Top
Image Alt

بعض الأحكام المتعلقة بالقصاص

  /  بعض الأحكام المتعلقة بالقصاص

بعض الأحكام المتعلقة بالقصاص

هل يجوز استيفاء القصاص بغير إذن السلطان، أو بغير إذن الحاكم، أو يشترط الإذن والحضور؟

ذهب الفقهاء إلى أنه لا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان وإذنه، ولا شك أن حضور السلطان ليس مقصودًا لذاته، وإنما ينوب عنه من يقوم بتنفيذ تلك العقوبة؛ وعليه فلا بد لصاحب القصاص من أن يتلقى إذنًا من الحاكم بتنفيذ القصاص، وأن يكون ذلك بحضرته -كما ذكرنا- أو بحضرة من ينوب منابة مِمن أنيط بهم تنفيذ تلك العقوبة.

وتوجيه هذا القول: أن استيفاء القصاص أمر يفتقد إلى المعرفة والخبرة، أي: يحتاج إلى المعرفة والخبرة؛ خشية وقوع الحيف أو الظلم، ومعلوم أن ولي القتيل عنده الرغبة في إشفاء غليلة، أما والحالة هذه فلا يؤمن أن يظلم أو يوقع جورًا على الجاني حين القصاص، إذا كان ذلك في غياب السلطان، أو بغير إذنه.

ولكن مع ذلك لو استوفى الولي حقه في القصاص من غير حضرة السلطان، كان له ما صنع إلا أنه يعزر؛ لافتياته على الحاكم بفعله ما منع من فعله، أي: أنه بهذا التصرف قد تجاوز الحدود، أما وأننا مأمورون بطاعة أولي الأمر {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فأولو الأمر، إما أن يكونوا من العلماء خاصة فيما يتعلق بأمور الدين، أو من الحكام والرؤساء فيما يتعلق بأمور الدنيا، هذا قول.

وفي المسألة قول آخر، وإن كان ضعيفًا إلَّا أنه يرى أن لولي القتيل الحق في استيفاء القصاص، ولو لم يحضره السلطان، أو يأذن به، خاصةً إذا كان القصاص في نفس، واستدل هؤلاء لما ذهبوا إليه، بما ورد: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل يقوده بنسعة -أي: مقيد بحبل- فقال: إن هذا قتل أخي فاعترف بقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اذهب فاقتله)).

وقالوا أيضًا: إن اشتراط حضور السلطان لا يثبت إلا بنص، أو إجماع، أو قياس،؟ ولم يتثبت ذلك.

هل من حضور للشهود أثناء تنفيذ تلك العقوبة؟

قالوا: نعم، يستحب عند تنفيذ القصاص أن يحضر شاهدان؛ كي لا يجحد الأولياء ذلك، ولا مانع أيضًا أن يشهد عملية التنفيذ فريق من قبل الحاكم، ويراعى الأمور التي جاءت بها الشريعة عند تنفيذ القصاص، من أمر المقتص منه بأداء ما عليه من صلاة، أو وصية، أو يطلب منه أن يتوب إلى الله عما قارفه من معصية، كما يسن أيضًا أن يساق إلى موضع التنفيذ برفق، وأن تستر عورته، وتشد عيناه، ويسن كذلك أن يكون السيف صارمًا، إلا إذا كان الجاني قد قتل بسيف كال -أي: غير قاطع، أو غير حاد- فحينئذ يقتل بمثله على سبيل المماثلة؛ إذ القتل بالسيف الكال يتضمن تعذيبًا زائدًا، وقد نهى عنه الشارع.

كذلك يتطلب الرفق عند القتل، مع النهى عن التعذيب عمومًا؛ لقول النبيصلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)).

ومن الحيف كذلك في الاستيفاء أن يكون السيف، أو الآلة المستعملة في القصاص مسمومة مثلًا، ومن واجب الحاكم أن يمنع الاستيفاء بمثل هذه الأداة المسمومة؛ لأنها تفسد البدن، وربما منعت غسله؛ لاحتمال الضرر الناجم عن معالجة الجسد المتسمم.

ومع أن القصاص حق وعقوبة مقررة في الشريعة الإسلامية، إلا أن الشريعة رحمة، والدِّين عدل وسماحة، وتيسير، فرغبت الشريعة في هذا المقام من العفو عن القصاص؛ فبالرغم من أن القصاص حق لصاحب الدم، إلا أن الشريعة الإسلامية رغبت في العفو، وبينت أنه أفضل من القصاص؛ لما في العفو من إحياء لنفس عسى أن تئوب إلى ربها بصالح الأعمال، وأن تجتهد ما استطاعت في صنع الخيرات والحسنات، وفي أفضلية العفو يقول الله سبحانه: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ} [الشورى: 40]، وقال عزّ مِن قائل: { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]، وقال: { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]، وقال تعالى: { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة: 32].

وفي السنة أيضًا ما يدل على ذلك؛ حيث ورد عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزًّا))، وفي رواية: ((إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه خطيئة)).

 فيستدل بهذه النصوص على أفضلية العفو، وأنه خير من القصاص، إلا أن يكون صاحب القصاص مظلومًا، فإن كان كذلك، ففيه قولان؛ أحدهما: أن إيقاع العقاب بالظالم مع ما يرافق دفع الظلامة عن المظلوم يعتبر أفضل. الثاني: العفو أفضل؛ فإن الأدلة على الترغيب فيه واردة بإطلاق، من غير فرق بين ظلم وآخر.

