باب قراءة السورة بعد (الفاتحة)، وباب جامع القراءة في الصلوات، وباب الذكر في الركوع والسجود
أ. باب: قراءة السورة بعد (الفاتحة):
حديث أبي قتادة:
باب: قراءة السورة بعد (الفاتحة) في الأوليَيْن، وهل تُسنّ قراءتها في الأخريَيْن أم لا؟
عن أبي قتادة: ((أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الأوليَيْن بأمّ الكتاب وسورتَيْن، وفي الركعتَيْن الأخريَيْن بفاتحة الكتاب، ويُسمِعُنا الآية أحيانًا. ويُطوّل في الركعة الأولى ما لا يُطيل في الثانية. وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح)). متفق عليه، ورواه أبو داود, وزاد قال: ((فظننّا أنه يريد بذلك أن يدرِك الناسُ الركعة الأولى)). -يعني: يُطوّل في الركعتَيْن الأوليَيْن، ويطوّل في الأولى ما لا يطيل في الثانية، ليدرِك النّاس الركعة الأولى.
قوله: ((الأوليَيْن)) بِتحْتانِيّتَيْن: تثنية الأولى، وكذلك: ((الأُخْريَيْن)).
وقوله: ((وسورتَيْن)) أي: في كلّ ركعة سورة. ويدلّ على ذلك: ما ثَبَت من حديث أبي قتادة في روايةٍ للبخاري بلفظ: ((كان النّبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتَيْن من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورَة)).
وفيه: دليل على إثبات القراءة في الصّلاة السرِّية.
وقوله: ((ويُسمِعنا الآية أحيانًا)) فيه دلالة على: جَواز الجهر في السِّريّة، وهو يردّ على من جَعَل الإسرار شرطًا لصحّة الصلاة السّرية، وعلى من أوجبَ في الجهر سُجود السّهو -يعني: إذا جهر في السرية يوجِب سجود السّهو؛ فهذا الحديث يردّ عليه، لأنّ فيه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جهرَ في بعض الآيات.
وقوله: ((أحيانًا)) يدلّ على أنّه تكرّر منه ذلك صلى الله عليه وسلم .
وقوله: ((ويُطوّل في الركعة الأولى)) استدِلّ به على استحباب تطويل الأولى على الثانية, سواء كان التطويل بالقراءة -أي: بقدر القراءة, أو بترتيلها مع استواء المقروء في الأوليَيْن، يعني: التّمهل في التّرتيل بحيث يكون المقروء, يستغرِق وقتًا طويلًا في الأولى أكثر من الثانية، مع استواء المقروء في الأوليَيْن.
وقد قيل: إنّ المستحب: التسوية بين الأوليَيْن؛ فاستدلوا بحديث سعدٍ عند البخاري ومسلم وغيرهما… وكذلك استدلوا بحديث أبي سعيد الآتي عند مسلم وأحمد، أنّه: ((كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر في الأولييْن في كلّ ركعة قدْر ثلاثين آية)).
وقوله: ((وهكذا في الصبح…)) إلى آخِره، فيه دليلٌ على عدم اختصاص القراءة بالفاتحة وسورة في الأوليَيْن، وبالفاتحة فقط في الأخريَيْن، والتطويل في الأولى بصلاة الظهر، بل ذلك هو السُّنّة في جميع الصلوات -يعني: أنّه كان يَفْعل في الصبح كما كانَ يفعلُ في الظهر.
وقوله: ((فظنّنا أنه يريد بذلك أن يدرك الناسُ الركعة الأولى)) فيه: أنّ الحكمة في التطويل المذكور هي: انتظار الدّاخل. وكذا روى هذه الزيادة ابن خزيمة وابن حبّان. وقال القرطبي: “لا حجّة فيه، لأنّ الحكمة لا تعلّل بها، لخفائها وعدم انضباطها”.
والحديث يدلّ على مشروعية القراءة بفاتحة الكتاب في كلّ ركعة. وقد تقدّم الكلام عليه وعلى قراءة سورة مع (الفاتحة) في كل واحدةٍ من الأوليَيْن, وعلى جَواز الجهر ببعض الآياتِ في السّرية.
