بدعة الحرورية “الخوارج”
والخوارج قالوا: نشهد على المرجئة بالصواب من قولهم، حيث قالوا: لا نتولى عليًّا ولا عثمان، ثم كفروا بعدُ، حيث لم يتبرءوا، ونشهد على أهل الجماعة بالكفر. قال ميمون بن مهران: وكان هذا أول ما وقع الاختلاف، وقد بلغوا أكثر من سبعين صنفًا -فنسأل الله العصمة من كل هلكة ومذلة.
وقد كان بعض من خرج من هذه الأصناف دعوا سعد بن أبي وقاص إلى الخروج معهم، فأبى عليهم سعد وقال: لا؛ إلَّا أن تعطوني سيفًا له عينان بصيرتان, ولسان ينطق بالكافر فأقتله وبالمؤمن فأكف عنه، وضرب لهم سعد مثلًا فقال: مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجة -والمحجة البيضاء الواضحة- فبينا هم كذلك يسيرون هاجت ريح عجاجة، فضلوا الطريق والتبس عليهم؛ فقال بعضهم: الطريق ذات اليمين فأخذوا فيه فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: الطريق ذات الشمال فأخذوا فيه فتاهوا وضلوا، وقال الآخرون: كنا على الطريق حيث هاجت الريح فتنيخ فأناخوا, وأصبحوا وذهبت الريح وتبينت الطريق، فهؤلاء هم أهل الجماعة. قالوا: نلزم ما فارقنا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نلقاه، ولا ندخل في شيء من الفتن حتى نلقاه. فصارت الجماعة والفئة التي تدعى فئة الإسلام ما كان عليه سعد بن أبي وقاص، وأصحابه الذين اعتزلوا الفتنة؛ حتى أذهب الله الفرقة وجمع الألفة, فدخلوا الجماعة ولزموا الطريق وانقادوا لها، فمن فعل ذلك ولزمه نجا، ومن لم يلزمه وشك فيه وقع في المهالك.
وقال هشام بن عروة: قال عبد الله بن الزبير: لقيني ناس ممن كان يطعن على عثمان، ممن يرى رأي الخوارج، فراجعوني في رأيهم وحاجّوني بالقرآن؛ فوالله ما قمت معهم ولا قعدت.
قال: فرجعت إلى الزبير منكسرًا فذكرت ذلك له، فقال: إن القرآن قد تأوَّله قوم على رأيهم وحملوه عليه، ولعمر الله إن القرآن لمعتدل مستقيم، وما التقصير إلَّا من قبلهم، ومن طعنوا عليه من الناس فإنهم لا يطعنون على أبي بكر وعمر، فخذهم بسنتهما وسيرتهما. قال عبد الله: كأنما أيقظني بذلك, فلقيتُهم فحاججتُهم بسنتي أبي بكر وعمر، فلما أخذتهم بذلك قهرتهم وضعف قولهم.
وأدى ظهور البدع والتعصب لها, ومحاولة كل فريق نشر ما يؤيده والطعن في الأحاديث التي تخالفه، وتجريح رواتها؛ أدى ذلك كله إلى نشاط المحدثين في كشف أحوالهم, والردّ على افتراءاتهم.
روى مسلم بسنده إلى يزيد الفقير أنه قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس، قال: فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم, جالس إلى سارية يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فإذا هو قد ذكر الجهنميين، قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله, ما هذا الذي تحدثون والله يقول: {ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ}آل عمران: 192] ويقول: {ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ}السجدة: 20], فما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال جابر: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فهل سمعت بمقام محمد # -يعني الذي يبعثه الله فيه؟ قلت: نعم. قال: فإنه مقام محمد المحمود, الذي يخرج الله به من يخرج -أي: من النار- ثم نعت وضع الصراط ومرّ الناس عليه، يقول: وأخاف ألَّا أكون أحفظ ذاك -أي بحروفه. قال: غير أنه قد زعم أن قومًا يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، فيخرجون كأنهم عيدان السماسم, فيدخلون نهرًا من أنهار الجنة، فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس. قال: فرجعنا فقلنا: ويحكم! أترون الشيخ يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فرجعنا، فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد.
