Top
Image Alt

بشر بن أبي خازم الأسدي وبائيَّته

  /  بشر بن أبي خازم الأسدي وبائيَّته

بشر بن أبي خازم الأسدي وبائيَّته

بشر بن أبي خازم الأسدي: هو بشر بن أبي خازم بن عمرو بن عوف، من قبيلة أسد، شاعر فارس فحل جاهلي قديم، شهد حرب أسد وطيئ، وشهد هو وابنه نوفل بن بشر الحلف بينهما.

وفي حياة بشر بن أبي خازم حادثة طريفة؛ فقد ذكروا أنه كان يهجو أوس بن حارثة بن لَأْم الطائي، وكان شريفًا في قومه، وذكر أمه في بعض هجائه، فأسرته بنو نبهان من طيئ، فركب أوس إليهم، فاستوهبه منهم، وقد نذر ليحرقنه إن قدَر عليه. ولَمَّا وقع بشر في يده، عزم على أن ينفذ نذره فيه، فحبسه، فلما علمت أمه “سُعدَى” بذلك، سألته عن نيته، وماذا يريد أن يفعل مع هذا الشاعر؛ فأخبرها، فقالت له: قبح الله رأيك، أكرم الرجل وخل عنه -أي: اتركه- فإنه لا يمحو ما قال غير لسانه، أي: لا يمحو هجاءه فيك غيرُ مدحه لك. فسمع أوس نصيحة أمه، وخلى سبيل بشر، فأقسم بشر أن يجعل مكان كل قصيدة هجا بها أوسًا قصيدةً يمدحه بها.

وظلت الحياة ببشر بن أبي خازم يغير مع قومه، ويحارب في صفوفهم، ويتغنَّى بأمجادهم ويسجل انتصارات بني أسد، حتى إذا كان في غارة على الأبناء من بني صعصعة بن معاوية، جالت الخيل ومر بشر بغلام من بني وائلة، فقال له بشر: استأسر، فقال له الوائلي: لتذهبنَّ أو لأرشقنَّك بسهم من كِنانتي، فأَبَى بشر إلا أسره، فرماه الفتى بسهم قاتلٍ، فاعتنق بشر فرسه، وأخذ الغلام فأوثقه، فلما كان في الليل أطلقه بشر من وثاقه، وخلى سبيله، وقال: أعلم قومَك أنك قتلت بشرًا.

وقبل أن يموت قال قصيدة رَثَى بها نفسه، وذكر فيها ابنة له تسمَّى عميرة، قال:

 أسائلة عميرة عن أبيها

*خلال الركب تعترف الركابا

ثم قال مخاطبًا ابنته:

فإن أباك قد لاقى غلامًا

*من الأبناء يلتهب التهابا

وإن الوائلي أصاب قلبي

*بسهم لم يكن نُكسًا لُغابا

فرجِّي الخير وانتظري إيابي

*إذا ما القارظ العنزي آبَا

 والقارظ العنزي: يُضرب المثل به في عدم العودة؛ فكأنه أراد أن يقول لها: إنه لن يعود، ثم قال في نهاية قصيدته التي رثى بها نفسه:

فمن يكُ سائلًا عن بيت بشر

*فإن له بجنب الرده بابًا

ثوى في ملحدٍ لا بد منه

*كفى بالموت نأيًا واغترابا

وهكذا مات بشر مقتولًا، وهكذا رثى نفسه.

أما قصيدته فمطلعها:

عفت من سليمى رامة فكثيبها

*وشطت بها عنك النوى وشعوبُها

وغيَّرها ما غيَّر الناسَ قبلها

*فبانت وحاجات الفؤاد تصيبها

أما مناسبة القصيدة وموضوعها: فقد قالها بشر يسجِّل بها ما كان في يوم النسار، وكان من أمر هذا اليوم: أنَّ بني ضبة حالفت بني أسد على بني تميم، وكان معهم في الحلف طيئ وعدي، وكانت ضبة أصابت من بني تميم نفرًا فهربت إلى بني أسد، فحالفوهم على أن يقاتلوا العرب ثلاث سنين معهم، فلما بلغ بني تميم حِلْفُ ضبةَ، بعثت إلى بني عامر بالنسار -والنسار: أجبل متجاورة- فحالفوهم، وقالت بنو أسد لضبة: بادروا بني عامر بالنسار قبل أن تصير إليهم بنو تميم، ففعلوا، فقتلوا منهم مقتلةً عظيمةً، فناشدتهم بنو عامر، وقالوا: هذه أموالنا نشاطركم، فرَضُوا بذلك وكفوا عنهم، وشاطروهم.

