Top
Image Alt

باب في أن التشهد في الصلاة فرض، وباب ما جاء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

  /  باب في أن التشهد في الصلاة فرض، وباب ما جاء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

باب في أن التشهد في الصلاة فرض، وباب ما جاء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

أ. باب: في أنّ التّشهد في الصلاة فرض.

حديث ابن مسعود:

عن ابن مسعود قال: كنّا نقول قبل أن يُفرض علينا التشهد: “السلام على الله. السلام على جبريل وميكائل”. فقال رسول الله النبي صلى الله عليه  وسلم: ((لا تقولوا هكذا. ولكن قولوا: التحيات لله)) وذكَره. أي: ذكَر الحديث كما سبق. رواه الدارقطني وقال: “إسناده صحيح”. قال الإمام الشوكاني: الحديث أخرجه أيضًا البيهقي وصحّحه, وهو من جملة ما استدل به القائلون بوجوب التشهد, كما سبق أن ذكرنا في الحديث السابق.

ب. باب ما جاء في الصلاة على النّبي صلى الله عليه  وسلم.

حديث ابن مسعود:

قال الإمام مجد الدين ابن تيمية -رحمه الله-: عن أبي مسعود قال: ((أتانا رسول الله صلى الله عليه  وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة, فقال له بشير بن سعد: أمَرنا الله أن نُصلِّي عليك, فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه  وسلم حتى تمنّينا أنه لم يسأله. ثم قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم: قولوا: اللهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد, كما صلّيت على آل إبراهيم, وباركْ على محمد وعلى آل محمد, كما باركتَ على آل إبراهيم. إنك حميد مجيد. والسّلام كما قد علِمْتم)). رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، والترمذي, وصحّحه. ولأحمد في لفظ آخَر نحوه, وفيه: ((فكيف نُصلِّي عليك إذا نحن صلّيْنا في صلاتنا)).

قال الشوكاني: الحديث أخرجه أيضًا: أبو داود، وابن خزيمة, وابن حبان، والدارقطني وحسّنه, والحاكم وصحّحه، والبيهقي وصحّحه, وزادوا: ((النّبيّ الأمِّيّ)). -يعني: زادوا: ((اللهم صلّ على محمد النّبيِّ الأمِّيِّ)) بعد قوله: ((اللهم صلِّ على محمد)). وزاد أبو دواد بعد قوله: ((كما باركتَ على آل إبراهيم)). لفظ: ((في العالمين)) أي: ((كما باركت على آل إبراهيم في العالمين)).

وقوله في الحديث: ((قولوا: “اللهم صلِّ…”)): استُدلّ بذلك على وجوب الصلاة عليه النبي صلى الله عليه  وسلم بعد التشهد. وإلى ذلك ذهب عمر، وابنه عبد الله، وابن مسعود، وجابر بن زيد, والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، وأبو جعفر الباقر, والهادي، والقاسم, والشافعي، وأحمد، وإسحاق, وابن الموّاز. واختاره القاضي أبو بكر بن العربي.

وقد ذكرنا كلام الإمام الشافعي فيما سَبَق ومنذ قليل في: أنّ الصلاة على النبي صلى الله عليه  وسلم فَرْضٌ كما عُدّ هنا.‌

قلنا: ذهب بعض الصحابة والتابعين رضي الله  عنهم إلى: أن الصلاة عليه صلى الله عليه  وسلم بعد التشهد واجبة. وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب؛ منهم: مالك، وأبو حنيفة وأصحابه, والثوري، والأوزاعي, والناصر من أهل البيت، وآخرون… قال الطبري والطحاوي: “إنه أجمع المتقدِّمون والمتأخِّرون على عدم الوجوب”. وقال بعضهم: “إنه لم يقل بالوجوب إلّا الشافعي، وهو مسبوق بالإجماع”. وقد طوّل القاضي عياض في (الشفاء) الكلام على ذلك. ودعوى الإجماع -قال الشوكاني- مِن الدّعاوى الباطلة، لِما عَرفْت من نِسبة القول بالوجوب من جماعة من الصحابة والتابعين، وأهل البيت، والفقهاء. ولكنه لا يتم الاستدلال على وجوب الصلاة بعد التشهد بما في حديث الباب من الأمر بها, وبما في سائر أحاديث الباب؛ لأنّ غاية هذه الأحاديث: الأمر بمطلق الصلاة عليه صلى الله عليه  وسلم وهو يقتضي الوجوب في الجملة؛ فيحصل الامتثال بإيقاع فَرْض منها خارج الصلاة, فليس فيها زيادة على ما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}  [الأحزاب:56].

