Top
Image Alt

باقي خصائص (مسند الإمام أحمد)

  /  باقي خصائص (مسند الإمام أحمد)

باقي خصائص (مسند الإمام أحمد)

نقل ابن الجزري في (المصعد الأحمد) عن الذهبي أنه قال: (المسند) محتوٍ على أكثر الحديث النبوي, وقل أن يثبت حديث إلا وهو فيه، وأما الحسان فما استوعبت فيه؛ بل عامتها إن شاء الله فيه، وما فيه لين والغرائب فروى من ذلك الأشهرَ وترك الأكثرَ مما هو مأثور في السنن الأربعة، و(معجم الطبراني الكبير) و(الأوسط), و(مسندي أبي يعلى والبزار) و(مسند بقي بن مخلد), وأمثال ذلك.

ومن سعد (مسند أحمد) أنه قل أن نجد فيه خبرًا ساقطًا، وقال ابن حجر في (النكت): ذكر ابن تيمية أن أصل هذه القصة -أي: الخلاف- في درجة أحاديث (المسند) أن الحافظين أبا العلاء الهمذاني وأبا الفرج ابن الجوزي سئلَا: هل في (المسند) أحاديث موضوعة؟ فأنكر ذلك أبو العلاء أشد الإنكار، وأثبت ذلك ابن الجوزي وبين ما فيه من ذلك بحسب ما ظهر له، ثم إن أبا موسى المديني انتصر لشيخه أبي العلاء وصنف (خصائص المسند).

وقد ألف ابن حجر (القول المسدد في الذّبّ عن المسند) ردّ فيه دعوى وجود الموضوع في (المسند) جملةً وتفصيلًا، ثم أورد أحاديثَ ذكرها ابن الجوزي في (الموضوعات) أو (الواهيات من المسند), فبين أنه لا يتأتى الحكم على شيء منها بالوضع، وبدأ بإيراد مصنف شيخه في ذلك ثم أتبعه تصنيفه.

قال السيوطي: وقد فاته أحاديث أخر أوردها ابن الجوزي وهي فيه، جمعتها في جزء سميته (الذيل الممهد مع الذب عنها) وعدتها أربعة عشر حديثًا. وقال ابن حجر في (تعجيل المنفعة): ليس في (المسند) حديث لا أصلَ له إلا ثلاثة أحاديث أو أربعة، منها حديث عبد الرحمن بن عوف “أنه يدخل الجنة زحفًا” قال: والاعتذار عنه أنه مما أمر أحمد بالضرب عليه فترك سهوًا، أو ضُرب وكتب من تحت الضرب.

وبعد عرض الرأيين نستطيع أن ندعم الرأي الأول بدراساتٍ تدل على جَهد الإمام أحمد في انتقائه، وتبرز منهجه في الاختيار والتصنيف؛ منها:

عدم اعتماد النقد الوارد على الحديث إذا لم يسانده الدليل، ففي كتاب (العلل) لعبد الله بن أحمد عن أبيه قال: جاء رجل إلى إسماعيل بن إبراهيم بن علية, فحدثه بحديث عن رجل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله، أكتبُ عنك ما أسمع منك؟ قال: ((نعم))، قلت: في الرضا والغضب؟ قال: ((نعم، إنه لا ينبغي أن أقول في ذلك إلا حقًّا)) فنفض إسماعيل ثوبه حيث حدثه ذلك الرجل بالحديث، وقال: أعوذ بالله من الكذب وأهله. ثم بين أحمد السبب في ذلك فقال: كان ابن علية يذهب مذهب البصريين، ثم رَوَى عن ابن علية عن محمد بن سيرين: كان يكره الكتاب. وروى بسنده عن ابن علية, إلى أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تكتبوا عني شيئًا…)) هذا معناه.

لقد كان ابن علية لا يرى كتابة الحديث، وكان من أحفظ الناس بالبصرة، وكان هذا مذهب البصريين، فلما ورد عليه الحديث بخلاف ذلك عن رجل ليس تامَّ الضبط فيما يظهر؛ نفَرَ منه واعتبره من الكذب، فقد يكون الرجل ضابطًا، لكن الإمام أحمد لم يعتمد هذا النقد لورود ما يثبت خلافه، وإن كان الجمع بين النهاية والإباحة ما دامت الروايات قد ثبتت.

وروى في (المسند) الحديث فقال: حدثنا يزيد بن هارون ومحمد بن يزيد قالَا: أخبرنا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب فذكره مختصرًا، وكرره فقال: حدثنا علي بن عاصم أخبرنا دويد الخراساني والزبير بن عدي قاعد معه قال: أخبرنا عمرو بن شعيب ولم يروه من طريق ابن علية في (المسند) ورواه من غير طريق عمرو بن شعيب؛ تأكيدًا لثبوته عن عبد الله بن عمرو، فرواه بسنده عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو بتفصيل، ورواه بنفس هذا السند مع بعض الزيادات والتغيير في الألفاظ، وكل ذلك ينفي الكذب عمن روى الحديث، ويظهر أن الراوي الذي روي لابن علية الحديث عنه عن عمرو بن شعيب هو دويد الخراساني على ما يظهر، أو محمد بن إسحاق، وكلاهما لا يعتمد فيما تفرد به.