والقصيدة تبدأ -كما تبدأ أغلب القصائد في الشعر الجاهلي- بذكر الديار التي تركتها الحبيبة ورحلت:

عفت من سليمى رامة فكثيبها

*وشطَّت بها عنك النوى وشعوبها

عفت: أي: درست، ورامة: بلد، وشطت: بعدت، والنوى: نية السفر، والشعوب: جمع شعب، وهو القبيلة أو البلد الذي شُعِبَ إليه، أي: ذُهب.

وغيَّرها ما غيَّر الناسَ قبلها

*فبانت وحاجات الفؤاد تصيبها

أي: تريدها. وهو من قول الله عز وجل: {رُخَاء حَيْثُ أَصَاب} [ص: 36]، أي: حيث أراد. في (شرح المفضليات): قال الأصمعي: ومنه قولهم: أصاب الصواب فأخطأ الجواب: أي: أراد الصواب.

ثم يقول بشر:

ألم يأتها أن الدموع نطافة

*لعين يوافي في المنام حبيبها

تحدر ماء الغرب عن جرشية

*على جربة تعلو الدبار غروبها

بغرب ومربوع وعود تقيمه

*محالة خُطاف تصر ثقوبها

معالية لا هم إلا محجر

*وحرة ليل السهل من ولوبها

قوله: “ألم يأتها أن الدموع نطافة”: أي: ألم تعرف محبوبته أن دموعه تسيل حزنًا على فراقها؟! ثم شبه دموعه التي تنهمر بماء يتحدر من دلو عظيمة في مزرعة، فالغرب: معناها الدلو العظيمة، والجرشية: ناقة منسوبة إلى جرش، وهي أرض باليمن، وأهلها يستقون على الإبل، والجِربة: المزرعة، والدِّبار: جمع دبرة، وهي القطعة منها، والغروب: جمع غرب، بمعنى الدلو، والمربوع: حَبْل فتل على أربع قوى، والعود: البعير المسن، والمحالة: البكرة، والخطاف: الحديد الذي في جانبيها. وقوله: معالية: يريد أنها تقصد العالية -رجع إلى ذكر المرأة- ومحجَّر: موضع، واللوب: جمع لَوبة، وهي الحَرة، هذا قوله:

معالية لا هم إلا محجر

*وحرة ليل السهل منها ولوبها

ثم يقول:

رأتني كأفحوص القَطاة ذؤابتي

*وما مسها من منعم يستثيبها

يريد: أنه صلع حتى صار رأسه كأفحوص القطاة، يقول: لم يكن ذهاب شعري لأني أُسرت فجذت ناصيتي؛ لأنهم كانوا كذلك يفعلون: إذا أسر أحدهم رجلًا شريفًا، جذ رأسه، أو فارسًا جذ ناصيتَه. ثم يفتخر بشر بقومه وأيامهم، فيقول:

أجبنا بني سعد بن ضبة إذ دَعَوا

*ولله مولى دعوة لا يجيبها

وكنا إذا قلنا هوازنُ أقبلي

*إلى الرشد لم يأتِ السدادَ خطيبُها

عطفنا لهم عطف الضروس من المَلا

*بشهباء لا يمشي الضراء رقيبها

فلما رأونا بالنسار كأننا

*نَشاص الثريا هيجتها جنوبها

فكانوا كذات القِدر لم تدر إذ غلت

*أتنزلها مذمومة أم تذيبها

قوله: “ولله مولى دعوة لا يجيبها”، أي: صاحب دعوة لا يجيب إذا دعي، وهو هنا ذم، كما تقول: لله أنت أَلَا أجبت؟! والسداد: القصد والصواب في الأمر، “عطفنا لهم” أي: عطفنا لهم بمكروه وشر، والضروس، معناها: الحرب الشديدة، وهو تمثيل بالناقة السيئة الخلق، والمَلا: الصحراء، والشهباء: الكتيبة التي علتها ألوان الحديد، والضِّراء: ما واراك من الشجر، يقال: فلان يمشي الضراء: إذا مشي مستخفيًا فيه، الرقيب: الناظر. يقول: نحن خرجنا لهم للحرب لا نختل ولكننا نجاهد، النسار: موضع، نَشاص الثريا: ما ارتفع من السحاب بنوئها، شبه الكتيبة في كثرتها بهذا السحاب. وقوله:

فكانوا كذات القدر لم تدر إذ غلت

*أتنزلها مذمومة أم تذيبها

يشبه حيرة أعدائهم عندما واجهوهم بحيرة امرأة تطبخ السمن، فنزل عليها ضيف، فأصبحت في حيرة من أمرها؛ أتنزل القدر وتقدم للضيف قِراه، أم تتم إنضاجها؟ فهو يشبه حيرة الأعداء بحيرة هذه المرأة.

