع بينهما.
ووجْه الجمْع بينهما: أنّ هذه الأمراض لا تُعدِي بطبْعها، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل مُخالطةَ المريض بها للصحيح سببًا لإعدائه ومرَضه. ثم قد يتخلّف ذلك عن سببه، كما في سائر الأسباب؛ وهذا هو مسلك ابن الصّلاح.
قال الحافظ العراقي: “نفَى صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا عَدْوى)) ما كانت الجاهلية تعتقده وبعضُ الحكماء مِن أنّ هذه الأمراض تُعدي بطبْعها، ولهذا قال: ((فَمَن أعْدى الأوّل؟))، أي: أنّ الله سبحانه وتعالى هو الخالقُ لذلك بسبب وغيرِ سبب. وبيّن بقوله: ((لا يُورد مُمْرضٌ))، وقوله: ((فِرَّ من المَجذوم)): أنّ الله سبحانه وتعالى هو الخالق مِن الأسباب عند المخالطة للمريض. وقد يتخلّف ذلك عن سبَبِه؛ وهذا مذهب أهل السُّنّة، كما أنّ النار لا تحرق بطبعها، ولا الطّعام يُشبع بطبْعه، ولا الماءُ يروي بطبْعه؛ وإنّما يخلق الله سبحانه وتعالى الإحراق والشّبع والرّيَّ عند ذلك، والقدرة وراء ذلك. وقد وجدْنا مَن خالط المُصاب بالأمراض التي اشتهرت بالإعداء، ولم يتأثّر بذلك، ووجدنا أيضًا مَن احترز وابْتُلي”.
والثاني: أنّ نفْي العدوى باقٍ على عمومه، والأمر بالفرار من باب سدِّ الذّرائع، لئلاّ يتّفق للّذي يُخالطه شيء من ذلك بتقدير الله سبحانه وتعالى ابتداءً لا بالعدوى المنفيّة، فيظنّ أنّ ذلك بسبب مخالطته، فيعتقد صحّة العدوى ويقع في الحرج؛ فأُمِر بتجنّبه حسْمًا للمادة؛ وهذا هو المسلك الذي اختاره شيخ الإسلام.
والثالث: أنّ إثبات العدوى في الجُذام ونحوه مخصوص من عموم نفْي العدوى، فيكون معنى قوله: ((لا عَدْوى)) أيْ: إلَّا مِن الجذام ونحوه؛ فكأنه قال: لا يُعدِي شيءٌ شيئًا، إلَّا فيما تقدّم تَبيينِي له أنه يُعدي،؛ قاله القاضي أبو بكر الباقلاني.
والرابع: أنّ الأمْر بالفرار رعاية لخاطر المجذوم؛ لأنه إذا رأى الصحيح تَعظُم مُصيبتُه، وتزداد حسْرتُه، ويؤيِّده حديث: ((لا تُديموا النّظر إلى المَجذومِين))، فإنه محمول على هذا المعنى.
وفيه مسالك أخَر:
ففي الحديث الأوّل: نفَى صلى الله عليه وسلم ما كان يعتقده الجاهليُّ مِن أنّ ذلك يُعدي بطبْعه؛ ولهذا قال: ((فمَن أعْدى الأوّل؟)).
وفي الحديث الثاني: أعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن الله سبحانه وتعالى جَعَل ذلك سببًا لذلك، وحذّر من الضرر الذي يَغلب وجودُه عند وجودِه بفعْل الله سبحانه وتعالى ولهذا في الحديث أمثال كثيرة.
وقد صنّف فيه الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- وهو أوّل مَن تكلّم فيه. ولم يقصد استيفاءه ولا إفرادَه بالتأليف؛ بل ذكَر جملة منه في كتابه (الأم)، نبّه بها على طريق الجمع في ذلك.
ثم صنّف فيه ابن قتيبة، فأتى فيه بأشياء حسَنة وأشياء غير حسَنة، قصُر فيها باعُه، لكوْن غيرها أوْلى وأقوى منها، وترَك معظَم المختلِف.
