بشار بن برد، ونماذج من شعره
نسبُه ونشأتُه:
شاعر مخضرم -أدرك العصرين الأموي والعباسي- فقد وُلد سنة خمس وتسعين للهجرة، في البصرة، وامتدَّ به الأجل حتى قُتل في خلافة المهدي سنة مائة وثمان وستين، عن ثلاث وسبعين سنة، وبعض الرواة يجعله خاتمة الشعراء القدماء وبداية المحدثين، كما يجعلونه آخر من يُحتجُّ بشعرهم من الشعراء.
وبشار مولى من الموالي الذين يرجع أصلهم إلى الفرس؛ فقد كان جدّه -واسمه يرجوخ- من سبي المهلب بن أبي صفرة، الذي كان واليًا للأمويين على خراسان، فيما بين سنتي تسع وسبعين وواحد وثمانين من الهجرة، ووُلد بُرد أبو بشار، وهو في هذا السبي؛ فكان من رقيق المهلب، ثم وهبه المهلب لزوجته خيرة القشيرية التي وهبته بدورها لامرأة من بني عقيل أحد فروع قيس، وعندها وُلد له بشار، وأشفقت السيدة العقيلية على بشار هذا الطفل الأعمى؛ لأنه وُلد أعمى فأعتقته وأعتقت أباه، فأصبح برد وبشار ولده من موالي بني عقيل، ولذلك كان بشار في بداية حياته يفتخر بولائه لبني عقيل ولقبيلة قيس -كما أسلفتُ.
ولد بشار أعمى فلم يَرَ النور في حياته، وقد صرَّح بذلك في بعض شعره إذ يقول:
عميتُ جنينًا والذكاء من العمى | * | فجئتُ عجيب الظن للعلم موئلًا |
وفاض ضياء العين للقلب رافدًا | * | لعقل إذا ما ضيع الناس حصلا |
ونشأ بشار في أُسرة فقيرة رقيقة الحال؛ إذ كان أبوه يضرب الطوب اللبن بالبصرة، وكان له أخوان أحدهما يُسمى: بِشرًا، والآخر: بَشيرًا، وكانا يعملان قصَّابين -أي: جزَّارين يبيعان اللحم- وكان لهذه النشأة أثرٌ كبير في شخصية بشار، وفي نفسيَّته وفي شعره، فقد عاش أسيرًا لعقدة نقصٍ لازمته طول حياته، ووجهته في هذه الحياة وجهةً منحرفةً متطرِّفةً في سلوكه وتصرفاته.
بشار في عيون النقاد:
شغل بشار النقاد، والمشتغلين بدراسة الأدب في القديم وفي الحديث، وترجم له عددٌ كبير منه، واستشهدوا بشعره الدَّال على موهبته الفذَّة، وثقافته الواسعة، ويذكر الرُّواة أن بشارًا بدأ يقول الشعر في سنٍّ مبكرة، وقد ظهرت موهبته الفنية، وأعلنت عن نفسها وهو ما يزال صغيرًا، فأخذ يصبُّ هجاءه على كلِّ من حوله من معارفه وجيرانه بالبصرة، فكانوا يأتون إلى أبيه يشكون إليه ولده وما يقوله فيهم من شعر، فحاول أبوه أن يكفَّه لكنه لم يستطع، وقال له بشار: قل لهم: أليس الله يقول: {لّيْسَ عَلَى الأعْمَىَ حَرَجٌ} [النور: 61]، فكانوا عندما يأتون يشكون بشارًا إلى والده يقول لهم: قال الله عز وجل: {لّيْسَ عَلَى الأعْمَىَ حَرَجٌ} [النور: 61] فينصرفون من عنده وهم يقولون: فِقْه بُرد أغيظ لنا من شعر بشار
واتَّجه بشار في وقت مبكر من حياته إلى البادية، وأقام بها سنوات، ثم عاد إلى البصرة بعد أن اكتسب السليقة العربية والفصاحة البدوية، وحصَّل ذخيرة كبيرة من الشعر واللغة، وكان يفتخر بفصاحته ويردُّها إلى نشأته البدوية، ويقول: من أين يأتيني الخطأ وقد نشأتُ في حجور ثمانين شيخًا من بني عُقيل، كلهم فُصحاء؟! فإذا عُدت إلى نسائهم فنساؤهم أفصح منهم.
ثم أخذ يتردَّد على مساجد البصرة، ويجلس في حلقات العلم، ويتعلَّم على شيوخ العلم فيها، وأخذ كذلك يتردَّد على سوق المِرْبَد، ويستمع إلى الشعراء والخطباء، وإلى مجادلات النُّقاد والخصومات الأدبية والمنافرات، وحصَّل من ذلك كله زادًا استعان به على ما أراد أن يتصرَّف فيه من فنون الشعر.
