باب ما جاء في المذي، وباب ما جاء في المنيّ
. باب ما جاء في المذي:
قال المصنِّف مجد الدِّين ابن تيمية: عن سهل بن حنيف، قال: كنت أجِد من المذي شدّة وعناءً، وكنت أُكثر منه الاغتسال، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنما يُجزيك من ذلك: الوضوء))، فقلت: يا رسول الله، كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: ((يكفيك أن تأخذ كفًّا من ماء، فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه قد أصاب منه))، رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي وقال: حسن صحيح. ورواه الأثرم، ولفظه: قال: كنت ألقى مِن المذي عناءً، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ((يُجزيك أن تأخذ حفنةً من ماء، فترشّ عليه)).
وعن علي بن أبي طالب، قال: كنت رجلًا مذّاءً، فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرتُ المِقداد بن الأسود، فسأله فقال: ((فيه الوضوء))، أخرجاه -يعني: البخاري ومسلم.
الحديث الأول -وهو حديث سهل بن حنيف- في إسناده: محمد بن إسحاق، وهو ضعيف إذا عنعن، لكونه مدلِّسًا، ولكنه ها هنا صرح بالتحديث، فزالت تهمة التدليس.
وقوله: “ألقََى من المذي شدّة”، المذي: ماء رقيق أبيض لزج، يخرج بلا شهوة عندما يشتهي المرء، ولا دفْقَ فيه كالمني، ولا يعقبه فتور كالمني أيضًا. وربما لا يُحسّ بخروجه.
وقوله: ((فتنضَح به ثوبك))هو: الرّشّ. وهكذا ورد الأمر بالنّضح في الفَرْج عند مسلم وغيره. وقال النووي: “معناه: الغَسل. فإن النضح يكون غسلًا ويكون رشًا.
وقوله: “مذاءً”: صيغة مبالغة من المذي، يقال: مذَى يمذي، كمضى يمضي، ثلاثيًّا. ويقال: أمذى يُمذي، كأعطى يعطي، ومذّى ويُمذِّي، كغطّى ويُغطِّي.
قوله: ((وأنثييْه)) أي: خصيتيْه.
وقوله: “عن الماء يكون بعد الماء”، في رواية أخرى عند المصنِّف -مجد الدين بن تيمية- المراد به: “خروج المذي عقيب البول، متصلًا به”.
وقوله: ((وكل فحْل يَُمذي))، الفحْل: الذّكَر من الحيوان.
أحكام هذا الباب:
فقد استُدل بأحاديث الباب على أن الغَسل لا يجب لخروج المذي، قال في (الفتح): وهو إجماع، وعلى أنّ الأمر بالوضوء منه كالأمر بالوضوء من البول، وعلى أنه يتعيّن الماء في، تطهيره لقوله: ((كفًّا من ماء)) و((حفنة من ماء)).
واتفق العلماء على أن المذي نجِس، ولم يخالف في ذلك إلاّ بعض الإمامية. وقد اختلف أهل العلم في المذي إذا أصاب الثوب، فقال الشافعي وإسحاق وغيرهما: لا يجزيه إلاّ الغَسل، أخذًا برواية الغسل وفيه ما سلف، على أن رواية الغسل إنما هي في الفَرج لا في الثوب الذي هو محلّ النزاع؛ فإنه لم يعارض رواية النضح المذكورة في الباب مُعارض، فالاكتفاء بالنضح في الثوب صحيح مُجزٍ.
واستدلّ أيضًا بما في الباب على وجوب غَسل الذّكَر والأنثييْن على المُمذي، وإن كان محل المذي بعضًا منها؛ وإليه ذهب الأوزاعي، وبعض الحنابلة، وبعض المالكية. وذهبت العترة -وهو قول الجمهور- إلى أن الواجب غَسل المحل الذي أصابه المذي من البدن، ولا يجب تعميم الذّكر والأنثييْن.
ب. باب: ما جاء في المنيّ:
عن عائشة قالت: ((كنت أفرك المنيّ من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يذهب فيصلي فيه))، رواه الجماعة إلاّ البخاري -يعني: رواه أصحاب الكتب السّتّة وأحمد إلاّ البخاري. ولأحمد: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلت المنيّ من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحتّه من ثوبه يابسًا، ثم يصلي فيه)).