ثم صنّف في ذلك ابن جرير، والطحاوي كتابه (مشكل الآثار). وكان بن خزيمة مِن أحسن الناس كلامًا فيه، حتى قال: “لا أعرف أنه رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان بإسناديْن صحيحيْن متضادّيْن. فمن كان عنده، فليأتِني به لِأُؤَلِّف بينهما”. ومن جمع ما ذكرنا من الحديث، والفقه، والأصول، والغوْص على المعاني الدقيقة، لا يُشكل عليه من ذلك إلَّا النّادر في الأحيان.
والقسم الثاني من أقسام هذا الباب: أن يتضادّا، بحيث لا يمكن الجمْع بينهما؛ وذلك على ضربيْن:
أحدهما: أن يظهر كوْن أحدِهما ناسخًا، والآخَر منسوخًا؛ فيُعمل بالناسخ، ويُترك المنسوخ. والثاني: أن لا تقوم دلالة على أنّ الناسخ أيّهما والمنسوخ أيّهما؛ فيُفزع حينئذ إلى التّرجيح، ويُعمل بالأرجح منهما والأثبت، كالترجيح بصفات الرواة مثلًا.
قال السيوطي: “أي: كون رواة أحدِهما أتقن وأحْفظ، ونحو ذلك… -ممّا سيذكر بعد ذلك- وكثرتهم في أحَد الحديثيْن في خمسين وجهًا من المرجِّحات، ذكَرها الحازمي في كتابه (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ)، ووصلها غيره إلى أكثر من مائة، كما استوفى ذلك العراقي في “نكته”، وقال: “قد رأيتُها منقسمة إلى سبعة أقسام:
الأوّل: الترجيح بحال الراوي، وذلك بوجوه:
أحدها: كثرة الرواة، كما ذكر ابن الصلاح؛ لأنّ احتمال الكذب والوهْم على الأكثر أبعَدُ من احتماله على الأقلّ.
ثانيها: قِلّة الوسائط، أي: عُلوّ الإسناد حيث الرِّجال ثقات؛ لأنّ احتمال الكذب والوهْم فيه أقلّ.
ثالثها: فقْه الراوي، سواء كان الحديث مرويًّا بالمعنى أو اللفظ؛ لأنّ الفقيه إذا سمع ما يَمتنع حمْلُه على ظاهره بحَث عنه حتى يَطّلع على ما يزول به الإشكال، بخلاف العامِّيّ.
رابعها: علْمه بالنحو، لأن العالِم به يتمكّن من التّحفظ عن مواقع الزلل ما لا يتمكّن منه غيره.
خامسها: حِفْظُه، بخلاف مَن يعتمد على كتابه.
سادسها: أفضليّته في أحَد الثلاثة، بأن يكونا فقيهيْن أو نحويّيْن أو حافظَيْن، وأحدُهما في ذلك أفضل من الآخَر.
سابعها: زيادة ضبْطه، أي: اعتناؤه بالحديث واهتمامُه به.
ثامنها: شُهرته؛ لأنّ الشّهرة تمنع الشخص من الكذب، كما تمْنعُه من ذلك التّقوى.
تاسعها إلى العشرين: كونُه ورِعًا، أو حسَن الاعتقاد، أو غير مبْتدع، أو جليسًا لأهل الحديث أو غيرهم من العلماء، أو أكثر مجالسة لهم، أو ذكَرًا، أو حُرًّا، أو مشهور النّسَب، أو لا لَبْس في اسمه بحيث يُشاركه فيه ضعيف وصعُب التمييز بينهما، أو له اسم واحد ولِذلك أكثر ولم يختلط، أو له كتاب يرجع إليه.
الحادي والعشرون: أن تَثبت عدالتُه بالإخبار، بخلاف من تَثْبُت بالتّزكية، أو العمل بروايته، أو الرواية عنه، وإن قلنا بهما.
الثاني والعشرون إلى السابع والعشرين: أن يعمل بخبره مَن زكّاه، ومُعارضه لم يَعمل به مَن زكّاه، أو يُتّفق على عدالته، أو يُذكَر سبب تعديله، أو يَكثر مُزكّوه، أو يكونوا علماء، أو كثيري الفحص عن أحوال الرِّجال.
