Top
Image Alt

بعض النماذج التي تبنت الفكر الاستشراقي

  /  بعض النماذج التي تبنت الفكر الاستشراقي

بعض النماذج التي تبنت الفكر الاستشراقي

ولعلَّ من المفيد: أن نقف هنا بعض الوقفات مع بعض النماذج التي تبنَّت الفكر الاستشراقي، وأخذتْ تُبشِّر به في بلاد المسلمين نيابة عن الغزو الفكري والاستعمار الثقافي تحت حراسة الاستعمار العسكري.

فعلى سبيل المثال: وجدْنا في مصر في مطلع القرن العشرين كاتبًا مثل سلامة موسى -وهو نصراني الأصل والديانة- انتهز هذه الفرصة وكتب كتابًا أسماه (ما هي النهضة؟). بشَّر في هذا الكتاب بأنّ مصر لا يمكن أن تنهض إلا إذا قلّدت أوربا -حذو القُذَّة بالقُذَّة- وكان من أهمّ ما نادى به في هذا التقليد: أن نتخلّص من الدين الإسلامي، كما تخلّصت أوربا من المسيحية.

كان ينادي في هذا الكتاب: أن نجعل الدنيا غايتنا، وأن نعتقد ونؤمن أنه ليس وراء هذا العالَم المحسوس وليس وراء هذه الدنيا شيء ينبغي أن نعمل مِن أجْله، أو نسعى لتحصيله، أو إرضائه، وأننا نحن البشر يجب أن تكون لنا آداب وفلسفات وعلوم لا تمتُّ بأيّة صلة إلى ما يسمَّى في الأديان بالغيبيّات؛ وضعْ تحت كلمة “الغيبيّات” ما يأتي: الله، الوحي، النبوّة، اليوم الآخِر وما فيه … إلخ.

كأنّ هذه العبارة تتضمّن في مضمونها -كما يريد سلامة موسى: أن نرفض الإيمان بالله، أن نرفض الإيمان بالأنبياء، أن نرفض الإيمان بالوحي، أن نرفض الإيمان باليوم الآخِر وما فيه. وأن علينا: أن نعتمد على أنفسنا فقط في تحقيق السعادة على هذه الأرض؛ لأنها تمثِّل حياتنا أولًا وأخيرًا، وليس وراء هذه الحياة ما يُمكن أن يُسمَّى باليوم الآخِر حتى نعمل من أجْله، وأنّ النهضة الأوربية لم تنشأ في أوربا ولم تخرج أوربا من ظلمات القرون الوسطى إلا لأنها تخلّصت من الغيبيّات.

بل أكثر من هذا: يصرِّح سلامة موسى بضرورة التخلّص من العقائد الدينية كلِّيّة، وأن نعتمد على العقل أولًا وأخيرًا؛ حيث يقول: “إذ ليس في الكون كلّه ما يُعتمد عليه سوى العقل، وليس لإنسان خلاف في هذا العالم، وليس وراء هذا العالم عالَم آخَر يُمكن أن نسعى إليه، أو نطمع في تحقيق السعادة فيه، وأنّ الانحطاط لم يكن ليَحيق بالمسلمين إلا لتمسّكهم بما يسمَّى: الغيبيات: اليوم الآخِر وما فيه”.

ولا يأْلُو سلامة موسى جهدًا في تكرار هذا القول بوجوب محاكاة الحضارة الأوربية، فنحيا كما يحيَوْن؛ لأنه لا يمكن لأيّة أمّة أن تحيا إذا خالفت أوربا في عاداتها وتقاليدها وثقافتها. بل أكثر من هذا يقول: “ولا أستطيع أن أتصوّر نهضة عصرية لأمّة شرقية ما لم تَقُم على المبادئ الأوربية التي في مطلعها: ضرورة التخلّص من الغيبيّات”.

هذا كان أحَدُ أوجُهِ التّأثّر بالفكر الاستشراقي الذي ظهر في مصر على يد سلامة موسى. وفكرة التخلص من الدِّين لم تكن مشكلة أو قضية سلامة موسى وحْده، وإنما نادى بها في لبنان، وفي سوريا، وفي العراق، وفي بلاد المغرب، كلُّ الذين تتلمذوا على الفكر الاستشراقي، خاصة الإلحادي منه، الذين رأوا ضرورة التخلص من الدِّين، والذين أعلنوا ثورتهم على الكنيسة، كما سوف نتعرّض لذلك في العلمانية فيما يأتي إن شاء الله.

قضية التّخلّص من الدِّين إذا أردنا أن ننهض، ربما نطرح هنا سؤالًا: هل تخلّصت أوربا من الدِّين لكي تنهضَ؟ أم أن أوربا نهضت؛ لأنها أخذت بأسباب النهضة؟ سوف أرجئ الإجابة على هذا السؤال حتى أستكمل مع حضراتكم بعض الآثار السيئة التي تفشّتْ في بلاد الشرق العربي كأثر من آثار استعمار الشرق استعمارًا ثقافيًّا، وكأثر من آثار الغزو الفكري في بلاد الشرق.