ب. باب: جامع القراءة في الصلوات:
حديث جابر بن سمرة:
عن جابر بن سمرة, أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم: ((كان يقرأ في الفجر بـ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد} [ق: 1] ونحوها. وكان صلاته بعدُ إلى تخفيف))، وفي رواية: ((كان يقرأ في الظهر, بـ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1]، وفي العصر نحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك)). رواهما أحمد ومسلم.
وفي رواية: ((كان إذا دَحَضَت الشمس، صلّى الظهر، وقرأ بنحو من: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، والعصرَ كذلك، والصلوات كلّها كذلك إلّا الصبح، فإنّه كانَ يُطيلها)). رواه أبو داود.
قوله: كان يقرأ بـ: {ق} في الفجر، قد تقرّر في الأصول: أنّ “كان” تُفيد الاستمرار وعموم الأزمان، فينبغي أن يُحمل قوله: ((كان يقرأ في الفجر بـ: {ق}…)) على الغالب من حاله صلى الله عليه وسلم، أو تحمل على أنّها لمجرّد وقوع الفعل، لأنّها -أي: “كانَ”- قد تستعمل لذلك، كما قال ابن دقيق العيد، لأنّه قد ثبت أنّه: ((قرأ صلى الله عليه وسلم في الفجر: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَت} [التكوير: 1])) عند الترمذي والنسائي، من حديث عمْرو بن حُريث.
وثَبَت: ((أنّه صلى الله عليه وسلم صلّى بمكة الصبح، فاستفتحَ سورة المؤمنين)) عند مسلم، من حديث عبد الله بن السائب، وهو الذي فيه: ((أنّه صلى الله عليه وسلم أخذته سَعْلة وهو يقرأ في هذه السّورة فركع))، و((أنّه قرأ بـ: الطّور)), ذكَره البخاري تعليقًا من حديث أمّ سلمة، و((أنّه كان يقرأ في ركعتَي الفجر أو إحداهما: ما بين السِّتين إلى المائة)). أخرجه البخاري ومسلم, من حديث أبي بَرْزة الأسلمي، و((أنّه صلى الله عليه وسلم قرأ: (الروم)). -يعني: في صلاة الفجر. أخرجه النسائي عن رجلٍ من الصحابة، و((أنّه صلى الله عليه وسلم قرأ (المعوذِّتَيْن)). أخرجه النسائي أيضًا من حديث عقبة بن عامر، و((أنّه صلى الله عليه وسلم قرأ -أي: في صلاة الفجر: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: 1])). أخرجه عبد الرزاق عن أبي بردة، و((أنه قرأ: (الواقعة)). أخرجه عبد الرزاق أيضًا عن جابر بن سَمُرة، و((أنّه قرأ -أي: في صلاة الفجر: بـ: (يونس) و(هود)). أخرجه ابن أبي شيبة في “مصنّفه” عن أبي هريرة، و((أنّه صلى الله عليه وسلم قرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1])) كما تقدّم عند أبي داود، و((أنّه صلى الله عليه وسلم قرأ: {الم * تَنزِيلُ} –السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1])). أخرجه الشّيخان في حديث ابن مسعود. وكان ذلك في يوم الجمعة -في صباح الجمعة، أو في فجر الجمعة، أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود.
وهكذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح غير (ق)، فيُحملُ ما في الحديث هنا على الغالب، وفي غير الغالب يقرأ بمثل هذه السوّر التي ذُكرت، أو يُحمل على أنّ ذلك لِمُجرّد وقوع الفعل -أي: وجِد منه صلى الله عليه وسلم أنّه قرأ في الفجر بـ: (ق).
وقوله: ((وكان يقرأ في الظهر بـ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} وفي العصر نحو ذلك)) ينبغي أنْ يُحمل هذا على ما تقدّم. يعني: من الغالب، أو أنّ هذا كان لمجرّد وُقوع الفعل منه صلى الله عليه وسلم، لأنّه قد ثَبَت أنّه صلى الله عليه وسلم: ((كان يقرأ في الظهر والعصر بسورة {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوج} [البروج: 1] {وَالسَّمَاء وَالطَّارِق} [الطارق: 1] وشِبْههِما)). أخرجه أبو داود والترمذي, وصحّحه من حديث جابر بن سَمُرة.