وفي لفظ متّفق عليه: ((كنتُ أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء)). وللدارقطني عنها: ((كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسًا، وأغسله إذا كان رطبًا)).
قال الإمام مجد الدِّين: “فقد بان من مجموع النصوص: جواز الأمريْن”. وعن إسحاق بن يوسف، قال: حدثنا شريك، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب، فقال: ((إنّما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحَه بخِرقة أو بإذخرة))، رواه الدارقطني .
قال الشوكاني: حديث عائشة لم يسنده البخاري، وإنما ذكره في ترجمة باب -أي: معلَّقًا. ولفظ أبي داود: ((ثم يصلِّي فيه))، ولفظ الترمذي: ((ربما فركته من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعي)) وفي رواية: ((وإني لأحكّه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسًا بظفري)) . وأخرج ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، والدارقطني، عن عائشة: “أنها كانت تحتّ المنيّ من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلِّي”. وأخرج أبو عوانة في صحيحه، وأبو بكر البزار، من حديث عائشة: ((كنت أفرك المنيّ من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسًا، وأغسله إذا كان رطبًا))، كحديث الباب، وأعلّه البزار بالإرسال. وقوله: “أفرك” أي: أدْلك. قال: وقوله: “بعرق الإذخر”، هو: حشيش طيب الريح. وقوله: “كنت أغسله” أي: أثر الجنابة أو المنيّ. وقولها: “بقع الماء” هو: بدل من أثر الغسل.
أحكام هذا الباب:
فقد استدل بما فيه على أنه يكتفى في إزالة المني من الثوب بالغسل أو الفرك أو الحت؛ ومع ذلك فقد اختلف أهل العلْم في المنيّ: هل هو طاهر أو نجس؟ فذهبت العترة، وأبو حنيفة، ومالك، إلى نجاسته، إلا أبا حنيفة قال: يكفي في تطهيره فرْكُه إذا كان يابسًا، وهو رواية عن أحمد. وقالت العترة ومالك: لا بأس من غَسله رطبًا ويابسًا.
احتج القائلون بنجاسته بما روي في غسله، والغسل لا يكون إلا لشيء نجس. وأجيب عن هذه الحجة بأنه لم يثبت الأمر بغسله من قوله صلى الله عليه وسلم في شيء من أحاديث الباب، وإنما كانت تفعله عائشة، ولا حجة في فعلها إلا إذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علِم بفعلها وأقرّها، على أنّ علْمه بفعْلها، وتقريره لا يدل على المطلوب؛ لأن غاية ما هناك أنه يجوز غسل المنيّ من الثوب؛ وهذا مما لا خلاف فيه، بل يجوز غسل ما كان متفقًا على طهارته كالطيب والتراب، فكيف بما كان مستقذَرًا؛ فلا يدل فعْل عائشة على أن المنيّ نجس، حتى لو أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا ممّا لا يجوز الاحتجاج بمثله في أن المني نجِس.
أما القائلون بالطهارة: فقد احتجوا برواية الفَرْك. ويجاب عنه بما سلف مِن أنه من فعْل عائشة، إلا أنه إذا فرض اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك أفاد المطلوب، وهو الاكتفاء في إزالة المنيّ بالفرك؛ لأن الثوب ثوب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فيه بعد ذلك كما ثبت في الرواية المذكورة في الباب. ولو كان الفرْك غير مطهِّر لَمَا اكتفى به ولما صلّى فيه.
وقد صرح الحافظ في (الفتح): بأنه لا معارضة بين حديث الغَسل والفرك؛ لأن الجمْع بينهما واضح على القول بطهارة المنيّ، بأن يُحمل الغسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب. ويردّ الطريقة الثانية أيضًا: ما في رواية ابن خزيمة، من طريق أخرى، عن عائشة: ((كان صلى الله عليه وسلم يسلت المنيّ من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه))”، و((يحتّه من ثوبه يابسًا ثم يصلِّي فيه))؛ فإنه تضمّن ترك الغسل في الحالتيْن، سواء أكان ذلك رطبًا أو يابسًا. انتهى كلام ابن حجر.