ولكنه يمكن الاستدلال بوجوب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه  وسلم في الصلاة, بما أخرجه ابن حبان والحاكم والبيهقي وصحّحوه, وابن خزيمة في صحيحه، والدارقطني من حديث ابن مسعود بزيادة: ((كيف نصلِّي عليك إذا نحن صلّيْنا عليك في صلاتنا؟))، وفي رواية: ((كيف نصلِّي عليك في صلاتنا؟)). وغاية هذه الزيادة: أنْ يتعيّن بها محلّ الصلاة عليه صلى الله عليه  وسلم وهو: مطلق الصلاة, وليس فيها ما يُعيِّن محلّ النزاع, وهو: إيقاعها بعد التشهد الأخير. ويمكن الاعتذار عن القول بالوجوب بأنّ الأوامر المذكورة في الأحاديث تعليم كيفيّته, وهي لا تفيد الوجوب, فإنه لا يشك من له ذوْق أنّ من قال لغيره: “إذا أعطيتك درهمًا، فكيف أعطيك إيّاه، أسِرًّا أم جهرًا؟” فقال له: “أعطنيه سرًّا”، كان ذلك أمرًا بالكيفية التي هي السِّرِّية، لا أمْرًا بالإعطاء. وتبادر هذا المعنى لغة وشرعًا وعرفًا لا يُدفع. وقد تكرّر في السّنّة وكثُر، فمنه: ((إذا قام أحدُكم من الليل، فلْيفتتح الصلاة بركعتَيْن خفيفتَيْن…)) الحديث. وكذا قوله صلى الله عليه  وسلم في صلاة الاستخارة: ((فلْيركع ركعتيْن ثم لِيقُلْ…)) -يعني: يقول بعد ذلك دعاء الاستخارة. الحديث- وكذا قوله في صلاة التسبيح: ((فقُمْ وصلِّ أربع ركعات))، وقوله في الوتر: ((فإذا خِفْت الصبح، فأوترْ بركعة)). والقول بأنّ هذه الكيفية المسئول عنها هي كيفية الصلاة المأمور بها في القرآن, فتعليمها بيان للواجب المجمَل فتكون واجبة؛ لا يتمّ ذلك إلّا بعد تسليم أنّ الأمر القرآني بالصلاة مُجمل, وهو ممنوع لاتّضاح معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه  وسلم والسلام المأمور بهما.

على أنه قد حَكَى الطبري الإجماع على أنّ محمل الآية على الندب، فهو بيان لِمُجمل مندوب، لا واجب. ولو سُلِّم انتهاض الأدلة على الوجوب، لكان غايتها أن الواجب فِعْلها مرّة واحدة, فأين دليل التَّكرار في كل صلاة؟! ولو سُلّم وجود ما يدلّ على التكرار، لكان ترْكها في تعليم المسيء دالًّا على عدم وجوبه, -يعني: عندما علّم رسول الله صلى الله عليه  وسلم الرجل الذي أساء صلاته، لم يذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه  وسلم. وقد قلنا: إنّ ما ذُكر فيه هو الواجب، وما لم يُذكر فيه ليس واجبًا على الجملة.