و((أنّه قرأ من سورة (لقمان), و(الذاريات) في صلاة الظهر)). أخرجه النسائي عن البراء، و((أنّه قرأ في الأولى من الظهر بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة} [الغاشية: 1])). أخرجه النسائي أيضًا عن أنس.
وثبت ((أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأوليَيْن من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتَيْن, يطوِّل في الأولى ويقصِّر في الثانية)). عند البخاري -وقد تقدّم، ولم يُعِّين السورتَيْن.
وتقدّم ((أنه كان يقرأ في الركعتَيْن الأوليَيْن من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة)).
وتقدّم أيضًا: ((أنه كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتيْن، في كلّ ركعة قَدْر ثلاثين آية, وفي الآخِرتَيْن قَدْر خَمْس عَشْرة آية, أو قال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأولييْن في كل ركعة قدْر خمس عشرة آية, وفي الأخْريَيْن قدْر نصف ذلك)).
وثبت عن أبي سعيد عند مسلم, وغيره أنه قال: ((كنّا نَحْزُر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، فَحزَرْنا قيامه في الركعتيْن الأولييْن من الظهر قدْر قراءة, {الم * تَنزِيلُ} -أي: سورة السجدة. وحزَرْنا قيامه في الركعتيْن الأخرييْن قدر النصف من ذلك. وحَزَرْنا قيامه في الركعتيْن الأولييْن من العصر على قدر قيامه في الآخرتيْن من الظهر, وفي الآخرتيْن من العصر على النصف من ذلك)).
وقوله: ((حَزَرْنا)) يعني أي: قدّرْنا تخمينًا، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في هاتَيْن الصلاتَيْن في وقت الغفلة.
وقوله: ((وفي الصبح أطول من ذلك)): قال العلماء: “لأنها تُفعل في وقت الغفلة بالنوم في آخِر الليل, فيكون في التطويل انتظار للمتأخِّر. قال النووي حاكيًا عن العلماء: “إنّ السّنة: أن تقرأ في الصبح والظهر بطوال المفصّل. والمفصّل يبدأ من سورة (ق) أو من سورة (الحجرات). ويكون الصبح أطول وفي العشاء والعصر بأوساط المفصّل، وفي المغرب بقِصاره”. يعني: أنّ المُفصّل قسِّم ثلاثة أقسام: السّوَر الطوال التي في أوائل سورة (الحجرات) أو (ق), ثم السوَر المتوسطة، ثم القصار التي هي في آخر جزء من القرآن الكريم.
قال: قالوا: والحكمة في إطالة الصبح والظهر, أنّهما في وقت غفلة بالنوم آخِر الليل وفي القائلة، فَطُوِّلتا لِيدركهما المتأخِّر بغفلة ونحوها, وأنّ العصر ليست كذلك، بل تفعل في وقت تعب أهل الأعمال، فخُفِّفت عن ذلك. والمغرب ضيّقة الوقت، فاحتيجت إلى زيادة تخفيفها لذلك، ولحاجة الناس إلى عشاء صائمهم وضيفهم. والعِشاء في وقت غَلَبة النوم والنعاس، ولكن وقتها أوسع، فأشبهت العصر. انتهى”.
وكون صلاة المغرب السّنّة: القراءة بقصار المفصّل, غير مسلم فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بسورة (الأعراف) و(الطور) و(المرسلات), كما سيأتي في أحاديث هذا الباب.
فعن جبير بن مطعم: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ(الطور)). رواه الجماعة إلا الترمذي.
وعن ابن عباس: ((أنّ أمّ الفضل بنت الحارث سمعته, وهو يقرأ: (والمرسلات عرفًا), فقالت: يا بنيّ، لقد ذكّرتني بقراءتك هذه السورة: إنها لآخِر ما سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب)). رواه الجماعة إلا ابن ماجه.
وعن عائشة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بسورة (الأعراف)، فرّقها بين الركعتين)).
