بعض المسائل التي خالف فيها المعتزلة الأحاديث الصّحيحة ومذهبهم في رؤية الله في الآخرة
أ. بعض المسائل التي خالف فيها المعتزلة الأحاديث الصّحيحة:
مِمّن سلك هذا المسلكَ: طوائف وأفراد، قديمًا وحديثًا؛ ولعلّ أشهرَ مَن جَنح لذلك هم:
المعتزلة، حيث أنكروا صفات الله تعالى الأزليّة، سواء منها ما كان مِن صفات الذّات أو مِن صِفات الأفعال -كما أنكروا الشّفاعةَ لأهل الكبائر يوم القيامة، وزعموا أنّ الأحاديث الواردة فيها مُضطربة، وأنّها معارَضة بأحاديث أخرى أثبت منها! وكذلك الحال بالنسبة لعذاب القَبر؛ فقد ذهبوا إلى أنّ الأخبار التي تدلّ على ذلك مُجمَلة؛ ولذا فقد انقسموا حوله إلى ثلاث فِرَق:
فمنهم مَن أنكره، ومنهم مَن جوّزه، ومنهم مَن أثبته في الجملة.
كما أنكروا رؤية الله تعالى في الآخرة، وردّوا أو تأوّلوا جميع النصوص الواردة في ذلك، سواء ما جاء منها في الكتاب أو في السّنّة، كلّ ذلك بِشُبَهٍ عقليّة، وآراء فاسدة، لا تَصْمد أمام البحث والمناقشة.
وقد تابعهم جماعة مِن المتأخِّرين، فأنكروا أحاديث مِن هذا القبيل، مثل أحاديث نزول عيسى عليه السلام في آخِر الزمان، وأحاديث الدَّجّال، وأحاديث المهدي، وغير ذلك.
ونستعرض بعض الشُّبَه التي استند إليها المعتزلة في مسألتيْن مِن تلك المسائل، ثمّ نستعرض بعد ذلك الرّدّ عليهم بالتفصيل، مستفيدين ذلك مِن كتب العلماء وكلامهم:
المسألة الأولى: رؤية الله تعالى في الآخرة.
المسألة الثانية: نزول عيسى عليه السلام في آخِر الزمان.
ب. مذهب المعتزلة في مسألة رؤية الله في الآخرة:
لقد أجمعت المعتزلة على القول بنفْي رؤية الله تعالى بالأبصار يوم القيامة، وقد نصّ المعتزلة أنفسُهم على هذا بالإجماع، كما أشارت كثير مِن كُتب الفِرَق إليه.
وزعموا أنّ القول بإثباتها قولٌ حادث ومُبتدّع بعْد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته.
ولقد خيّم طاغوت التّجسيم على أذهان المعتزلة، فرأوْا في إثبات الرؤية حصولَه، فنفَوْها كما نفَوْا إثبات الصِّفات بمثل ذلك.
يقول عبد الجبّار، قاضي المعتزلة:
“لا أحَد يدّعي أنه يرى الله سبحانه، إلاّ مَن اعتقده جسمًا بصورة مخصوصة، أو يعتقد فيه أنه يَحُلّ في الأجسام”.
وتطاول بعضهم، فكفّر مَن قال برؤية الله؛ لأنه مُشبِّه للهِ بخلْقه، والمُشبِّه كافر. وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بأدلة عقليّة وأدلّة نقليّة. ومِن جُملة الأدلة النقلية: آيات وأحاديث زعموا أنها تَنفي الرؤية. كما أنّهم ردّوا الأحاديث الصحيحة الصريحة المتواتِرة التي تُثبت الرؤية.
مناقشة شُبُهاتِهم التي ردّوا بها هذه الأحاديث:
قال القاضي عبد الجبار: “وممّا يتعلقون به -يعني بذلك: أهل السّنّة والجماعة-: أخبارٌ مرويّة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرها يتضمّن الجبْر والتشبيه؛ فيجب القطْع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يَقُلْه، وإن قال فإنه قاله حكاية عن قوم، والراوي حذَف الحكاية، ونقَل الخبر”!! انتهى كلامه.
ثم ذكَر: أنّ أعظم ما يتمسّك به مَن يُثبت الرؤية: حديث: ((إنّكم سَتَرَوْن ربَّكم يوم القيامة، كما تروْن القمر ليلة البدر)). ثم حاول الجواب عنه بعدّة أجوبة:
أحدها: إنه يتضمّن الجبْر والتّشبيه؛ لأن القمَر لا يُرى إلا مُدوَّرًا عاليًا مُنوّرًا، ولا يجوز أن يُرى الله على هذا الحدّ. فلا بدّ مِن القطْع على أنّ هذا الخبَر كذِب عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لم يقلْه، وإن قاله إنما هو حكاية عن قوم.
الثاني: إنه يُروى عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم طعن في قيس مِن وجهيْن:
الوجه الأول: أنّه كان يرى رأي الخوارج؛ ودليله على ذلك: أنه قال -أي قيس-: “منذ سمعت عليًّا على منبر الكوفة يقول: انفِروا إلى بقية الأحزاب -يعني: أهل النهروان- دخل بغضُه قلبي”. فقال عبد الجبار: “ومَن دخل بغضُ أمير المؤمنين قلبه، فأقلّ أحواله أنْ لا يُعتمد على قوله، ولا يُحتجُّ بخبَرِه”.
الوجه الثاني: قيل: إنه خولط في عقْله آخِر عُمره، والكتبة يكتبون عنه كعادتهم في حال عدَم التميِيز، ولا ندري أنّ هذا الخبر رواه وهو صحيح العقل أو مختلط.
الوجه الثالث: لو صحّ وسلم، فهو خبر آحاد، وخبر الواحد لا يقتضي العلْم، ومسألة الرؤية طريقها القطع والثبات.
الوجه الرابع: إنه معارَض بأخبار رُويت، منها: ما رواه أبو قلابة، عن أبي ذر: أنه قال: ((قلت للنبي: هل رأيت ربك؟ فقال: نورٌ هو، أنَّى أراه؟)). أي: أنور هو؟! كيف أراه؟!.
وعن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: “لَن يرى اللهَ أحَدٌ في الدنيا، ولا في الآخرة”.
الوجه الخامس: إن المراد بالرؤية في الحديث: العلْم، وليست الرؤية البصرية.
قال عبد الجبار: “ثم نتناوله نحن على وجْهٍ يوافق دلالة العقل، فنقول: المراد به: سترَوْن ربّكم يوم القيامة، أي: ستعلمون ربّكم يوم القيامة، كما تعلمون القمر ليلة البدر؛ وعلى هذا قال: ((لا تُضامون في رؤيته))، أي: لا تشكُّون في رؤيته، فعقّبه بالشك، ولو كان بمعنى رؤية البصر لمْ يَجُز ذلك. والرؤية بمعنى: العلْم، ممّا نطق به القرآن، وورد به الشِّعر”.
قال الزمخشريّ: “((ستروْن ربّكم كما ترَوْن القمر ليلة البدر)) بمعنى: ستعرفونه معرفة جليّة هي في الجلاء، كإبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى”. فحمّل الرؤية على: المعرفة، بينما حمَلها عبد الجبار على: العلْم.