ومن جملة ما استَدلّ به القائلون بوجوب الصلاة بعد التشهد الأخير: ما أخرجه الترمذي وقال: “حسن صحيح”، من حديث علي عن النبي صلى الله عليه  وسلم أنه قال: ((البخيل مَن ذُكرتُ عنده فلم يُصلِّ عليّ)). قالوا: وقد ذُكر النبي صلى الله عليه  وسلم في التشهد. قال الشوكاني: “وهذا أحسن ما يُستدلّ به على المطلوب”.

رأي الشوكاني في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه  وسلم:

لقد رجّّح الإمام الشوكاني القول بعدم الوجوب، وقال -بعد أن ساق حُجج الفريقيْن وما لهم وما عليهم: “وبعد هذا، فنحن لا ننكر أنّ الصلاة عليه صلى الله عليه  وسلم من أجلِّ الطاعات التي يَتَقرّب بها الخلْق إلى الخالِق, وإنّما نازعْنا في إثبات واجبٍ من واجبات الصلاة بغير دليل يقتضيه, مخافةً من المنقول على الله بما لم يَقُل”. وهذا هو اجتهاده ولكل مجتهد نصيب، كما يقولون.

ثم قال: إذا تقرّر لك الكلام في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه  وسلم في الصلاة، فاعلمْ أنه قد اختُلفَ في وجوبها على الآل بعد التشهد. فذهب الهادي والقاسم والمؤيّد بالله، وأحمد بن حنبل وبعض أصحاب الشافعي إلى الوجوب. واستدلّوا بالأوامر المذكورة في الأحاديث المشتملة على الآل. وذهب الشافعي في أحد قوليْه, وأبو حنيفة وأصحابه, والناصر إلى أنّها سُنّة فقط. وقد تقدّم ذكْر الأدلّة من الجانبيْن.

ومن جملة ما احتجّ به الآخِرون هنا: الإجماع الذي حكاه النووي على عدم الوجوب. قالوا: فيكون قرينة لحمْل الأوامر على النّدب. قالوا: “ويؤيِّد ذلك: عدم الأمر بالصلاة على الآل في القرآن, عندما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}”. ‌

والخلاف في تعيين الآل مَن هُم سيأتي في الباب الثاني. وشرح بقيّة ألفاظ حديث ابن مسعود يأتي في شرْح ما بعده من أحاديث الباب.

واحتجّت طائفة من العلماء على أنّ “الآل” هم: الأزواج والذّرية, واحتجوا بحديث أبي حميد الساعدي: ((أنهم قالوا: يا رسول الله، كيف نُصلّي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلّ على محمّد وعلى أزواجه وذرِّيّته, كما صلّيْت على آل إبراهيم. وبارك على محمّد وأزواجه وذريّته, كما باركت على آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد)). ووجْهه: أنه أقام الأزواج والذرية مقامَ آل محمد في سائر الروايات المتقدمة, واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}  [الأحزاب:33] أنّ ما قبل الآية وبعدها في الزوجات؛ فأشعر ذلك بإرادتهم. وأشعر تذكير المخاطَبين بها بإرادة غيرهنّ.

وبيّن هذا الحديث وحديث أبي هريرة -الآتي- مَن هم المُرادون بالآية وبسائر الأحاديث التي أجمل فيها الآل, ولكنه يُشكل على هذا امتناعه صلى الله عليه  وسلم من إدخال أمّ سلمة تحت الكساء بعد سؤالها ذلك, وقوله صلى الله عليه  وسلم عند نزول هذه الآية مشيرًا إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين: ((اللهم إنّ هؤلاء أهل بيتي)) بعد أن جلّلهم بالكساء.

وقيل: إنّ الآل هم الذين حرُمت عليهم الصدقة، وهم: بنو هاشم. ومن أهل هذا القول الإمام يحيى. واستَدلّ القائل بذلك بأن زيد بن أرقم فسّر الآل بهم، وبيّن أنهم: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس, كما في (صحيح مسلم). والصحابي أعرف بمراده صلى الله عليه  وسلم فيكون تفسيره قرينة على التّعيين.