وقد رُوي أن زيدًا قال لمروان: ((إنك لتخفّف القراءة في الركعتيْن من المغرب, ووالله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيهما بسورة (الأعراف) في الركعتيْن جميعًا)). أخرج هذه الرواية ابن خزيمة.
قلنا: إنّ كون السّنّة في صلاة المغرب: القراءة بقصار المفصّل, غير مسلم، فقد ((ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بسورة (الأعراف) (والطور) (والمرسلات)). وَثَبَت ((أنه صلى الله عليه وسلم , قرأ فيها بـ(الأعراف) في الركعتين جميعًا)). أخرجه ابن أبي شيبة في “مصنّفه” عن أبي أيوب، و((قرأ بـ(الدخان)). أخرجه النسائي. وأخرج البخاري عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصّل, و((قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم , يقرأ بطولَيْ الطولييْن)). والطُّوليان هما: (الأعراف), و(الأنعام).
وثَبَت ((أنه قرأ صلى الله عليه وسلم فيه, بـ(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)). أي: سورة (محمّد صلى الله عليه وسلم). أخرجه ابن حبّان من حديث ابن عُمَر.
جـ. باب: الذّكر في الركوع والسجود:
حديث حذيفة:
قال الإمام مجد الدين ابن تيمية -رحمه الله-: عن حُذيفة, قال صَلّيت عند النبي صلى الله عليه وسلم: ((فكان يقول في ركوعه: “سبحان ربِّي العظيم”, وفي سجوده: “سبحان ربِّيَ الأعلى”. وما مرّت به آية رحمة إلّا وقف عندها يسأل, ولا آية عذاب إلّا تعوّذ منها)). رواه الخمسة، وصحّحه الترمذي. الحديث أخرجه أيضًا مسلم.
وقوله: ((وما مرّت به آية رحمة إلّا وقف عندها يسأل)) أي: يسأل الرحمة.
وقوله: ((ولا آية عذاب إلّا تعوّذ منها)) أي: من العذاب وشرِّ العقاب.
قال ابن رسلان: ولا بآية تسبيح إلا سبح وكبّر, ولا بآية دعاء واستغفار إلا دعا واستغفر, وإن مرّ بمرجُوٍّ سأل, يفعل ذلك بلسانه أو بقلبه.
والحديث يدلّ على مشروعية هذا التسبيح في الركوع والسجود: ((سبحان ربي الأعلى)) في السجود, و((سبحان ربي العظيم)) في الركوع. وقد ذَهَب الشافعي, ومالك, وأبو حنيفة, وجمهور العلماء من أئمّة العترة وغيرهم إلى: أنه -أي: التسبيح- سُنّة، وليس بواجب.
وقال إسحاق بن راهويه: “التسبيح واجب؛ فإن تَرَكه عمدًا بطلتْ صلاته, وإن نَسِيَه لم تَبْطل”. وقال الظاهري: “واجب مطلقًا” -ولعلّه يقصد بالظاهري: داود ابن علي. وأشار الخطابي في (معالم السنن) إلى اختياره -يعني: اختار أن يكون واجبًا. وقال أحمد: “التسبيح في الركوع والسجود، وقول: “سمع الله لمن حمده”, و”ربّنا لك الحمد”، والذِّكْر بين السجدتَيْن, وجميع التكبيرات: واجب؛ فإن تَرَك منه شيئًا عمدًا بَطَلت صلاته, وإن نَسيَه لم تبطل، ويسجد للسهو”. هذا هو الصحيح عنه. وعنه -أي: عن الإمام أحمد: رواية- أنه سُنّة, كقول الجمهور.
وقد رُوي القول بوجوب التسبيح في الركوع والسجود عن ابن خزيمة. واحتجّ الموجبون بحديث عقبة بن عامر الآتي, وهو: أنه ((لمّا نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم} [الواقعة:74] قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : “اجعلوها في ركوعكم”. فلمّا نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]، قال: “اجعلوها في سجودكم”)). رواه احمد وأبو داود وابن ماجه.
ففي هذا أمر, والأمر بالأصل للوجوب. وبقوله احتجّ أيضًا الموجبون للتّسبيح للركوع والسجود, بقوله صلى الله عليه وسلم : ((صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي))، وبقوله تعالى: {سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11]؛ ولا وجوب في غير الصلاة، فَتَعيّن أن يكون فيها، وبالقياس على القراءة, -يعني: على قراءة (الفاتحة).