وكان الخوارج يحكمون بكفر من لا يقول بقولهم، ويُجرون عليه ما ورد في القرآن عن الكفار من آيات الوعيد، وقد حاورهم علي وابن عباس بالدليل؛ فمنهم من تاب ورجع، ومنهم من أصر وقاتل وقتل، وعماد فكرهم على ترك الاحتجاج بالسنة وقصر الاستدلال على القرآن بحسب ما يفهمون، فقد قال ابن الكواء يخطب فيهم؛ حينما قدم عليهم ابن عباس: يا حملة القرآن, إن هذا عبد الله بن عباس, فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه, من كتاب الله ما يعرف به؛ هذا ممن نزل فيه وفي قومه: {ﯮ ﯯفردُّوه إلى علي ولا تواضعوه -أي: تناقشوه- كتاب الله، فقالوا: والله لنواضعنه كتاب الله، فإن جاء بحق فعرفه لنتبعنّه، وإن جاء بباطل لنُبكتنه بباطله. فواضعوا عبد الله الكتاب ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف كلهم تائب، فيهم ابن الكواء حتى أدخلهم علي على الكوفة.
والاستدلال بالقرآن الكريم لا يكون بكلمة أو جملة تنفصل عن غيرها، وتنطبق على غير من تطبق عليه، وذلك جارٍ من أكثر المبتدعة فضلًا عن المعاندين من غير المسلمين.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: والخوارج لا يتمسكون من السنة إلا بما فسر مجملها دون ما خالف ظاهر القرآن عندهم؛ فلا يرجمون الزاني، ولا يرون للسرقة نصابًا.
ونقل عنهم أيضًا أنهم ينكرون الرخص كالمسح على الخفين وغيره، وقد بدأ أمرهم في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم-, روى أحمد بسنده عن شريك بن شهاب أنه قال: ليت أني رأيت رجلًا من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- يحدثني عن الخوارج! قال: فلقيت أبا برزة في نفر من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-, فقلت: حدثني شيئًا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخوارج, قال: أحدثكم بشيء قد سمعته أذناي ورأته عيناي؛ أُتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدنانير فقسّمها، وثَم رجل مطموم الشعر آدم أو أسود، بين عينيه أثر السجود، عليه ثوبان أبيضان، فجعل يأتيه من قبل يمينه ويتعرض له، فلم يعطه شيئًا. قال: يا محمد, ما عدلت اليوم في القسمة! فغضب غضبًا شديدًا ثم قال: ((والله لا تجدون بعدي أحدًا أعدل عليكم مني)) ثلاث مرات. ثم قال: ((يخرج من قِبَل المشرق رجال كان هذا منهم، هديهم هكذا))، أي: المعاكسة والمشاكسة والحكم بالرأي دون الرجوع إلى الشرع، أو بالرأي المخالف للشرع ((يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم)) أي: لا يستفيدون منه ((يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيّة، لا يرجعون إليه، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم، فإذا رأيتموهم فاقتلوهم)) أي: إذا قاتلوكم ((شر الخلق والخليقة)) وكان هذا اللقاء مع الصحابة يوم عرفة.
وقال البخاري في صحيحه: باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم -أي: وإصرارهم على العناد والمقاتلة- وقول الله تعالى: {ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ}التوبة: 115] قال: وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله, وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار, فجعلوها على المؤمنين.
وروى البخاري بسنده إلى يسير بن عمرو أنه قال: قلت لسهل بن حنيف: هل سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في الخوارج شيئًا؟ قال: سمعته يقول -وأهوى بيده قبل العراق: ((يخرج منه قوم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية)).
وروى أحمد بسنده عن أبي الوداك أنه قال: قال لي أبو سعيد -أي: الخدري: هل يقرُّ الخوارج بالدجال؟ فقلت: لا، فقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إني خاتم ألف نبي وأكثر، ما بعث نبي يتبع إلَّا قد حذر أمته الدجال، وإنه قد بُين لي من أمره ما لم يبين لأحد)).
وروى بسنده عن سعيد بن جمهان أنه قال: كنا نقاتل الخوارج، وفينا عبد الله بن أبي أوفى، وقد لحق له غلام بالخوارج، وهم من ذلك الشط، ونحن من ذا الشط، فناديناه: أبا فيروز، أبا فيروز, ويحك! هذا مولاك عبد الله بن أبي أوفى. فقال: نِعم الرجل هو لو هاجر. فقال ابن أبي أوفى: ما يقول عدو الله؟! قلنا: يقول: نعم الرجل لو هاجر. قال: أهجرة بعد هجرتي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! ثم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((طوبى لمن قتلهم وقتلوه)).