ثمّ يقال: إذا كانت هذه الصيغة تقتضي الحصر، فما الدليل على دخول أولاد المُجلّلين بالكساء في الآل، مع أنّ مفهوم هذا الحصر يُخرجهم؟ فإن كان إدخالهم بمخصِّص وهو: التّفسير بالذرية, وذريته صلى الله عليه  وسلم هم أولاد فاطمة, فما الفرق بين مخصِّص ومخصِّص؟

وقيل: إنّ الآل هم: القرابة، من غير تقييد؛ وإلى ذلك ذهب جماعة من أهل العلْم. وقيل: هم الأمّة جميعًا. قال النووي في (شرح مسلم): “وهو أظهرها”. قال: “وهو اختيار الأزهري وغيره من المحقِّقين”. انتهى.

ومن الأدلة على ذلك: قوله الله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب} [غافر:46]؛ لأنّ المراد بآلِه أتباعه. واحتُجّ لهذا القول بما أخرجه الطبراني: أن النبي صلى الله عليه  وسلم لمّا سُئل عن الآل, قال : ((آلُ محمّدٍ كلُّ تقيّ)). ورُوي هذا من حديث علي، ومن حديث أنس، وفي إسنادها مقال. ويؤيّد ذلك: معنى “الآل” لُغة؛ فإنهم -كما قال في (القاموس): أهل الرجل وأتباعه. ولا ينافي هذا اقتصاره صلى الله عليه  وسلم على البعض منهم في بعض الحالات كما تقدّم, وكما في حديث مسلم في الأضحية: ((اللهم تقبّلْ من محمّدٍ وآلِ محمّد، ومن أمّة محمد)). فإنه لا شك أنّ القرابة أخصّ الآل، فتخصيصهم بالذِّكر ربما كان لمزايا لا يشاركم فيها غيرُهم كما عرفْت. وتسيمتهم بـ”الأمّة” لا يُنافي تسميتهم بـ”الآل”, وعَطْف التفسير شائع ذائع كتابًا وسُنّةً ولغةً؛ فيكون قوله: ((وآل محمد، ومن أمّة محمد)) من عطْف التفسير هذا. على أنّ حديث أبي هريرة المذكور في آخِر هذا الباب فيه عطْف أهل بيته على ذُريّته. فإذا كان مُجرّد العطف يدلّ على التغاير مطلقًا، لَزِمَ أن تكون ذريّته خارجة عن أهل بيته. والجواب -كما سَبَق أن ذكَرنأ. من عطْف التفسير الذي هو شائع ذائع كتابًا وسُنّة ولغة. ولكن ها هنا مانع من حَمْل الآل على جميع الأمّة, وهو حديث: ((إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسّكْتُم به لن تضلّوا: كتابَ الله وعِترتي)) الحديث. وهو في (صحيح مسلم) وغيره؛ فإنه لو كان الآل جميعَ الأمّة، لكان المأمور بالتمسك والأمر المُتمَسّك به شيئًا واحدًا؛ وهو باطل، والله أعلم.

جاء في حديث ابن مسعود وفي حديث ابن عباس: ((كما صلّيتَ على آل إبراهيم)). و((آل إبراهيم)) هم: إسماعيل وإسحاق وأولادهما. وقد جَمَع الله لهم الرحمة والبركة, بقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيد} [هود:73]. ولم يُجْمعا -أي: الرحمة والبركات لغيرهم- فسأل النّبي صلى الله عليه  وسلم إعطاء ما تَضمّنتْه الآية.

واستَشْكل جماعة من العلماء التشبيه بالصلاة عليه صلى الله عليه  وسلم بالصّلاة على إبراهيم كما في بعض الروايات, أو على آل إبراهيم كما في بعض الروايات, مع أنّ المشبَّه دون المشبّه به في الغالب, وهو صلى الله عليه  وسلم أفضل من إبراهيم وآله.

