بعض مواطن الجمال في القصيدة
الألفاظ والأساليب:
نلاحظ عليها أنها في عمومها ألفاظ ليست غريبة، وإذا شعرنا بشيء من الغرابة في الألفاظ يكون ذلك في وصفه لناقته؛ أما في غزله وفي وفخره بنفسه فالألفاظ أميل إلى الوضوح منها إلى الغرابة.
الجمل والأساليب:
تسير على نهج صحيح فصيح؛ لا التواء ولا تعقيد، ولا نجد كثيرًا من التقديم والتأخير الذي يمكن أن يصيب المعنى بشيء من الغموض.
العاطفة في القصيدة:
عاطفةٌ قويةٌ وصادقةٌ، وعنترة يفتخر بنفسه فخر الفارس المقدام الجريء الذي يريد أن يثبت لقومه أنه جدير بمكانة الأحرار الأكفاء. ووصفه لشجاعته وصفٌ صادقٌ يستدل على صدقه بمشاهد النزال ومشاهد القتال يحكيها لعبلة، ويريد من عبلة أن تسأل الفرسان الذين شهدوا هذه الوقائع ليخبروها بمكانته في القتال وشجاعته.
الخيال والتصوير:
فإننا نقف عند قوله:
إذ تستبيك بذي غروب واضح | * | عذب مقبله لذيذ المطعم |
وهذا كناية عن فم محبوبته.
ونقف كذلك عند قوله:
وكأن فارة تاجرٍ بقسيمة | * | سبقت عوارضها عليك من الفم |
أو روضة أنفًا تضمن نبتها | * | غيث قليل الدمن ليس بمُعلمِ |
جادت عليه كل بكرٍ حرة | * | فتركن كل قرارة كالدرهم |
سحًّا وتسكابًا فكل عشية | * | يجري عليها الماء لم يتصرم |
ففي هذه الأبيات تشبيه: أداة التشبيه “كأن”، و”فارة تاجر” هي المشبه به، يعني: كأن رائحة طيبة رائحة مسك هبت عليك من فمها؛ فالمشبه: أنفاس المحبوبة، والمشبه به: فارة المسك أو رائحة المسك.
وفي قوله: “أو روضة”: روضة معطوفة على “فارة”؛ فهي أيضًا مشبه به، لكنه فصَّل في وصف هذه الروضة فوصفها بأنها روضة مصونة، وأن السحابة البكر تسقيها وتغسل شجرها وزهرها، ثم أردف هذا الوصف لهذه الروضة بقوله:
وخلا الذباب بها فليس ببارح | * | غردًا كفعل الشارب المترنم |
هزجًا يحك ذراعه بذراعه | * | قدح المكب على الزناد الأجذم |
فأضاف إلى هذه الروضة بهاء وجمالًا بهذا القول.
وتشبيهه للذباب الذي يحك ذراعه بذراعه بالأجذم الذي يقدح الزناد تشبيه بكر يعد من إبداع عنترة، ويذكرون أنه لم يسبق إليه ولم يلحق فيه.
ومن الصور التي تستوقفنا في هذه القصيدة أيضًا: صور الفرسان الذين يخبر عنترة أنه قتلهم، وصورة قتله إياهم؛ إذ يصور لنا تصويرًا واضحًا حركة إقدامه عليهم بطعنهم، ثم بالإجهاز عليهم وتركهم طعامًا للسباع وللنسور؛ كما في هذه الصورة:
ومدجج كره الكماة نزاله | * | لا ممعن هربًا ولا مستسلم |
جادت له كفي بعاجل طعنة | * | بمثقف صدق الكعوب مقوم |
فشككت بالرمح الأصم ثيابه | * | ليس الكريم على القنا بمحرم |
فتركته جزر السباع يَنُشْنَهُ | * | يقضمن حسن بنانه والمعصم |
ومن الصور التشبيهية التي نقف عندها أيضًا: ما جاء في قوله:
بطل كأن ثيابه في سرحة | * | يحذى نعال السبت ليس بتوأم |
وقوله: “يحذى نعال السبت” كناية عن ترفهه وعظم مكانته، وقوله: ليس بتوأم، كناية عن اكتمال قوته بسبب تمام غذائه عند إرضاعه؛ إذ كان غير توأم.
ومن الصور الجديرة بالتأمل كذلك: صورة فرس عنترة الذي يتعاطف معه الشاعر ويشخصه لنا في صورة الشاكي، ما ألمّ به من الجراح، وما نزل به من الطعن:
ما زلت أرميهم بثغرة نحره | * | ولبانه حتى تسربل بالدم |
فازورَّ من وقع القنا بلَبانه | * | وشكا إليّ بعبرة وتحمحم |
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى | * | ولكان لو علم الكلام مكلم |
هكذا استطاع عنترة أن يفهم عن فرسه شكواه، وأن يحسّ بتألمه، وهكذا تعاطف معه تعاطفًا شديدًا؛ ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يريحه أو أن يعفيه من الحرب.
هذه هي معلقة عنترة التي قالها ليثبت لمن عيّره بأنه لا يقول الشعر أنه قادر عليه. ولقد صوّرت هذه المعلقة تصويرًا صادقًا نفسَ صاحبها وصفاته النبيلة؛ كما صورت كفاحه الطويل المرير لمحو عار العبودية، وانتزاع حريته، والاعتراف بمكانته عن طريق فروسيته وشجاعته وإقدامه.
كذلك تصور هذه المعلقة عنترة عاشقًا نبيلًا كما تصوره فارسًا مقدامًا؛ لقد كان حبه عبلة قصة من أعظم قصص الحب في التاريخ، لقد أحبها حبًّا شديدًا، وذكرها في كل موقف، ولقد كان حريصًا على أن يقدِّم نفسه لها في شعره في صورة فارس نبيل عاشق صادق، ويطلب منها أن تسأل الفرسان عنه؛ ليخبروها عن مكانته ويصفوا لها شجاعته؛ حتى ترضى عنه، وحتى يثبت لها أنه جدير بحبها، كفء للزواج منها.
ولقد كان عنترة حريصًا عندما يذكر جمال محبوبته على أن يذكرها بأسلوب عفيف، لا يتطرق إلى شيء من الغزل المكشوف الذي كان يتطرق إليه بعض شعراء الجاهلية.
ولقد حفظ التاريخ صورة هذا الفارس النبيل وهذا المحب العاشق، وحفظ قصة حبِّه وكفاحه من أجل إثباته ذاته واسترداد حريته أو انتزاعها.
ولقد صارت قصة عنترة من القصص الشعبي الذي يتسامر به الناس ليستخرجوا منه ما يفيد في تهذيب النفوس وتربية الوجدان.