ومن ذلك: عدم اعتماد النقد الوارد في الراوي, إذا ترجح عنده خلافه.

ومن ذلك أيضًا: مخالفة أقرانه في تضعيف راوٍ معين، حيث رأى أن أحاديثه ليست كما قيل فيها، في (المسند) قال أحمد: حدثنا نصر بن باب عن حجاج عن أبي الزبير عن جابر فذكر حديثًا، ثم روى بعده أربعةَ أحاديث كلها من طريق نصر عن حجاج، ثم قال عبد الله: قلت لأبي: سمعت أبا خيثمة يقول: نصر بن باب كذاب؟ فقال: أستغفر الله، كذاب! إنما عابوا عليه أنه حدَّث عن إبراهيم الصائغ، وإبراهيم الصائغ من أهل بلده، فلا ينكر أن يكون سمع منه. وفي رواية قال: ما أجترئ على هذا أن أقوله -أي: كذاب- أستغفر الله.

وعن نصر هذا قال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال البخاري: يرمونه بالكذب.

والأحاديث التي رواها أحمد له مؤيدة بروايات أخرى، ونُقل عن ابن معين أنه قال عن نصر: كذاب خبيث, عدو الله، ذهبت إليه أنا وابن الحجاج بن أرطاة، فأخرج إلينا كتبًا كان فيها كتاب عوف، فجعل يحدثنا فطوى رأس الكتاب فاستربت به، فقلت: ناولني الكتاب، فأبَى أن يعطيني فوثبتُ عليه فأخذت الكتابَ منه، فنظرت فيه وكان يحدث عن عوف، فإذا أوله: بسم الله الرحمن الرحيم، حدثنا نوح بن أبي مريم أبو عصمة الخراساني عن عوف، فطرحت الكتابَ بين يدي وقمتُ وتركناه، قيل له: كيف هذا؟ قال: هذه كتبناها عن أبي عصمة، ثم سمعتها بعد فقمنا وتركناه.

والكلام عن نصر بن باب يدل على أن أحمد لم يبلغه ما كشفه ابن معين من سرقته للحديث، أو تدليسه عن المتروكين، ولو وصل إلى أحمد ما ذكره ابن معين أو دقق في حديثه المروي عنه وفي متونه بعض المناكير؛ لَمَا روى عنه ولما انفرد بقبوله دون بقية العلماء.

وقد روى له في (المسند) ما لم ينفرد بروايته من المتون، بل وما لم ينفرد بروايته عمن روى عنه في الغالب وإن كان في متونه في (المسند) بعض المناكير، ففيما رواه له أحمد: عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- “احتجم صائمًا محرمًا فغشي عليه؛ فلذلك كره الحجامة للصائم”, ويظهر أنه تفرد بقوله: “فغشي عليه”. وفيما رواه عن جابر في وفاء أبي بكر له بما وعده به الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته زاد: “ثم قال أبو بكر: ليس عليك فيها صدقة حتى يحول الحول”. وفي حديث الحديبية زاد عن جابر: “قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه في كل تكبيرة من الصلاة”, وهو ما ذكره البخاري في (التاريخ) له، ثم ما ذكر رميهم له بالكذب.

وبالجملة فأحمد -رحمه الله- اجتهد في أمره بحسب ما وصل إليه، وروى له ما ووفق في أصله وإن خالف في بعض التفاصيل.

ويظهر من ذلك وغيره أن أحمد يعتبر أصل المتن لا كل ما ورد فيه من التفاصيل، وبين الضعف الوارد في الحديث مع سلامة الحديث في روايات أخر يستوعب بها روايات الحديث، ويؤيد بها ما يزيل الضعفَ الوارد في الرواية التي وردت عنده، ويبين الخطأ بالإشارة من غير أن يذكر ما فيه من الخطأ مع رواية ما يدل عليه، ففي (العلل) أنه قال: حدثنا ابن مهدي عن سفيان الثوري أنه قال للأعمش: حديث البندقة ليس من حديثك, قال: ما أصنع؟ لم يتركوني، قالوا: إن شعبة يحدث به عنك. ورواه أحمد في (المسند) فقال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن عدي بن حاتم أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إذا أرسلت كلبك وسميت, فخالط كلابًا أخرى فأخذته جميعًا، فلا تأكل؛ فإنك لا تدري أيهما أخذه, وإن رميتَ فسميت فخزقت فَكُل، فإن لم ينخزق فلا تأكل، ولا تأكل من المِعْرَاض إلا ما ذكَّيتَ، ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت” ورواه بأسانيد أخرى من طريق سفيان عن الأعمش، ومن طريق سفيان عن منصور، كلاهما عن إبراهيم عن همام عن عدي، ورواه من طريق عبد العزيز بن عبد الصمد عن إبراهيم به.