وأجيب عن ذلك بأجوبة، منها:

منها: أنّ المشبّه مجموع الصلاة على محمد وآله بمجموع على إبراهيم وآله, وفي آل إبراهيم مُعظم الأنبياء؛ فالمشبّه به أقوى من هذه الحيثية.

ومنها: أنّ التشبيه وَقَع بأصل الصلاة، لا للقَدْر بالقدْر.

ومنها: أنّ التشبيه وقع في الصلاة على الآل، لا على النبي صلى الله عليه  وسلم وهو خلاف الظاهر. يعني: عندما نقول: ((اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمّد، كما صلّيت على آل إبراهيم)) يعني: صلِّ على آل محمد كما صليت على آل إبراهيم؛ وهو خلاف الظاهر.

ومنها: أنّ الصلاة عليه صلى الله عليه  وسلم باعتبار تكريرها من كُل فَرْد تَصِير باعتبار مجموع الأفراد أعظم وأوْفَر, وإن كانت باعتبار الفرد مساوية أو ناقصة.

وفيه: أنّ التشبيه حاصل في صلاة كلِّ فرد؛ فالصلاة من المجموع مأخوذة فيها ذلك, فلا يتحقّق كونها أعظم وأوفر, يعني: فلا يتحقق كون المشبّه به أعظم وأفر.

ومنها: أنّ الصلاة عليه كانت ثابتة له, والسؤال إنما هو باعتبار الزائد على القدْر الثابت, وبانضمام ذلك الزائد المساوي أو النّاقص إلى ما قد ثبت له صلى الله عليه  وسلم تصير أعظم قَدرًا.

ومنها: أن التشبيه غير منظور فيه إلى جانب زيادة أو نقص, وإنما المقصود: أنّ لهذه الصلاة نوعَ تعظيم وإدلال, كما فَعل في حَقِّ إبراهيم وتقرّر واشتهر من تعظيمه وتشريفه؛ وهو خلاف الظاهر.

ومنها: أنّ الغرض من التشبيه قد يكون لبيان حال المشبَّه من غير نَظَر إلى قوّة المشبَّه به؛ وهو قليل لا يُحمل عليه إلّا لقرينة.

ومنها: أنّ التشبيه لا يقتضي أن يكون المشبّه دون المشبّه به على جِهَة اللزوم, كما صَرّح بذلك جماعة من علماء البيان. وفيه: أنّه وإن لم يقتضِ ذلك نادرًا فلا شك أنه غالب.

ومنها: أنه كان ذلك منه صلى الله عليه  وسلم قبل أن يُعْلِمه سبحانه وتعالى أنه أفضل من إبراهيم.

ومنها: أنْ يُتمّ النعمة عليه صلى الله عليه  وسلم كما أتمّها على إبراهيم عليه السلام وآلِه.

ومنها: أنّ مراده صلى الله عليه  وسلم أنْ يَبْقى له لسان صِدْق في الآخِرين.

ومنها: أنه سأل أن يتّخذه الله خليلًا كإبراهيم. فالمراد بالصلاة والبركة هو: أن يَصِل إلى هذه المرتبة.

ومنها: أنه صلى الله عليه  وسلم من جُملة آل إبراهيم, وكذلك آله صلى الله عليه  وسلم فالمشبّه هو: الصلاة عليه وعلى آله بالصلاة على إبراهيم وآلِه، الذي هو مِن جُملتهم؛ فلا ضَيْر في ذلك.

وعلى كل حال، فيمكننا أن نرى أنّ بعض هذه التفسيرات ملائم وبعضها بعيد.

قوله في الحديث: ((إنّك حميد مجيد)) أي: إنك محمود الأفعال، مُستحق لجميع المحامد, لِما في الصيغة من المبالغة. فكلمة: ((حميد)): صيغة مبالغة, وهو: تعليل لطلب الصلاة منه. و”المجيد”: المُتّصف بالمجد، وهو: كمال الشرف والكرم والصفات المحمودة.