ولو عفا الولي عن الجاني، ثم قتله بعد العفو فماذا يكون الحكم؟

يعني لو أن الولي عفا عن الجاني، ثم بعد عفوه ذهب وقتل الجاني، لا شك أن الشريعة الإسلامية توجب القصاص في تلك الحالة في حق القاتل الثاني، ويستوي في ذلك ما إذا كان العفو مطلقًا، أو إلى مال؛ وذلك لقول الله تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94]، أي: اعتدى بالقتل على الجاني بعد العفو إلى الدية.

هذا فيما يتعلق بالعفو، وأفضلية العفو عن القصاص.

ولنا هنا سؤال، هل يرفع القصاص في الدنيا، العذاب عن القاتل في الآخرة؟ يعني: لو اقتص من الجاني، هل يعتبر هذا رفعًا للعذاب عنه في الآخرة؟

ثمة خلاف للعلماء في ذلك نوجزه في القولين التاليين:

أحدهما: أن الجاني إن عوقب قصاصًا في الدنيا، فإن ذلك يرفع عنه العذاب في الآخرة، ويؤيد هذا حديث: ((السيف محاء للذنوب))، أي: القصاص يمحي الذنب.

ثانيهما: إن الجاني سوف يلقى حظه من العذاب يوم القيامة، رغم أنه عوقب بالقصاص في الدنيا، ولا شك أن تعذيب الجاني في الآخرة، أو عدم تعذيبه مرهون بصدق التوبة منه؛ فإن هو تاب توبة صادقة مخلصة قبل أن يقتل قصاصًا، كان له في الله رجاء المغفرة والعفو، وإن لم يتب وظل على حاله من الإصرار، وعدم الاستغفار حتى قتل، فأنى له العفو والغفران؟.

هل يسقط القصاص؟

نعم، قد يسقط القصاص عن الجاني في عدة أحوال؛ منها: فوات محل القصاص، ويتحقق ذلك بأن يموت من عليه القصاص أو يقتل، وتفصيله -أي: تفصيل ذلك-: أن يموت من عليه القصاص مثلًا بآفة سماوية، كما لو انهدم عليه بيت، أو سقط في بئر أو حفرة؛ فإن ذلك يسقط معه القصاص؛ لأنه لا يتصور بقاء الشيء في غير محله، بمعنى أنه لا يعقل أن يبقى حق في القصاص ما دام محل القصاص -وهو الجاني نفسه- قد مات.

هل سقوط القصاص، يقتضي سقوط الدية؟

قالوا: يقتضي سقوط القصاص عدم وجود الدية للولي عند الحنفية طبعًا، أما وإننا قد ذكرنا: أن عقوبة القتل العمد عند الحنفية، تتعين في القصاص فقط، أما وقد سقط فلا مجال للدية عند فقهاء الحنفية.

ومن الأمور التي يسقط بها القصاص أيضًا: العفو: فالعفو مسقط للقصاص، وهو من الوجهة الدينية مستحب، كما بينا لقول الله تعالى: { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } [المائدة: 45].

ولا شك أن العفو له أركان، وله شروط، فمن أركان العفو، أن يقول العافي: عفوت، أو أسقطت، أو أبرأت، ونحو ذلك من العبارات التي تتضمن المقصود، ومن شرائط العفو، أن يكون العفو من صاحب الحق لا من غيره؛ إذ لا يصلح العفو من الأجنبي؛ لأنه لا يملك حقًّا، ولا يصح كذلك من الأب، والجد في قصاص واجب للصغير؛ لأن الحق هنا للصغير وليس لهما.

ويتعلق أيضا بالحديث عن العفو، بيان حكمه؛ إذ العفو إما أن يكون من الولي، أو من المجروح، كما إذا كانت الجناية فيما دون لنفس؛ فإن كان من الولي، وكان واحدًا فقد سقط القصاص سواء عفا عن الجناية، أو عن بعض الجناية؛ لأن هذا الحق مبني على الإسقاط، وهو لا يتبعض، أما إن تعدد الأولياء، فعفا البعض دون البعض سقط القصاص جميعه؛ لأن القصاص لا يتجزأ.

ومما يسقط به القصاص أيضًا: الشبهة؛ فمن المعلوم أن عقوبة القصاص كاملة، سواء كان ذلك في النفس أو فيما دونها من الأطراف، فهي بذلك تقتضي أن تكون الجناية المكافئة لها أيضًا كاملة؛ ليقع بذلك التكافؤ بين حجم الجناية المقترفة، وما يقابل الجناية من عقاب مفروض، ومن ثم فأيما نقصٍ يقع على الجناية، بات القصاص مندرئًا لمجرد هذا الانتقاص، وهذا ما يسمى في الاصطلاح الفقهي: شبهة؛ ذلك أن الشبهة تورث ضعفًا في حجم الجناية، ومن ثم بهذه الشبهة تهبط الجناية على المستوى المكافئ للعقاب الصارم الذي تقرره الشريعة في حق الجناة.

ونضرب مثالًا تطبيقيًّا على الشبهة التي تَدرأ القصاص، فيما لو جعل إزهاق النفس المعصومة بفعلين، أحدهما يوجد القصاص، والآخر ينفيه، أي: في حالة ما لو ارتكب جريمة القتل، من يستوجب القصاص في حقه ومن لا يستوجب؛ كأن يقتل شخص بفعل اثنين؛ الأول متعمد، والثاني مخطئ، أو كان فعله شبه عمد، ومن شأن هذا النوع من الإزهاق ألا يقع به القصاص؛ لما فيه من شبهة؛ ولأن المعتمد في مثل هذه المسائل أن يغلب جانب الإسقاط.

error: النص محمي !!