عقيدته:
واتَّصل بشار في فترة مبكرة من حياته أيضًا بالمعتزلة، واستمع إلى واصل بن عطاء، لكن اختلافًا فكريًّا بينه وبين المعتزلة أفسد العلاقة بينه وبينهم، وتحدَّث المؤرخون عن عقيدة بشار فوصفوها بالفساد، وذكروا أنه كان يَدِينُ بالرَّجعة التي يقول بها البوذيون، ويكفِّر جميع الأمة من سنة ومعتزلة وخوارج، ويفضّل النار على الطين، ويرى أنها معبودة منذ الأزل، ويقول: بوجود إلهين: إله للنور وإله للظلام.
وقد وضعه أبو العلاء في رسالة الغفران بين الزنادقة، ورسم له صورة في الجحيم، وقد ردَّ الله عليه بصرة وهو يحاول أن يغمض عينيه حتى لا يرى ما ينزل به من صنوف العذاب، ولكن الزبانية يتَّجهون إليه بكلاليب من نار.
وفي شعر بشار ما يدل على هذه العقيدة الفاسدة، من هذا الشعر مثلًا قوله:
إبليس أفضل من أبيكم آدم | * | فتنبَّهوا يا معشر الفجار |
النار عنصره وآدم طينة | * | والطين لا يسمو سموَّ النار |
فهو هنا يفضل إبليس على آدم، ويعلِّل هذا التفضيل بأن النار أفضل من الطين، وإبليس خلق من النار وآدم خلق من الطين، وهو بذلك يُعارض ما جاء في القرآن الكريم، وما يعتقده المسلمون بأن الله سبحانه وتعالى فضَّل آدم، ولعن إبليس، وبذلك أيضًا يكون بشار مرددًا لما قاله إبليس؛ إذ قال عندما تمرد ورفض السجود بأمر الله سبحانه وتعالى لآدم: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 76]، ومن شعره أيضًا الذي يُنبئ عن هذه العقيدة قوله:
الأرض مظلمة والنار مشرقة | * | والنار معبودة مُذْ كانت النار |
شعوبيته:
إلى جانب زندقة بشار وفساد عقيدته، كان شعوبيًّا حاقدًا على العرب، وعلى سلطانهم، ولم يستطعْ أن يُجاهر بهذه الشعوبية أيام الدولة الأموية، مجاهرة تامَّة، لكنه صرَّح أو أبان عن هذه الشعوبية، فممَّا يُروى له من شعر في العصر الأموي قوله:
أصبحتُ مولى ذي الجلال وبعضهم | * | مولى العريب فخذ بحظك وافخر |
مولاك أكرم من تميم كلها | * | أهل الفعال ومن قريش المشعر |
فارجع إلى مولاك غير مدافع | * | سبحان مولاك الأجل الأكبر |
فهو هنا يُعلن أن ولاءه لن يكون إلا لله، وأن ولاءه هذا يجعله أعلى من كل ذي ولاء، فولاؤه لله وليس لأحد من العرب، لكنه يتقدَّم في التصريح بهذه الشعوبية، وهذا الحقد على العرب في العصر العباسي بعد أن زال سلطان الأمويين، وكان الأمويون متعصبين للعرب، أما العباسيون فلأن دولتهم قامت على أكتاف الفرس فإن بشارًا الفارسي استطاع أن يقول في دولتهم:
أحين كسيت بعد العري خزًّا | * | ونادمت الكرام على الوقار |
تفاخر يابن راعية وراع | * | بني الأحرار حسبك من خسار |
وكنت إذا ظمئت إلى قراح | * | شركت الكلب في ولغ الإطار |
وإلى جانب ذلك كان بشار لاهيًا ماجنًا، وقد ظهر أثر ذلك أيضًا في شعره؛ فقد فتح باب وصف الخمر والهُيام بها على مصراعيه في الشعر العربي. وهو أيضًا إمام في مجال الغزل الماجن وشعره معبِّرٌ عن هذه الاتجاهات جميعًا.
شعره الناحية الفنية:
بشار شاعر مخضرم؛ ولذلك كان شعره الأموي تقليديًّا، يترسَّم فيه خُطى الشعراء الكبار في عصره، ويقتدي بالنماذج الفنية التي كانت تتردَّد في ذلك العصر.
وفي العصر العباسي ظهرت في شعره آثار الحضارة وآثار الرفاهية، وظهرت فيها كذلك آثار تغيُّر النظام السياسي وانتقاله من الأمويين إلى العباسيين، وأصبح لشعره في العصر العباسي تقاليدُ فنية تختلف عما كان عليه شعره في الفترة الأموية.