وقوله: ((اللّهم بارِكْ)): “البركة” هي: الثبوت والدوام، من قولهم: “بَرَك البعير” إذا ثَبَت. و((بَارِكْ)) أي: أدِمْ شَرَفك وكرامتك وتعظيمك على محمد وآله, كما أدمت شرفَك وكرامتك وتعظيمك على إبراهيم وآل إبراهيم، أو على آل إبراهيم كما جاء في بعض الروايات. وقوله: في بعض الروايات: ((في العالَمين)) -((في العالمين؛ إنك حميد مجيد))- أي: في العصور المختلفة عصرًا بعد عصرٍ، في العالَمين من خلْقك جيلًا بعد جيلٍ.‌

ما يدعو به المُصلي في آخِر الصلاة:

عن أبي هريرة رضي الله  عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((إذا فَرَغ أحدُكم من التشهد الأخير, فلْيتعوّذْ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر, ومن فتنة المحيا والممات، ومن شَرِّ المسيح الدّجّال)). رواه الجماعة إلّا البخاري والترمذي.

وعن عائشة: ((أن النبي صلى الله عليه  وسلم كان يدعو في الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدّجّال, وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات. اللهم إني أعوذ بك من المغرم والمأثم )). رواه الجماعة إلا ابن ماجه.

 قوله: ((إذا فَرَغ أحدكم من التّشهد الأخير)) فيه مَحلّ هذه الاستعاذة بعد التشهد الأخير, وهو مُقيّد. وحديث عائشة مُطلق فيُحمل عليه؛ لأنّ في حديث عائشة كان يدعو في الصلاة مطلقًا. وهو يردّ ما ذهب إليه ابن حزم من وجوبها في التشهد الأوّل. وما وَرَد من الإذن للمصلي بالدعاء بما شاء بعد التشهد, يكون بعد هذه الاستعاذة، لقوله صلى الله عليه  وسلم: ((إذا فرغ)) يعني: إذا فَرَغ من التشهد، يقول هذا، ثم يدعو بما شاء. ‌وقوله: ((فلْيتعوّذ بالله من أربع)) استُدلّ بهذا الأمر على: وجوب الاستعاذة. وقد ذَهَب إلى ذلك بعض الظاهرية, ورُوي عن طاوس.

وفي هذا الباب، رَوَى الإمام مجد الدين ابن تيمية -رحمه الله- حديث عائشة: أنّ النبي صلى الله عليه  وسلم كان يدعو في الصلاة: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدّجّال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات. اللهم إنِّي أعوذ بك من المغرم والمأثم)). روه الجماعة إلّا ابن ماجه.‌

وقوله: ((مِن أربع)) ينبغي أن يُزاد على هذه الأربع: التّعوّذ من المغرم والمأثم المذكوريْن في حديث عائشة؛ وفي حديث عائشة: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر, وأعوذ بك من فتنة المسيح الدّجّال, وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات, ومن شرّ المسيح الدجال. اللهم إني أعوذ بك من المغرم والمأثم)). فزاد حديث عائشة: ((اللهم إني أعوذ بك من المغرم والمأثم)). وزاد حديث أبي هريرة: ((من عذاب جهنم)). يعني: فلْيتعوّذْ من عذاب جهنّم. فإذا أضاف إلى دعاء أبي هريرة، أو إذا أضاف إلى الدعاء عن أبي هريرة، فقد جمع بيْن ما في الحديثَيْن.

قوله: ((ومن عذاب القبر)): فيه ردٌّ على المنكرين لذلك من المعتزلة. والأحاديث في هذا الباب متواترة، بل فيه من القرآن الكريم في قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب} [غافر:46].

