باب في أن عمل القلب لا يبطل الصلاة وإن طال، وباب القنوت في المكتوبة عند النوازل وتركه في غيرها
أ. باب في أنّ عمل القلب لا يُبطل وإن طال:
حديث أبي هريرة:
عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، حتى لا يسمع الأذان. فإذا قُضي الأذان أقبل. فإذا ثُوِّب بها أدبر. فإذا قُضِي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه؛ يقول: “اذكرْ كذا. اذكر كذا” لِما لم يكُن يَذْكر, حتى يضل الرجل إن يدري كم صلّى. فإذا لم يدْرِ أحدُكم ثلاثًا صلّى أو أربعًا، فليسجد سجدتيْن وهو جالس)). متفق عليه.
وقال البخاري: قال عمر: “إني لأجهِّز جيشي وأنا في الصلاة”.
قوله: ((أدبر الشيطان وله ضراط)): قوله: ((وله ضراط)): جملة اسمية وقعت حالا. -يعني: أدبر الشيطان حالة كونه له ضراط. وفي رواية: بدون “واو” لحصول الارتباط بالضمير -أي: ((أدبر الشيطان له ضراط))- يعني: الارتباط بالضمير لا يحتاج إلى الربط بالواو.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): والمراد بـ((الشيطان)): إبليس, وعليه يدلّ كلام كثير من الشراح. ويُحتمل أنّ المراد: جنس الشيطان، وهو كلّ متمرّد من الجن أو الإنس؛ لكنّ المراد هنا: شيطان الجن خاصة، لأنّه هو الذي يخطر بين المرء وبين نفسه.
وقوله: ((حتى لا يسمع التأذين)): ظاهره أنه يتعمّد إخراج ذلك بالضراط, إمّا ليشغله سماع الصوت الذي يُخرجه عن سماع المؤذِّن, أو يصنع ذلك استخفافًا كما يفعله السفهاء.
وقوله: ((فإذا قُضي الأذان))، ((فإذا قضي التثويب)): المراد به: الفراغ والانتهاء. ((قُضي)) بضمّ أوّله، ويُروى بفتح أوّله على حذْف الفاعل: ((قَضَى)), والمراد: المنادي أي المؤذِّن.
وقوله: ((أقبل))، زاد مسلم عن أبي هريرة: ((فوسوس)) -يعني: أقبل فوسوس بعد انتهاء التثويب. وقوله: ((فإذا ثُوِّب)) -بضم المثلثة وتشديد الواو المكسورة- قيل: إذا ثاب: إذا رَجَع. وقيل: من “ثوب” إذا أشار بثوبه عند الفراغ لإعلام غيره. قال الجمهور: والمراد بـ”التثويب” هنا: الإقامة؛ وبذلك جزم أبو عوانة في (صحيحه)، والخطابي، والبيهقي، وغيرهم. وقال القرطبي: ثوّب بالصلاة، إذا أقيمتْ، وأصله: رَجَع إلى ما يُشبه الأذان. وزَعَم بعض الكوفيِّين أنّ المراد بالتثويب: قول المؤذِّن من الأذان والإقامة: “حيّ على الصلاة! حيّ على الفلاح! قد قامت الصلاة!”.
قال الخطابي: لا تعرف العامّة التثويب في الأذان إلّا من قول المؤذِّن في الأذان: “الصلاة خير من النوم!”. لكنّ المراد به في هذا الحديث: الإقامة.
وقوله: ((حتى يَخطِر بين المرء ونفسه)). -بضم الطّاء- قال الحافظ: كذا سمعناه من أكثر الرواة, وضبطناه عن المتقنين بالكسْر: ((حتى يَخطِر)). وهو وجْه, ومعناه: يوسوس. وأصله مِن: خَطر البعير بذَنَبه، إذا حرّكه فضَرَب به فخذيْه. وأما بالضّم: ((يَخْطُر)) فمن المرور: أن يَدْنو منه فيشغله. وضعّف الهجري في نوادره الضّم مطلقًا. يعني: قوّى ((فيَخطِر)), ((حتى يَخْطِر)) بالكسر.
