باب: وجوب الأذان وفضله
أ. حديث أبي الدّرداء: ((ما مِن ثلاثة لا يُّؤذِّنون…))
عن أبي الدرداء قال: سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَا مِن ثَلاثة لا يُؤذِّنون, ولا تُقام فيهم الصلاة، إلّا اسْتحوذ عليْهم الشّيطان)). رواه أحمد. والحديث أخْرجه أبو داود, والنسائي, وابن حِبّان, والحاكم وقال: “صحيح الإسناد”.
والحديث اُسْتُدلّ به عَلى: وُجوب الأذان والإقامة، لأنّ التّرك الذي هو نوْع مِن اسْتِحْواذ الشّيطان يجِب تجنُّبه. وإلى وجوبهما ذهب أكْثر العِتْرة، وعَطاء, وأحمد بن حنبل, ومالكٌ.وقال آخَرون: الأذان فرْض كِفاية، إذا قام به البعْض سَقَط عن الباقين.
ومن أدلّة الموجبين لِلْأذان:
قوله في حَديث مالك بن الحويرث الآتي: ((فليُؤذِّن لكم أحدُكم))، وهذا أمْر، والأمر للوجوب. وفي لفْظ للبخاري: ((فأذِّنا ثمّ أقيما)).
ومِنْها: حدِيث أنس المتّفق عليه, بلفظ: ((أُمِر بلال أنْ يشْفع الأذان, ويُوتر الإقامة)). والآمِر لَه: هو النّبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
وهذا بِطبيعَة الحال لأنّه ما دام في عَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأمْر والنّهي إنّما كان مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ب. حديث مالك بن الحويرث: ((إذا حضَرَت الصلاة…))
عن مالك بن الحُوَيْرِث: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا حضَرَت الصّلاة، فلْيُؤذِّنْ لكُم أحدُكم، ولْيَؤُمّكم أكْبركُم)). متّفقٌ عليه.
وقد رواه أبو مسْعودٍ البَغَوي الفرّاء, وفيه: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((صلُّوا كما رأيْتُموني أُصلِّي! فإذا حَضَرَت الصّلاة فلْيُؤذِّن لكُم أحدُكم، ولْيَؤُمّكُم أكْبركُم)).
وهذا حديثٌ متفق عليه وعلى صحّته. رواه الإمام البخاري عن مُسَدّد، وأخرجه مُسْلم عن زُهيْر بن حَرْب، كِلاهما عن إسماعيل بن إبراهيم، وهو: ابن عُليّة عن أيّوب.
ثمّ قال: الْعَمَل على هذا عند أكْثر أهْل العِلْم، اخْتاروا الأذان في السّفر.
قال الشافعي: وترْك الأذان في السّفر أخَفُّ منْه في الحَضَر. وإنّما قال ذلك لِأنّ السّفر يُؤثِّر في تخْفيف العِبادات، كما أثّر في إباحة القَصر والفِطر والجمْع. يعني: القَصر في الصّلاة والفِطر في الصِّيام والجمْع, يعني: بيْن الصّلاتيْن.
وقال أصحاب الرّأي:
ترْكه في الحََضَر أخَفّ مِنه في السّفر، وذلك لأنّ الحَضَر هُم مُجْتمِعون بِطبيعَة الحال. أمّا في السّفر، فهُم مُتفرِّقون؛ فالأذان يجْمعُهم.
قال: وذَهب بعضُهم إلى: أنّه يُقيم في السّفر لأنّ الأذان لِجْمع النّاس؛ وهم في السّفر يكونون مجْتمعِين. هكذا! فقد يكونون مجْتمعِين، وقد يكونون مُتفرِّقين في أماكن مُتعدِّدة.
قال البَغوي: وقد كان عبد الله بن عُمَر لا يزيد على الإقامة في السّفر, إلّا في الصّبح، فإنّه كان يُنادي فيها ويُقيم. وكان يقول: “إنّما الأذان لِلْإمام الّذي يجْتمِع النّاس إليه”.
وقوله: ((فلْيُؤذِّن لكُم أحدُكم)) يدُلّ على: أنّه لا يُعْتبر السِّنُّ والفضْل في الأذان، كما يُعْتبر في إمامة الصّلاة.