وقوله: ((ومِن فتنة المحيا والممات)): قال ابن دقيق العيد: ((فتنة المحيا)): ما يعرض للإنسان مدّة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات, وأعظمها فتنة -والعياذ بالله: أمْر الخاتمة عند الموت. أمّا “فتنة الممات” فيجوز أن يراد بها: الفتنة عند الموت, أضيفت إليها لقربها منه. ولا يكون المراد على هذا بـ((فتنة المحيا)): ما قَبْل ذلك؛ فيدخل فيها أمر الخاتمة عند الموت. ويجوز أن يراد بها: فتنة القبر. وقد صحّ أنهم يُفتنون في قبورهم، كما ورد في الحديث الصحيح عند مسلم, وأنها تكون فتنة كفتنة المسيح الدّجّال.

وقيل: أراد بـ((فتنة المحيا)): الابتلاء مع زوال الصبر. وبـ((فتنة الممات)): السؤال في القبر مع الحيْرة. كذا قال الحافظ ابن حجر في (الفتح).

وقوله: ((ومن شرّ المسيح الدّجّال)): قال أبو داود في (السّنن): ((المَسِّيح)) مُثقّل: الدّجّال. -يعني: مشدّد السِّين- ومُخفّف: ((المَسِيح)) يعني: عيسى عليه السلام. ونَقل الفربري عن خَلَف بن عامر: أن ((المسيح)) بالتشديد والتخفيف واحد؛ وعلى ذلك يمكن أن يطلق على المسيح ويُطلق على عيسى عليه السلام. وعلى هذا، يقال للدّجّال ولعيسى, وأنّه لا فرْق بينهما. قال الجوهري في (الصحاح): من قاله بالتخفيف فلِمسْحه الأرض -يعني: من أطلق على المسيح الدجال بالتخفيف، فلِمسْحه الأرض- ومن قاله بالتشديد: ((المسِّيح)) فلكوْنه ممسوح العين.

قال الحافظ ابن حجر: وحُكي عن بعضهم بالخاء المعجمة في الدّجّال: “المسيخ”, ونَسَب قائله إلى التصحيف -يعني: ليست هذه الكلمة صحيحة. قال في (القاموس): و”المسيح”: عيسى ابن مريم -صلوات الله عليه- لِبركته, يعني: سُمِّي “مسيحًا” لبركته, أنه كان يَمْسح على المرضى فيُشفَوْن بإذن الله عز وجل . قال: وذَكرت في اشتقاقه خَمْسين قولًا في شرحي لمشارق الأنوار وغيره.

و((الدّجّال)) يُطلق عليه: ((المسيح))؛ لشؤمه، وكأنه أرد أنه يمسح الخير. انتهى. والله تعالى أعلم.

وقوله: ((مِن المغرَم والمأثَم)): في (البخاري) بتقديم: ((المأثم)) على: ((المغرم)). و((المغرم)): الدّيْن. يُقال غَرِم -بكسر الراء- أي: ادّان. قيل: المراد به ما يُستدان فيما لا يجوز أو فيما يجوز, ثم يعْجز عن أدائه. ويُحتمل أنْ يُراد به ما هو أعمّ من ذلك, سواء عَجَز أو لم يعجز. وقد استعاذ صلى الله عليه  وسلم من غَلَبة الدّيْن في قوله صلى الله عليه  وسلم: ((اللهم إنِّي أعوذ بك من غلبة الدّيْن، ومِن قهْر الرِّجال)). وفي (البخاري): أنه قال له صلى الله عليه  وسلم قائل: “ما أكثر ما تستعيذ من المغرم!”, فقال صلى الله عليه  وسلم: (( إنّ الرّجل إذا غَرِم حدّث فكذَب -يعني: حدّث أنه سيُوفي ولا يستطيع أن يوفي- ووَعَد فأخلف))؛ لأنّه يَعِد ولا يستطيع أنْ يُنفِّذ ما يَعِد, وهو يُحدّث أنّه سَيُؤدِّي الدّيْن إرضاءً لغريمه, وهو ليس عنده ما يُؤدِّي به الدّيْن.‌

error: النص محمي !!