وكما يقول الدكتور يوسف خليف: تكمن براعة بشار وعبقريته في القدرة على استغلال العناصر القديمة، وصياغتها صياغة جديدة، وعرضها عرضًا جديدًا؛ ففي هذه المقدرة التي سجَّلها كل الباحثين له يكمن سرُّ عبقريته الفنية، فإليه يرجع الفضل في أن الشعر العربي في تطوره البعيد المدى في العصر العباسي لم يقطع حباله، ولم يبتَّ أسبابه بالشعر القديم. ومن خلال هذه الفكرة نستطيع أن نلاحظ أن تجديد بشار كان تجديدًا يعتمد إلى حدٍّ بعيد على استغلال العناصر الفنية الموجودة في التراث القديم.
والنقاد يُمثلون لشعر بشار البدوي بقصيدته التي قالها في مدح مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ومطلعها:
جفا ودُّه فَازْوَرَّ أَوْ مَلَّ صاحبه | * | وأزرى به ألا يزال يُعاتبه |
والنقاد يُثنون على بشار بجودة الشعر والقدرة على الابتكار والتجديد فيه، ومن الأبيات التي يحفظها الناس له:
إذا كنت في كلِّ الأمور معاتبًا | * | صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه |
فعشْ واحدًا أو صِلْ أخاك | * | فإنه مقارف ذنبا مرة ومجانبه |
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى | * | ظمئتَ وأي الناس تَصْفُو مشاربه |
كما استطاع النقاد أن يستخرجوا من شعر بشار آثارَ آفة العمى في تصويره الشعري، فإذا كانت وسيلة المحبِّين المبصرين هي العين، فإن وسيلة بشار وأمثاله ممن فقدوا البصر هي الأذن ولذلك يقول:
قالوا بمن لا ترى تُعنى فقلت لهم | * | الأذن كالعين تُوفي القلب ما كان |
وقال:
يا قومي أذني لبعض الحي عاشقة | * | والأذن تعشق قبل العين أحيانًا |
ومن هذا أيضًا قوله:
أمامة قد وُصفت لنا بحسن | * | وإنا لا نراكِ فألمسينا |
وقوله:
تقول وقد خلوت بها | * | تحدَّث واكفني يدك |
فواضح أنه يستعين بحواسِّه الأخرى غير البصر؛ ليستعيض بها عن فقد بصره، فيستعين بأذنه، ويستعين بحاسة اللمس؛ ليتعرف على جمال محبوبته.
وتكثر ملامح التجديد في الشعر الذي قاله بشار في العصر العباسي، فهو يجنحُ فيه إلى الأوزان القصيرة، والبحور المجزوءة، ويقدِّم كثيرًا من الصور الحضارية التي لم تكن تخطر ببال الشاعر العربي القديم.
وذلك في مثل قوله يمدح خالدًا البرمكي:
مفيدٌ ومتلافٌ سبيل تراثه | * | إذا ما غدا أو راح كالجزر والمدّ |
وكقوله:
وما كلمتني دارها إذ سألتها | * | وفي كبدي كالنفط شبَّت به النار |
وفي قوله:
يا ليتني كنت تفاحًا مفلجة | * | أو كنت من قضب الريحان ريحان |
وقوله:
وطفل الحبِّ أضناني | * | فويلٌ لي إذا شبَّ |
ومما يدل على تجديده وذكائه في استخدام معارفه ومعلوماته- استغلاله لما كان يُشاع في عصره من أن نبات الكمون لا يحتاج إلى الماء في زراعته؛ لأنه ينمو بالمواعيد، يأتيه صاحبه كل يوم فيقول له: غدًا أسقيك فينمو، يقول بشار بانيًا قوله على هذه المعلومة:
ليس المحبُّ ككمون بمزرعة | * | إن فاته الماء أغنته المواعيد |
واستغلَّ هذه الفكرة أيضًا في قوله:
يعقوب قد ورد العفاة عشية | * | متنظِّرين لسيبك المنتاب |
فسقيتهم وحسبتني كمُّونة | * | نبتَتْ لِزَارِعِهَا بغير شراب |
مه لا أبا لك إنني ريحانة | * | فاشْمُمْ بأنفك واسقها بذِنِابِ |
هكذا استطاع بشار أن يكون نموذجًا للشاعر الذي يُحافظ على تقاليد الشعر محافظةً كبيرة، وإن كان قد تجاوزها في بعض الأحيان، وأن يستفيد من مُعطيات عصره فيُجدِّد في شعره، في جهة المعاني والأفكار والصياغة والتعبير والتصوير. وهو بذلك يُعَدُّ إمام المحدَثين في الشعر العربي.