وروى أيضًا عن سعيد بن جمهان أنه قال: لقيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر، فسلّمت عليه فقال لي: من أنت؟ فقلت: أنا سعيد بن جمهان. قال: فما فعل والدك؟ قلت: قتلته الأزارقة, فرقة من الخوارج. قال: لعن الله الأزارقة، لعن الله الأزارقة! حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم كلاب النار. قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: بل الخوارج كلها. قلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم. قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة ثم قال: ويحك يابن جمهان! عليك بالسواد الأعظم -أي: جماعة المسلمين- إن كان السلطان يسمع منك فأته في بيته؛ فأخبره بما تعلم، فإن قَبِل منك وإلَّا فدعه، فإنك لست بأعلم منه.
ولم يقتصر أمر الخوارج على إنكار الأحاديث التي لا توافق هواهم، وعلى الطعن في كرام الصحابة وجماعة المسلمين، وإنما امتد إلى الكذب والادعاء واستحلال ذلك؛ لتحقيق مآربهم والوصول إلى أهدافهم، حدث عبد الرحمن بن مهدي عن ابن لهيعة من قديم حديثه الصحيح، عن شيخ من الخوارج بعدما تاب أنه قال: إنا كنا إذا هوينا أمرًا؛ صيرناه حديثًا.
قال ابن حجر: هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل؛ إذ بدعة الخوارج كانت في صدر الإسلام والصحابة متوافرون، ثم في عصر التابعين فمن بعدهم، وهؤلاء كانوا إذا استحسنوا أمرًا جعلوه حديثًا وأشاعوه، فربما سمعه الرجل السني فحدث به، ولم يذكر من حدَّثه به تحسينًا للظن به، فيحمله عنه غيره، ويجيء الذي يحتج بالمقاطيع فيحتج به ويكون أصله ما ذكرت، وفاته منهج المحدثين من الصحابة والتابعين في متابعة الكذب، وفي اكتشاف علل الحديث، وفي حفظ السنة من كل دخيل.
ومما يدل على كذب الخوارج، ما ذكره ابن حبان في ثقاته حيث قال: في السنة الخامسة والثلاثين -أي: من الهجرة- خرج جماعة من أهل مصر إلى عثمان يشكُون ابن أبي سرح ويتكلمون عنه، فكتب إليه عثمان كتابًا وهدَّده فيه، فأبى ابن أبي السرح أن يقبل من عثمان، وضرب بعض من أتاه من قِبَل عثمان متظلِّمًا، وقتل رجلًا من المتظلمة.
فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل؛ فيهم أربعة من الرؤساء: عبد الرحمن بن عديس البلوي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وكنانة بن بشر بن عتاب الكندي، وسودان بن حمران المرادي؛ فساروا حتى قدموا المدينة، ونزلوا مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وشكوا إلى أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- في مواقيت الصلاة ما صنع بهم ابن أبي سرح، فقام طلحة بن عبيد الله إلى عثمان بن عفان وكلّمه الكلام الشديد، وأرسلت إليه عائشة: قدم عليك أصحاب محمد وسألوك عزل هذا الرجل، فأبيت ذلك، وهذا قد قتل منهم رجلًا فأنصفهم من عاملك! وكان عثمان يحب قومه.
ثم دخل عليه علي بن أبي طالب فقال: سألوك رجلًا مكان رجل، وقد ادعوا قبله دمًا فاعزله عنهم واقض بينهم، فإن وجب عليه حق فأنصفهم منه. فقال لهم عثمان: اختاروا رجلًا أولّيه عليكم مكانه. فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر، فقالوا لعثمان: استعمل علينا محمد بن أبي بكر، فكتب عهده وولاه مصر.
فخرج محمد بن أبي بكر واليًا على مصر بعهده، ومعه عدة من المهاجرين والأنصار، ينظرون فيما بين أهل مصر وبين ابن أبي سرح، فلما بلغوا مسيرة ثلاث ليال من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير له, يخبط البعير خبطًا كأنه رجل يَطلب أو يُطلب، فقالوا له: ما قصتك وما شأنك؟ كأنك هارب أو طالب! قال: أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر، قالوا: هذا عامله معنا، قال: ليس هذا أريد ومضى، فأخبر محمد بن أبي بكر بأمره، فبعث في طلبه أقوامًا فردّوه، فلما جاءوا به قال محمد: غلام من أنت؟ فأقبل مرة يقول: أنا غلام أمير المؤمنين، ومرة يقول: أنا غلام مروان. فعرفه رجل منهم أنه لعثمان، فقال له محمد بن أبي بكر: لمن أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر. قال: بماذا؟ قال: برسالة, قال: أمعك كتاب؟ قال: لا. ففتشوه فلم يجدوا معه كتابًا، وكان معه إداوة قد يبست وفيها شيء يتقلقل، فحركوه ليخرج فلم يخرج، فشقوا الإداوة، فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح، فجمع محمد بن أبي بكر من كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فك الكتاب بحضرتهم، فإذا فيه: إذا أتاك محمد بن أبي بكر وفلان وفلان فاحتل لقتلهم، وأبطل كتابه، وأقر على عملك، واحبس من يجيء إلي يتظلم منك, حتى يأتيك رأيي في ذلك إن شاء الله.