ممّا ينبغي أن نتعرَّض له أيضًا: ما أثاره المستشرقون حول قضية المرأة، وأنّ الإسلام يَظلم المرأة، ويهضمُها حقوقها، وأن الإسلام دين ذكوريٌّ، ولا مكان في تعاليم الإسلام لتكريم المرأة، ولا لكي تُسهم أو تنهض أو تشارك في نهضة الأمة. فكتب قاسم أمين كتابًا عن (تحرير المرأة) وكتابًا آخَر عن (المرأة الجديدة)، ونادى في هذيْن الكتابيْن بوجوب أن تحذو المرأة المسلمة حذو المرأة في أوربا، وخاصة في فرنسا شبرًا بشبْر، وأن ترفع صوتها رافضة قضيّة تعدّد الزوجات، وترفع رفضها لقضية الطلاق والعصمة، وخروجها للعمل، والدعوة للسفور … قضايا كثيرة طرَحها قاسم أمين في الكتاب الثاني بالذات الذي هو (المرأة الجديدة).

وربما كان الكتاب الأوّل لا نجد فيه مشكلات كثيرة كتلك التي أثارها في: (المرأة الجديدة). وبمجرّد أن ردّد قاسم أمين ما ذكَره المستشرقون في كتبهم حول قضايا المرأة، وجدْنا من الكتّاب والمشتغلين بالإعلام -بالذات- يتبنّوْن هذه القضية -قضية المرأة- ويجعلون منها مشكلة ينبغي أن تُحَلّ. وفي واقع الأمر ليس في الفكر الإسلامي، وليس في الكتاب والسُّنة ما يتعلق بأن المرأة مُهانة، أو أن المرأة ليست لها حقوق؛ بل إن القرآن الكريم يجعل من المرأة -لا أقول نصف المجتمع، أو كما وفدت إلينا العبارة من أوربا- وإنَّما المرأة في الإسلام هي كلّ المجتمع. هي أمُّه، هي الزوجة، هي البنت، هي الأخت. قضية المرأة في المجتمع -إذا فُهمت على أصلها، وفي ثوبها الحقيقي- لا نجد لها نظيرًا في أية فلسفة، ولا في أي فكر إنساني، ولا في أية حضارة؛ لأن الإسلام يجعل من المرأة -كما قلت- هي المجتمع كلّه، وليست نصف المجتمع كما يتردّد على ألْسنة البعض.

تولّى تكرار وترديد هذه القضية أناس لا يعلمون أبجديات ما تحدّث به الإسلام عن المرأة، ولا يعلمون ما تحدّث به الرسول صلى الله عليه  وسلم عن المرأة، ولا كيف كرّم الإسلام المرأة؛ وإنما فقط كانوا كالببّغاوات كرّروا، وردّدوا كلام المستشرقين عن المرأة في أوربا، وألبسوا المرأة الإسلامية ثوب المرأة الأوربية، وأرادوا أن ينقلوا المشكلة من أوربا إلى بلاد المسلمين، ويطرحوا لها الحلول التي وُجدت في أوربا، وليست حلولًا إسلامية. ولم تعدم الساحة الثقافية من وجود نماذج أنثوية أيضًا تردّد كلام المستشرقين دون وعي بما في الإسلام، ودون معرفة -أدنى معرفة- لِمَا عليه القرآن الكريم من رفع مكانة المرأة، ومن حفْظ حقوق المرأة وجعْلها -كما قلت- هي المجتمع كلّه وليس نصف المجتمع.

هذان نموذجان كان لهما أكبر الأثر في شيوع الفكر الاستشراقي في مطلع القرن العشرين، حول قضية التّخلّص من الدِّين، التي نادى بها سلامة موسى، وإثارة بعض المشكلات بين طرفَي المجتمع: الرجل والمرأة على يد قاسم أمين.

وبمجرّد ظهور هذيْن الكتابيْن: (ما هي النهضة؟) لسلامة موسى، و(المرأة الجديدة) لقاسم أمين، بدأ الإعلام يتلقّف هذه الأفكار، ويجعل من هذه القضية مادة إعلامية يخاطب بها الجمهور، ويدغدغ بها عواطف المرأة. فوجدنا مسرحيّات كثيرة جدًّا تظهر وتحمل في طيّاتها وفي أفكارها فكرة أن الإسلام ينتقص المرأة، وأن الإسلام يجعل من المرأة كائنًا هامشيًّا لا منفعة فيه إلا الجسد.

ووجدْنا في هذه الفترة بالذات توضَع بعضُ الكتب وبعض المؤلَّفات التي حمَلت الطابع الفكري للاستشراق، وكان من أهمِّها أيضًا: كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) لطه حسين. وقد تحدثت إليكم عن كتاب (الشعر الجاهلي) لطه حسين الذي ادّعى فيه القول ببشريّة القرآن.

 أمّا في هذه القضية بالذات: قضية تأثير الفكر الاستشراقي حول قضايا الثقافة، وقضايا اللغة، والمرأة، والدِّين أيضًا، فقد بثّه طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر)؛ فنادى في هذا الكتاب بأن نحذو حذو أوربا، فنأكل كما يأكلون، وننام كما ينامون. وأكثر من هذا: نادى بضرورة مُجاراتهم في العادات والتقاليد والسلوكيات التي عليها أوربا.

error: النص محمي !!