الثامن والعشرون: أن يكون صاحبَ القصّة، كتقديم خبَر أمِّ سلمة زوج النبيصلى الله عليه وسلم في الصوم لِمَن أصبح جُنبًا على خبَر الفضل بن عباس في منْعه؛ لأنها أعلَم منه.
التاسع والعشرون: أن يُباشر ما رواه.
الثلاثون: تأخّر إسلامِه، وقيل: عكسه، لقوّة أصالة المتقدِّم ومعرفته. وقيل: إن تأخّر موتُه إلى إسلام المتأخِّر لم يُرجّح بالتأخير، لاحتمال تأخُّر روايته عنه. وإن تقدّم أو عُلِم أنّ أكثر رواياته متقدِّمة على رواية المتأخِّر رجح.
والحادي والثلاثون إلى الأربعين: كونه أحسَنَ سياقًا واستقصاءً لحديثه، أو أقربَ مكانًا، أو أكثر ملازمةً لشيخه، أو سمِع من مشايخ بلده، أو مُشافِهًا مُشاهِدًا لشيخه حال الأخْذ، أو لا يجيز الرواية بالمعنى، أو الصحابي مِن أكابرهم، أو عليّ, وهو في الأقضية، أو معاذ, وهو في الحلال والحرام، أو زيد, وهو في الفرائض، أو الإسناد حجازيّ، أو رواته مِن بلد لا يَرضَوْن التدليس.
والقسم الثاني: الترجيح بالتّحمّل، وذلك بوجوه:
أحدها: الوقت، فيرجّح منهم مَن لم يتحمّل بحديث إلَّا بعد البلوغ، على مَن كان بعضُ تحمّلِه قبْله أو بعضُه بَعْدَه، لاحتمال أن يكون هذا ممّا قبْله، والمحتمل بعْده أقوى لتأهُّله للضبط.
ثانيها وثالثها: أن يتحمّل بـ”حَدّثَنا” والآخَر عَرْضًا، أو عَرْضًا والآخَر كتابةً أو مُناولةً أو وجادة.
والقسم الثالث: الترجيح بكيفيّة الرواية، وذلك بوجوه:
أحدها: تقديم المَحْكِيِّ بلفظه على المَحْكيِّ بمعناه، والمشكوكِ فيه على ما عُرف أنّه مرويّ بالمعنى.
ثانيها: ما ذُكر فيه سببُ وُروده على ما لم يُذكَرْ فيه، لدلالته على اهتمام الراوي به حيث عَرَف سبََبَه.
ثالثها: أن لا يُنكرَه راويه، ولا يتردّد فيه.
رابعها إلى عاشرها: أن تكون ألفاظه دالّة على الاتّصال كـ”حَدَّثَنا”، و”سمعْتُ”، أو اتُّفق على رفْعه أو وصْله، أو لم يُختلَفْ في إسناده، أو لم يَضطربْ لفظُه، أو رُوي بالإسناد وعُزي ذلك لكتاب معروف، أو عزيز والآخَر مشهور.
والقسم الرابع: الترجيح بوقت الورود، وذلك بوجوه:
أحدها وثانيها: بتقديم المدنيّ على المكِّيّ، والدّالِّ على عُلوّ شأن المصطفى صلى الله عليه وسلم على الدّالِّ على الضعف، كـ((بدأ الإسلام غريبًا))، ثم شهرته، فيكون الدّالُّ على العلوِّ متأخِّرًا.
ثالثها: ترجيح المتضمِّن للتخفيف، لدلالته على التّأخُّر، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يُغلظ في أوّل أمْره، زجرًا عن عادات الجاهلية، ثم مال للتخفيف؛ كذلك قال صاحب (الحاصل) و(المنهاج). ورجّح الآمدي، وابن الحاجب، وغيرُهما، عكسَ ذلك، وهو: تقديم المتضمِّن للتغليظ؛ وهو الحقّ، لأنه صلى الله عليه وسلم جاء أولًا بالإسلام فقط، ثم شُرعت العبادات شيئًا فشيئًا.