وفي الأحاديث الثلاثة لم يرد ذكر البندقة، وبذلك تبين إدراج زيادة: “ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت” وتبين إرسال إبراهيم له عن عدي، حيث ذكر في الروايات الأخرى روايته له عن همام عن عدي, ومما أكد ثبوت الخطأ بالإدراج أنه روى نفس الحديث من طريق الشعبي عن عدي بعدة أسانيد في (المسند) -مسند عدي- وليس في رواية منها ذكر البندقة؛ وهكذا بين بتعدد الروايات زيادة البندقة، وأن الراجح عدم ثبوتها في الحديث فضلًا عن ثبوتها من رواية الأعمش, وإن لم يصرح في (المسند) بما صرح به في العلل؛ اعتمادًا على ظهوره من المقارنة بين الأحاديث.

ولا يروي المراسيلَ إلا إذا ترجح الاتصال، وصان (المسند) عن تدليس المدلسين وبخاصة المردودين، وعني ببيان ضبط المحدث لما رواه ولو كان من الصحابة، ففي مسند سمرة بن جندب كرر الرواية عن الحسن عن سمرة: “أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يسكت سكتتين إذا دخل في الصلاة, وإذا فرَغَ من القراءة” فأنكر ذلك عمران بن حصين، فكتبوا إلى أبي بن كعب يسألونه عن ذلك، فقال: “صدق سمرة”.

ويروي بسنده عن ثعلبة بن عباد عن سمرة بن جندب في خطبته التي كرر فيها حديثًا للرسول -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الكسوف وذكر الدجال، وهو حديث طويل في آخره، قال ثعلبة عن سمرة في المرة الثانية لرواية الحديث: فما قدَّم كلمة ولا أخّرها عن موضعها. وكرر رواية الحديث باختصار، وكرر كلامَ ثعلبة فيه.

وترك رواية الحديث المعضل, وعني بتصحيح أسماء الشيوخ، وبين الخطأ في اسم راو في العلل، وذكر الحديث نفسه في (المسند) ثم قال: وقال الطفاوي محمد بن عبد الرحمن: في هذا الحديث سوار أبو حمزة، وأخطأ فيه -أي: وكيع.

وفي (المسند) روى أحمد عن يحيى بن سعيد عن سفيان وشعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة, عن أبي عبد الرحمن عن عثمان, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال سفيان: ((أفضلكم…)) وقال شعبة: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) وليس لأبي عبد الرحمن عن عثمان في (مسند أحمد) غير هذا الحديث، ويرى البخاري في ترجمة أبي عبد الرحمن السلمي أنه سمع من عثمان، ومما يدل لذلك ما رواه البخاري في صحيحه في الوصايا بسنده عن أبي عبد الرحمن؛ أن عثمان -رضي الله عنه- حيث حُصر أشرف عليهم، وقال: “أنشدكم اللهَ، ولا أنشد إلا أصحابَ النبي -صلى الله عليه وسلم-, ألستم تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن حفر بئر رومةَ؛ فله الجنةُ…))” الحديث، وظاهر هذا الحديث أنه حضر وسمع، ولعل شعبة قال بعدم سماعه من عثمان قبل أن يروي عن أبي إسحاق عنه هذا الحديث.

هذا, وفي رواية البخاري لهذا الحديث قال: حدثنا حجاج بن مِنهال، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني علقمة بن مرثد، سمعت سعد بن عبيدة به بلفظ: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا. قال ابن حجر: وظهر لي أن البخاري اعتمد في وصله, وفي ترجيح لقاء أبي عبد الرحمن لعثمان على ما وقع في رواية شعبة عن سعد بن عبيدة من الزيادة، وهي أن أبا عبد الرحمن أقرأ من زمن عثمان إلى زمن الحجاج، وأن الذي حمله على ذلك هو الحديث المذكور؛ فدل ذلك على أنه سمعه في ذلك الزمان، وإذا سمعه في ذلك الزمان ولم يوصف بالتدليس؛ اقتضى ذلك سماعه ممن عنعنه عنه وهو عثمان -رضي الله عنه-, ولا سيما مع ما اشتهر بين القراء أنه قرأ القرآن على عثمان، وأسندوا ذلك عنه من رواية عاصم بن أبي النجود وغيره؛ فكان هذا أولى من قول من قال: إنه لم يسمع منه.

وذلك يدل على أن العنعنة عند أحمد يحترز فيها من التدليس، وإذا كان هناك اختلاف يأخذ بالراجح من ذلك.

وهناك أحاديث انتُقدت عليه وذب عنها ابن حجر، ويطول بنا الكلام لو فصَّلنا ما قلناه في بحث مفصل عن الإمام أحمد بن حنبل.

error: النص محمي !!