وقوله: ((بين المرء ونفسه)) -أي: وقلبه، أي: بين المرء وقلبه، وكذا عند البخاري بوجْه آخََرَ في “بدء الخلق” -يعني: في كتاب بدء الخلق من (صحيح الإمام البخاري). قال الباجي: بمعنى أنه يَحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها. وقوله: ((اذكرْ كذا. اذكر كذا لِما لم يكن يَذْكر))، أي: لشيء لم يكن على ذِكْره قبل دخوله في الصلاة، وهو أعمّ من أن يكون من أمور الدنيا والآخرة. وهل يشمل ذلك التفكّر في معاني الآيات التي يتلوها؟ لا يبعد ذلك، لأنّ غرضه نَقْص خشوعه وإخلاصه بأيّ وجْه كان؛ كذا قال الحافظ ابن حجر، لكنّ هذا بعيد, لأنّه إذا تفكّر في معاني الآيات, فإنّ ذلك يورثه خشوعًا وتوجّهًا بقلبه إلى الصلاة، فلا يبقى مكان لوسوسة ذلك الشيطان, ولكنّ الذي يَرْجح: أنّه يذكّره بأموره الدنيوية التي تُلهيه عن الصلاة وعن الخشوع فيها.
وقوله: ((حتى يضِلّ الرجل)) بضاد مكسورة، وكذا وقع عند الأصيلي من رواة (صحيح البخاري)، ومعناه يجهل -يعني: يجهل كم صَلّى- ((حتى يضِلّ الرجل إن يدري كم صَلَّى)). قال الحافظ في (الفتح): وعند الجمهور بالظاء المُشالة، يعني: ((حتى يظلّ)) -بمعنى: يصير، أو يبقى، أو يتحيّر.
وقوله: ((إن يدري كم صلّى)): بكسر الهمزة والتي هي للنفي بمعنى: “لا”. يعني: حتى يجهل الرجل، بحيث لا يدري كم صلّى.
والحكمة في هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة. اختلف العلماء في ذلك كما قال ابن حجر في (فتح الباري) فقيل: يهرب حتى لا يشهد للمؤذِّن يوم القيامة؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذِّن جِنّ ولا إنس إلّا شهد له, كما في الحديث الصحيح في البخاري, ولعلّ البخاري أشار إلى ذلك بإيراده الحديث المذكور عَقِب هذا الحديث.
وقيل: يهرب الشيطان نفورًا من سماع الأذان، ثم يرجع موَسْوِسًا ليُفسد على المصلِّي صلاته؛ فصار رجوعه من جنس فراره. والجامع بينهما: الاستخفاف: الاستخفاف بالمصلِّي والاستخفاف بالأذان. وقيل: لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعَصَى بسببه, واعتُرض بأنه يعود قبل السجود، فلو كان هربه لأجْل السجود لم يَعُدْ إلا عند الفراغ من السجود.
وأُجيب بأنه يهرب عند سماع الدعاء لذلك ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرًا, ثم يرجع ليفسد على المصلي سجوده الذي أباه.
والحديث يدلّ على: أن الوسوسة في الصلاة غير مُبطِلة لها، وكذا سائر الأعمال القلبية, لِعَدم الفارق. ولكننا إذا كنا نقول هذا، فينبغي للمؤمن المصلِّي ألّا يستسْلِم لوسوسة الشيطان, وألّا يستسلم للخروج من الصلاة بالتفكير بما هو خارج عنها، لأنّه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس للمرء من صلاته إلّا مَا عَقَل منها)). فينبغي أن يفيد المرء من صلاته بأنْ يكون حاضرًا بقلبه مع ما فيها, وأن يكون خاشعًا لله عز وجل وأن لا يلتفت فيها.