واحتجّ الجمهور بحديث المسيء صلاته, فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم , عَلّمه واجبات الصلاة, ولم يعلِّمه هذه الأذكار، مع أنه علّمه تكبيرة الإحرام والقراءة. فلو كانت هذه الأذكار واجبة, لعَلّمه إيّاها، لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ فيكون تَرْكه لِتَعْليمه دالًا على أن الأوامر الواردة بما زاد على ما علّمه في هذا الحديث -في حديث المسيء صلاته- للاستحباب لا للوجوب.
والحديث يدلّ على أن التسبيح في الركوع والسجود يكون بهذا اللفظ: ((سبحان ربّي الأعلى)) و((سبحان ربي العظيم))؛ فيكون مُفسِّرًا لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عقبة: ((اجعلوها في ركوعكم, اجعلوها في سجودكم)) كما قرأنا هذا الحديث. وإلى ذلك ذهب الجمهور من أهل البيت, وبه قال جميع من عداهم. وقال الهادي والقاسم والصادق: إنه “سبحان الله العظيم وبحمده” في الركوع, و”سبحان الله الأعلى وبحمده” في السجود. واستدلوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم بجعل الأولى في الركوع، والثانية في السجود, كما يأتي في حديث عقبة. ولكنه لا يتِمّ على فرض أنه ليس لله جل جلاله إلّا اسم واحد, وقد تقرّر أن له تسعة وتسعين اسمًا بالأحاديث الصحيحة, وأن له أسماء متعدّدة بصريح القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]. فامتثال ما في الآيتيْن يحصل بالمجيء بأيّ اسم منها, مثل: “سبحان ربي” و”سبحان الله” و”سبحان الأحد”, وغير ذلك… لكنه قد وَرَد من فِعْله صلى الله عليه وسلم ما يدلّ على بيان المراد من ذلك, كحديث الباب وغيره.
وكذلك وَرَد من قوله ما يدلّ على ذلك, كحديث ابن مسعود الآتي: أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رَكَع أحدكم فقال في ركوعه: “سبحان ربِّي العظيم” ثلاث مرّات, فقد تمّ ركوعه؛ وذلك أدناه. وإذا سجد فقال في سجوده: “سبحان ربّي الأعلى” ثلاث مرات, فقد تم سجوده؛ وذلك أدناه)). رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه, وهو مرسل, عون لم يَلْقَ ابن مسعود, وهو قد رَوَى هذا الحديث عنه؛ فتَعَيّن أن لَفْظ “الربّ” هو المراد: ((سبحان ربي الأعلى)), ((سبحان ربي العظيم)), وبهذا يندفع ما ألزم به صاحب (البحر) من تلاوة لفظ الآيتيْن في الركوع والسجود. وأما زيادة ((وبحمده)) فهي عند أبي دواد من حديث عقبة الآتي, وعند الدارقطني من حديث ابن مسعود الآتي أيضًا, وعنده أيضًا من حديث حذيفة، وعند أحمد والطبراني من حديث أبي مالك الأشعري, وعند الحاكم من حديث أبي جحيفة, ولكنه قال أبو دواد بعد إخراجه لها من حديث عقبة: إنه يخاف ألا تكون -أي: هذه الزيادة: ((وبحمده)) محفوظة, وفي حديث ابن مسعود: السري بن إسماعيل, وهو ضعيف، وفي حديث حذيفة: محمد بن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى, وهو ضعيف سيّء الحفظ, وفي حديث أبي مالك الأشعري: شهر بن حوشب. وقد رواه أحمد والطبراني أيضًا من طريق ابن السعدي عن أبيه بدونها. وحديث أبي جحيفة قال الحافظ: “إسناده ضعيف”. وقد أنكر هذه الزيادة ابن الصلاح وغيره, ولكن هذه الطّرق تتعاضد فيُردُّ بها هذا الإنكار. وسُئِل أحمد عنها فقال: “أمّا أنا فلا أقول: “وبحمده”. انتهى.