فلما قرءوا الكتاب فزعوا وأزمعوا ورجعوا إلى المدينة، وختم محمد بن أبي بكر الكتاب بخواتم جماعة من المهاجرين معه، ودفع الكتاب إلى رجل منهم، وانصرفوا إلى المدينة، فلما قدموها جمع محمد بن أبي بكر عليًّا وطلحة والزبير وسعدًا، وكان بها من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كان معهم، ثم فك الكتاب بحضرتهم عليه خواتم من معه من المهاجرين، وأخبرهم بقصة الغلام، فلم يبق أحد من المدينة إلا حنق على عثمان، وقام أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلحقوا بمنازلهم، ما منهم أحد إلا هو مغتمّ.
وعن هذا الكتاب وأمثاله وبيان حقيقته، يقول ابن حجر في (الإصابة): محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة وُلد بأرض الحبشة، وأمه سهلة بنت سهيل بن عمرو العامرية، واستشهد أبوه أبو حذيفة باليمامة، فضم عثمان محمدًا هذا إليه وربَّاه، فلما كبر واستخلف عثمان استأذنه في التوجه إلى مصر، فأذن له، فكان من أشد الناس تأليبًا عليه.
ذكر أبو عمر الكندي في أمراء مصر أن عبد الله بن سعد أمير مصر لعثمان، كان توجَّه لعثمان لما قام الناس عليه، فطلب أمراء الأمصار فتوجه إليه، وذلك في رجب سنة خمس وثلاثين، واستناب عقبة بن عامر، فوفد محمد بن أبي حذيفة على عقبة فأخرجه من مصر، ودعا إلى خلع عثمان, وأسعر البلاد، وحرض الناس على عثمان، وأخرج عن عبد الكريم بن الحارث الحضرمي أن ابن أبي حذيفة كان يكتب الكتب على ألسنة أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الطعن على عثمان، وكان يأخذ الرواحل فيحصرها، ثم يأخذ الرجال الذين يريد أن يبعث بذلك معهم، فيجعلهم على ظهور بيت في الحر فيستقبلون بوجوههم الشمس ليلوحهم تلويح المسافر، ثم يأمرهم أن يخرجوا إلى طريق المدينة، ثم يرسل رسلًا يخبرون بقدومهم فيأمر بتلقيهم، فإذا أتوا الناس قالوا لهم: ليس عندنا خبر، الخبر في الكتب، فيتلقاهم ابن أبي حذيفة ومعه الناس، فيقول لهم الرسل: عليكم بالمسجد، فيقرأ عليهم الكتب من أمهات المؤمنين: إنا نشكو إليكم يا أهل الإسلام كذا وكذا، من الطعن على عثمان، فيضجّ أهل المسجد بالبكاء والدعاء.
وهذا يبين أن الكتاب الذي كان مع الغلام كان مدبَّرًا ممن كانوا من أهل مصر بالمدينة، وأنهم خططوا بذلك للانفراد بعثمان -رضي الله عنه- والتمكن منه.
وعن يزيد بن أبي حبيب أنه قال: بايع أهل مصر محمد بن أبي حذيفة بالإمارة إلَّا عصابة، منهم: معاوية بن حديج وبسر بن أرطاة، فقدم عبد الله بن سعد -أي: من عند عثمان- حتى إذا بلغ القلزم وجد هناك خيلًا لابن أبي حذيفة، فمنعوه أن يدخل، فانصرف إلى عسقلان، ثم جهز ابن أبي حذيفة الذين ثاروا على عثمان وحاصروه, إلى أن كان من قتله ما كان.
فلما علم بذلك من امتنع من مبايعة ابن أبي حذيفة؛ اجتمعوا وتبايعوا على الطلب بدمه، فسار بهم معاوية بن حديج إلى الصعيد، فأرسل إليهم ابن أبي حذيفة جيشًا فالتقوا، فقتل قائد الجيش، ثم كان مسير معاوية بن أبي سفيان إلى مصر لما أراد المسير إلى صفين، فرأى ألا يترك إلا أن يكون لأهل معاوية ناس يكونون تحت يده رهنًا؛ ليأمن جانبهم إذا خرج إلى صفين، فأخرج محمد رهنًا عدتهم ثلاثون نفسًا فأحيط بهم وهو فيهم، فسجنوا.