وقد استَدل بهذا مَن قال بأفْضلِيّة الإمامة على الأذان، لأن كون الأشرف أحق بها مشعرٌ بِمَزيد شرفٍ لها. وفي لفْظ لِلْبخاري: ((فإذا أنتُما خرجْتُما فأذِّنا)). ولا تَعارُض بيْنه وبيْن ما في حديث الباب، لِأنّ المُراد بقوْله: ((أذِّنا)). أي: مَن أحبّ مِنْكما أنْ يُؤَذِّن فلْيُؤَذِّن، وذلك لِاسْتِوائهما في الفَْضْل.
والحديث استَدل به مَن قال بوجوب الأذان، لِما فيه مِن صيغة الأمْر. وقد تَقدّم الكلام في ذلك والخِلاف. وقد تقدّم أيضًا قوْل الشاّفعيّ وأصحاب الرّأْي الّذين يقولون بِسُنِّية الأذان والإقامة, وكيف فَهِم هؤلاء هذا الحديث.
ج. حديث معاوية: ((إنّ المُؤذِّنين أطْول النّاس أعناقًا…)).
عن معاوية: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّ المُؤذِّنين أطْولُ النّاس أعْناقًا يوم القيامة)). رواه الإمام أحمد, ومسلم, وابن ماجه.
قوله: ((أطْولُ النّاس أعْناقًا))، قال ابن الأعْرابي: معْناه: أكْثَرُهم أعمالًا. يُقال: “لفُلان عُنُقٌ مِن الخيْر”؛ أي:” قِطْعة مِن الخيْر”.
وقيل: معناه: الدُّنُوُّ مِن الله عز وجل . وقيل: أراد أنّه لا يُلجِمُهم العَرَق؛ فإنّ النّاس يوم القيامة يكونون في العَرَق بِقدْر أعمالهم: فمِنْهم مَن يأْخُذه إلى كَعْبيْه، ومِنْهم مَن يأخُذُه إلى رُكْبتيْه، ومِنهم مَن يأخُذه إلى حِقْوَيْه -يعني: وَسَطِه- ومِنهم مَن يُلْجِمُه العَرَق -أي: يبْلُغ بِه إلى فِيه-.
معنى الحديث:
أنّ جَمْع المُؤذِّنين يكون أكثَر على هذا الرّأْي، فإنّ مَن أجاب دَعْوتَه يكون مَعَه.
وروى بعضُهم: ((إعناقًا)) -بِكسْر الهمزة- أي: إسراعًا إلى الجنّة.
وقوله: ((أطولُ الناس أعناقًا)) هو بِفَتْح الهَمْزة، جمْع عُنُق.
وفي (صَحيح ابن حِبّان)، مِن حديث أبي هريرة: ((يُعرفون بطُول أعناقهم يوم القيامة))، زاد السّراج: ((لِقوْلهم: “لا إله إلّا الله”))، وظاهِرُه: الطّول الحقِيقي؛ فلا يجُوز المصير إلى التّفسير بغيْره إلّا لِمُلْجِئ.
أمّا بالنسبة لأحكام هذا الحديث، فهو يدل على:
فضِيلَة الأذان، وأنّ صاحبه يوم القيامة يمْتاز عن غيْره، ولكِنْ إذا كان فاعله غيْر متّخذٍ أجرًا عليه, وإلّا كان فِعْله لذلك مِن طَلَب الدُّنيا، والسّعْي لِلْمَعاش، وليس مِن أعمال الآخِرة.
وفي هذا نظرٌ في رأيي، لأنّه إذا كان يأخُذ أجرًا وهو في حاجة إلى هذا الأجر، ويطْمع في فضْل الله عز وجل وأنّه يعْمل هذا أيضًا مُحْتسبًا لله عز وجل فَله نِيّتُه في ذلك؛ وهذا يُنِيلُه كرَم الله سبحانه وتعالى بهذه الفضيلة -إنْ شاء الله عز وجل وتعالى.
وقد اسْتَدَّل بهذا الحديث من قال: إنّ الأذان أفضل مِن الإمامة.
وهو نصّ الإمام الشافعي في (الأمّ)، وقوْل أكثر أصحابه.
وذَهب بعض أصحابه إلى: أنّ الإمامة أفضل.
وبعضهم ذَهب إلى: أنّهما سواء، وبعضهم إلى: أنّه إنْ عَلِم مِن نفْسه القيام بحقوق الإمامة وجمْع خِصالها، فهي أفضل، وإلّا فالأذان أفضل؛ قاله: أبو عليّ وغيره, والمسعودي، والقاضي حسين من أصحاب الشّافعي.