ورابعها: ترجيح ما تَحمّل بعد الإسلام على ما تَحمّل قبْله، أو شكّ بأنه أظهر تأخرًا.
خامسها وسادسها: ترجيح غيرِ المؤرَّخ على المؤرَّخ بتاريخ المتقدِّم، وترجيح المؤرّخ بمقارب بوفاته صلى الله عليه وسلم على غير المؤرّخ. قال الرازي: “والترجيح بهذه السِّتة -أي: إفادتها للرّجحان- غير قويّة”.
والقسم الخامس: الترجيح بلفظ الخبر، وذلك بوجوه:
أحدها إلى الخامس والثلاثين: ترجيح الخاصّ على العامّ، والعامّ الذي لم يُخصَّص على المُخصّص، لضعف دلالته بعد التخصيص على باقي أفراده، والمطلَق على ما ورد على سبب، والحقيقةِ على المجاز، والمجازِ المشبه للحقيقة على غيره، والشرعية على غيرها، والعُرفيّة على اللغوية، وما يقلّ فيه اللّبس، وما اتُّفق على وضْعه لمسمّاه، والمومئ للعلّة، والمنطوق، ومفهوم الموافقة على المخالفة، والمنصوص على حُكمه مع تشبيهه بمحلٍّ آخَر، والمستفادِ عمومه من الشرط والجزاء على النّكرة المنفيّة، أو من الجمْع المعرّف على “من”، و”ما”، أو من الكل، وذلك من الجنس المعرّف، وما خطابه تكليفيّ على الوضعيّ، وما حُكمه معقول المعنى، وما قُدِم فيه ذكْر العلّة أو دلّ الاشتقاق على حُكمه، والمقارِن للتهديد، وما تهديده أشدّ، والمؤكَّد بالتكرار، والفصيح، وما بِلُغَة قريش، وما دلّ على المعنى المراد بوجهيْن فأكثر، وبغير واسطة، وما ذُكر معه معارضُه كـ: ((كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور، فزوروها))، والنّصّ، والقول، وقول قارنَه العمل، أو تفسير الراوي، وما قُرن حُكمه بصفة على ما قُرن باسم، وما فيه زيادة.
والقسم السادس:الترجيح بحُكم، وذلك بوجوه:
أحدها: تقديم الناقل على البراءة الأصليّة على المقرّر لها، وقيل: عكسه.
ثانيها: تقديم الدالِّ على التحريم على الدّالّ على الإباحة والوجوب.
ثالثها: تقديم الأحوط.
رابعها: تقديم الدّالِّ على نفْي الحدّ.
والقسم السابع: الترجيح بأمْر خارجيٍّ:
كتقديم ما وافقه ظاهرُ القرآن، أو سُنّة أخرى، أو ما قبل الشرع، أو القياس، أو عمَل الأمّة، أو الخلفاء الراشدين، أو معه مرسَل آخَر، أو منقطع، أو لم يُشعِر بنوع قدْح في الصحابة، أو له نظير مُتّفَق على حُكمه، أو اتّفق على إخراجه الشيخان.
فهذه أكثر من مائة مرجِّح، وثّمّ مُرجِّحات أخرى لا تنحصر، ومثارها غلَبة الظن.
وهناك أيضًا بعض فوائد:
الأولى: مَنَع بعضُهم الترجيح في الأدلّة قياسًا على البيِّنات، وقال: إذا تعارضا لزِم التخيير أو الوقف. وأجيب بأن مالكًا يرى: ترجيح البيِّنة على البيِّنة. ومن لم يُرِدْ ذلك يقول: البيِّنة مستنِدة إلى توقيفات تعبُّديّة، ولهذا لا تُقبل إلَّا بلفظ الشهادة.
الثانية: إن لم يوجد مرجِّح لأحد الحديثيْن، توقِّف على العمل به حتى يظهر.
والثالثة: التعارض بين الخبريْن إنما هو لخلل في الإسناد بالنسبة إلى ظنِّ المجتهد، وأما في نفس الأمر، فلا تعارض.
والرابعة: ما سَلِم مِن المُعارضة فهو مُحكم.