ثم يقول بشر مفصلًا ما فعلوه بأعدائهم:

قطعناهم فباليمامة فرقة

*وأخرى بأوطاس تهر كليبها

نقلناهم نقل الكلاب جراءها

*على كل معلوب يثور عكوبها

لحوناهم لحو العِصي فأصبحوا

*على آلة يشكو الهَوان حريبها

لدن غدوة حتى أتى الليل دونهم

*وأدرك جري المبقيات لُغوبها

جعلن قشيرًا غايةً يهتدى بها

*كما مد أشطان الدلاء قليبها

اليمامة وأوطاس: موضعان، وكليب: جمع كلب، أي: يهرون مثل هرير الكلاب، نقلناهم: خافوا حربنا فانتقلوا من بلدهم، والجراء: جمع جرو: وهو الكلب الصغير، والمعلوب: الطريق الموطوء المعبد، العُكوب: الغبار، وأنَّث الضمير لتأنيث الطريق، اللحو: قشر العُود، يريد أخذنا جميع ما لهم، الآلة: الحالة، الحريب: الذي سُلب مالُه.

وقوله:

لدن غدوة حتى أتى الليل دونهم

*…. …. …. ….

 معناه: قتلناهم من الصباح إلى الليل، والمبقيات: اللائي تبقي بعضَ جريها تدخره، واللغوب: الإعياء.

قوله:

جعلن قشيرًا غايةً يهتدى بها

*…. …. …. ….

الضمير في “جعلن” يعود إلى خيل بني أسد -قبيلة الشاعر- يقول: إن خيلهم جعلت همها بني قشير؛ إذ كانت الحرب من أجلهم وكانوا آخر الناس، الأشطان: الحبال الطويلة، القَليب: البئر، يقول: قصدنا إليهم لا نلتوي يمينًا ولا شمالًا كما مُد الحبل في البئر.

ثم يقول بشر:

إذا ما لحقنا منهم بكتيبة

*تُذُكِّر منها ذحلها وذنوبها

بني عامر إنا تركنا نساءكم

*من الشلِّ والإيجاف تدمى عجُوبُها

عضاريطنا مستبطنو البيض كالدُّمى

*مضرَّجة بالزعفران جيوبُها

تبيت النساء المرضعات برَهوة

*تفزَّع من خوف الجَنان قلوبها

دعوا منبت السيفَين إنهما لنا

*إذا مضر الحمراء شبت حروبُها

 قوله:

إذا ما لحقنا منهم بكتيبة

*تُذُكر منها ذحلها وذنوبها

المعنى: أنه إذا ذكرت الذحول -وهي الثارات- كان أشد للقتال.

في الأبيات التي جاءت بعد ذلك: الشل: الطرد، والإيجاف: السير الشديد، والعجوب: جمع عجب، وهو آخر العُصعص، يريد أنهن -أي: نساء الأعداء- حملن على غير وِطاء وأسرع بهن السير، فدميت عجوبُهن. العضاريط: التباع والأُجراء، والرهوة: ما ارتفع من الأرض وما انخفض. أي: إن نساء الأعداء فررن فاستترنَ فيما انخفض من الأرض، أو مَن أفلت منهنَّ عَلَا وارتفع إلى مكان عالٍ؛ لينظر مِن شدة الحذر والخوف، والجَنان، معناها: القلب، “السيفان” في قوله: “دعوا منبت السيفان إنهما لنا”، المراد بهما: ساحلَا البحر.

نلاحظ: أن هذه القصيدة من شعر الحماسة والفخر، وأكثر شعر بشر بن أبي خازم ينحو هذا المنحى. ومن الجدير بالملاحظة: أن الشعر يجيد التعبيرَ عن معاني هذا الغرض؛ فهو يصف شجاعة قومه وحسن بلائهم في الحرب، ويصف ما حدث لأعدائهم من هزائمَ وانكسار، وهو يسلك سبيلَ التصوير في تعبيره عن هذه المعاني.

انظر مثلًا إلى قوله:

قطعناهم فباليمامة فرقة

*وأخرى بأوطاس تهر كليبها

وإلى قوله:

نقلناهم نقل الكلاب جراءها

*…. …. …. ….

وإلى قوله:

لحوناهم لحوَ العِصي فأصبحوا

*على آلة …. …. …..

إلى آخره.

فكلها تسلك سبيل الاستعارة.

ولاحظ أيضًا التشبيه في قوله:

فكانوا كذات القدر لم تدر إذ غلت

*أتنزلها مذمومة أم تذيبها

ولاحظ أيضًا قوله:

عضاريطنا مستبطنو البيض كالدُّمى

*…. …. …. ….

وفيه استعارة.

…. …. …. ….

*مضرَّجة بالزعفران جيوبها

وهذه الصورة التي يرسمها قوله:

تبيت النساء المرضعات برهوة

*تفزَّعُ من خوف الجَنان قلوبها

وهي تريكَ نساءَ الأعداء في حالة الخوف والفزع والفرار.

error: النص محمي !!