وقال أبو أحمد الحاكم: خدع معاوية محمد بن أبي حذيفة حتى خرج إلى العريش في ثلاثين نفسًا، فحاصره ونصب عليه المنجنيق حتى نزل على صلح, فحبس ثم قتل، وقال: فرقهم معاوية بصفين، فسجن ابن أبي حذيفة ومن معه في سجن دمشق، وسجن ابن عديس والباقين في سجن بعلبك.
وقال عبد العزيز بن عبد الملك السليحي: قال: حدثني أبي أنه قال: كنت مع عقبة بن عامر قريبًا من المنبر، فخرج ابن أبي حذيفة فخطب الناس، ثم قرأ عليهم سورة وكان قارئًا، فقال عقبة: صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((ليقرأن القرآن ناس لا يجاوز تراقيهم)).
ومما يصور جانبًا من نشاط الخوارج وجهود المحدّثين في مواجهتهم, أن أبا خولان أتى ومعه صاحب له إلى وهب بن منبه، فأخبره صاحبه أن أبا خولان عرض له نفر من أهل حروراء، فقالوا له: زكاتك التي تؤديها إلى الأمراء لا تجزئ عنك؛ لأنهم لا يضعونها في مواضعها فأدِّها إلينا.
وقال لوهب: رأيت يا أبا عبد الله أن كلامك أشفى له من كلامي. فقال وهب: يا ذا خولان أتريد بعد الكبر أن تكون حروريًّا تشهد على من هو خير منك بالضلالة؟ فماذا أنت قائل لله غدًا حين يقفك الله ومن شهدت عليه؟ الله يشهد له بالإيمان، وأنت تشهد عليه بالكفر! والله يشهد له بالهدى وأنت تشهد عليه بالضلالة! فأين تقع إذا خالف رأيك أمر الله, وشهادتك شهادة الله؟! أخبرني يا ذا خولان ماذا يقولون لك؟ فقال لوهب: إنهم يأمرونني ألَّا أتصدق إلَّا على من يرى رأيهم، ولا أستغفر إلا له. فقال: صدقت, هذه محنتهم الكاذبة.
فأما قولهم في الصدقة, فإنه قد بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر أن امرأة من أهل اليمن دخلت النار في هرة ربطتها, أفإنسان ممن يعبد الله وحده ولا يشرك به أحب إلى الله أن يطعمه من جوع أو هرة, والله تعالى يقول: {ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ}الإنسان: 8]؟ وأما قولهم: لا يستغفر إلا لمن يرى رأيهم، أهم خير أم الملائكة والله تعالى يقول: {ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ}الشورى: 5]؟! فوالله ما فعلت الملائكة ذلك حتى أمروا به {ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ}الأنبياء: 27].
وجاء مفسرًا: ( ﯛ ﯜ ﯝ) [غافر: 7] يا ذا خولان إني قد أدركت صدر الإسلام، فوالله ما كان الخوارج جماعة قطّ إلا فرقها الله على شر حالتهم، وما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقه، ولو مكّن الله لهم من رأيهم لفسدت الأرض، وقطعت السبل والحج، ولعاد أمر الإسلام جاهلية، وإذًا لقام جماعة كل منهم يدعو إلى نفسه بالخلافة، مع كل واحد منهم أكثر من عشرة آلاف، يقاتل بعضهم بعضًا، ويشهد بعضهم على بعض بالكفر، حتى يصبح المؤمن خائفًا على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله، لا يدري مع من يكون، قال تعالى: {ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ}البقرة: 251] وقال: {ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ}غافر: 51] فلو كانوا مؤمنين لنصروا، وقال: {ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ}الصافات: 173] ألا يسعك يا ذا خولان من أهل القبلة ما وسع نوحًا من عبدة الأصنام؛ إذ قال له قومه: {ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ}الشعراء: 111-114]؟
فقال له ذو خولان: فما تأمرني؟ قال: انظر زكاتك فأدها إلى من ولَّاه الله أمر هذه الأمة وجمعهم عليه، فإن الملك من الله وحده وبيده، يؤتيه من يشاء، فإذا أديتها إلى والي الأمر برئت منها، وإن كان فضل فصِل به أرحامك ومواليك وجيرانك والضيف. فقال: أشهد أني نزلت عن رأي الحرورية.