ولا نعني بالالتفات: الحركات الجسمية, ولكن نعني بالالتفات: الالتفات القلبي، بأن يلتفت إلى غير الصلاة. والله عز وجل كما جاء في الحديث: (( لا يزال مُقبلًا على العبد في صلاته حتى يلتفِت، فإذا الْتَفَت أعرَض عنه)).
ب. باب القنوت في المكتوبة عند النوازل، وترْكه في غيرها:
حديث أبي مالك:
ونلحَظ في هذا العنوان, أو في هذه الترجمة, كما نلحظ في الحديث الآتي: أنّ المصنِّف جَنَح إلى رأي من الآراء, دون غيرها كما سيتبيّن لنا -إن شاء الله تعالى .
قال الإمام مجد الدّين ابن تيمية -رحمه الله-: عن أبي مالك الأشجعي قال: قُلت لأبي: يا أبتِ! إنّك قد صلّيتَ خَلْف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان, وعليّ هاهنا بالكوفة قريبًا من خمسين سَنة, أكانوا يقنتُون؟ قال: “أي بُنيّ! مُحدَث”. رواه أحمد والترمذي وصحّحه, وابن ماجه.
وفي رواية: “أكانوا يقنتون في الفجر؟”. رواه النسائي ولفظه: “قال: ((صلّيتُ خَلْف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقنُت. وصلّيْت خَلْف أبي بكر فلم يقنُت. وصلّيتُ خلف عمر فلم يقنُت. وصلّيتُ خلْف عثمان فلم يقنُت. وصلّيتُ خَلْف عليٍّ رضي الله عنه فلم يقنُت. ثم قال : يا بُنيّ! بدعة)). الحديث.
قال الحافظ في (التلخيص): “إسناده حَسََن”. وفي الباب عن ابن عباس عند الدارقطني والبيهقي: أنّه قال: “القُنوت في صلاة الصّبح بدعة.
وعن ابن مسعود عند الطبراني في (الأوسط)، والبيهقي، والحاكم في كتاب: القنوت، بلفظ: ((ما قَنَت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من صلاته)). زاد الطبراني: ((إلا في الوتر, وأنّه كان إذا حارب يقنُت في الصلوات كلّهنّ يدعو على المشركين. ولا قَنَت أبو بكر، ولا عُمر حتّى ماتوا, ولا قنت علي حتى حارب أهل الشام. وكان يقنت في الصلوات كلهن, وكان معاوية يدعو عليه أيضًا)). وعن أمّ سلمة عند ابن ماجه قالت: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القنوت في الفجر)). ورواه الدارقطني، وفي إسناده ضعف.
ومن حيث أحكام الحديث: فهو يدلّ على عَدَم مشروعية القنوت -يعني: عدم مشروعية القنوت باستمرار في الصلاة، وفي غير النوازل, وقد ذهب إلى ذلك أكثر أهل العلْم كما حكاه الترمذي في “كتابه”. وحكاه العراقي عن أبي بكر وعمر وعلي وابن عباس. وقال: قد صَحّ عنهم القنوت, وإذا تعارض الإثبات والنفْي قُدّم المثبت. وحكاه عن أربعة من التابعين, وعن أبي حنيفة، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق, وحكاه المهدي في (البحر) عن العبادلة وأبي الدرداء وابن مسعود.
وقد اختَلَف النّافون لمشروعيته, هل يُشرع عند النوازل أم لا؟ وذَهب جماعة إلى أنه مشروع في صلاة الفجر.
قال النووي في (شرح المهذب): القنوت في الصبح مذهبنا -يعني: مذهب الشافعية, وبه قال أكثر أهل السلف ومَن بَعدَهم أو كثير منهم. وحكاه المهدي في (البحر)، وعن الهادي والقاسم وزيد بن علي, والناصر والمؤيّد بالله من أهل البيت.
وقال الثوري وابن حزم: “كُلٌّ من الفعل والترك حَسَن”.