Top
Image Alt

بعض مواطن الجمال في القصيدة

  /  بعض مواطن الجمال في القصيدة

بعض مواطن الجمال في القصيدة

قوله:

وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ

*…. …. …. ….


أسلوب قصر يقول لهم: ليست الحرب شيئًا إلا ما ذقتموه فيها، وما علمتموه منها، من القتل ومن الجراح، ومن السبي، ومن الخراب، وما هو عنها بالحديث المرجم، ليس كلام يعني الحرب رجمًا بالغيب وليس تخمينًا، وإنما أنا أدلكم على ما تعرفونه منها، وما جربتموه من شرِّها.

مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً

*وَتَضرَى إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ


ذميمة: أي مذمومة، وتضرى: أي تلتهب نارها وتشتعل، إِذا ضَرَّيتُموها: إذا أشعلتموها.

وقوله:

مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً

*…. …. …. ….


إلقاء بالتبعة عليهم فهم الذين يتحملون النتائج؛ لأن الفعل منهم ثم يقول:

فَتَعرُككمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها

*وَتَلقَح كِشافًا ثُمَّ تنتج فَتُتئِمِ


يشير ويفصّل أفعال هذه الحرب ونتائجها، التي ستأتي عليهم إذا هم أشعلوها من جديد، قوله: “تعرُككم” أي: تطحنكم وتهلككم، يقال: عرك الجلد يعركه عركًا، أي: دلّكه، وعرك الشيء حكه حتى محاه. ويقال: عركتهم الحرب: دارت عليهم، وعركه الدهر: حنكه وأدبه، والثفال: قطعة من جلدٍ أو قماش توضع تحت الرحا؛ ليكون ما سقط من الطحين عليها. والرحى: أداة قديمة كانوا يطحنون عليها الحبّ، تتكون من حجرين مستديرين عظيمين ثقيلين، تدار بطريقة ما. ويُوضع الحب بين هذين الحجرين؛ فإذا دارت الرحى تم طحن هذا الحب، فهو هنا يقول: إن الحرب التي ستبعثونها إذا بعثتموها ستطحنكم، وتهلككم وتفعل بكم كما تفعل الرحى بالحب إذا طحنته.

و”تلقح كشافًا”: أي: تنتج نتاج السوء، كالناقة التي تلد كل عام، وكان يحمدون في نتاج الناقة أن تلد الناقة عامًا، وتستريح عامًا، وتتئم أي: تأتي بتوأمين في بطن واحدة، يُصور تضاعف الشرور الناتجة عن الحرب بناقة تنتج كل عام -أي: تلد كل عام- وتلد في كل مرة توأمًا، لا تلد بعيرًا واحدًا.

فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أَشأَمَ كُلُّهُم

*كَأَحمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرضِع فَتَفطِمِ


 يقول: إن هذه الحرب لكم أجيالًا مشئومة من الرجال؛ فتيان حرب تملؤهم الأحقاد، فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم، كل الذين سيخرجون من الأجيال في ظل الحرب والعداوة بين القبيلتين، سيكونون مشئومين، ويشبههم في هذا الشؤم بالغلام الذي قتل ناقة صالح # فعذّب الله قومه جميعًا بسبب فعلته، ولكن زهيرًا قال: “كأحمر عاد”. ولم يقل: كأحمر ثمود. وسيدنا صالح كان مرسلًا في ثمود، ومن الناس من قال: إن زهيرًا أخطأ في ذلك؛ لأن صالحًا أرسل إلى ثمود، ولم يرسل إلى عاد؛ فأحمر ثمود هو الفتى المشئوم الذي قتل الناقة، وعُذّب قومه بسبب ما فعل ومن الناس من اعتذر لزهير، وقال: إن عادًا وثمود في الأصل قبيلة واحدة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى*وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم: 50، 51] ويقولون: إن عادًا هي أصل ثمود؛ فثمود من عاد وبذلك لا يكون زهير مخطئًا.

فَتُغلِل لَكُم ما لا تُغِلُّ لِأَهلِها


*قُرىً بِالعِراقِ مِن قَفيزٍ وَدِرهَمِ


تغلل لكم: أي: تُعطيكم من الغلات، والغلة: هي ريع الأرض، وما يخرج منها. وقرى بالعراق: قرى في العراق يُضرب المثل بها في إنتاج الغلة، والقفيز: مكيال مخصوص كان أهل العراق يستخدمونه في تقدير غلتهم، والدرهم: معروف الدرهم والدينار عملة.

وهو في هذا البيت يقول لهم: إن هذه الحرب ستأتي لكم بِغَلَّة كثيرة؛ لكنها غلة مشئومة ليست مثل الغلة المحبوبة، التي تنتجها قرى العراق ويلاحظ هنا أن زهيرًا شبه الحرب بالرحى، ثم شبهها بالناقة التي تلد كل عام، وتلد توأمًا، وشبهها بالأرض التي تخرج الغلة؛ لكن الذي تخرجه مشئوم كريه، ويستمر زهير في أبيات بعد ذلك في وصف الحرب وشرِّها، وفي الإشادة بالرجلين العظيمين اللذين تحملا ديات القتلى، وقاما بالإصلاح بين المتحاربين.

وانتهى زهير إلى مجموعة من الحِكم صاغ فيها تجارب حياته، فقال:

سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش

*ثَمانينَ حَولًا لا أَبا لَكَ يَسأَمِ


وَأَعلَمُ ما في اليَومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ

*وَلَكِنَّني عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَمي

رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب

*تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ

وَمَن لم يُصانِع في أُمورٍ كَثيرَةٍ

*يُضَرَّس بِأَنيابٍ وَيوطَأ بِمَنسِمِ

وَمَن يَجعَلِ المَعروفَ مِن دونِ عِرضِهِ

*يَفِرهُ وَمَن لا يَتَّقِ الشَتمَ يُشتَمِ

وَمَن يَكُ ذا فَضلٍ فَيَبخَل بِفَضلِهِ

*عَلى قَومِهِ يُستَغنَ عَنهُ وَيُذمَمِ

وَمَن يوفِ لا يُذمَم وَمَن يُفضِ قَلبُهُ

*إِلى مُطمَئِنِّ البِرِّ لا يَتَجَمجَمِ

وَمَن هابَ أَسبابَ المَنِايا ينلنهُ

*وإن يرقَ أَسبابَ السَماءِ بِسُلَّمِ

ومن يجعل المعروف في غير أهله

*يكن حمده ذمًّا عليه ويندم

وَمَن يَعصِ أَطرافَ الزُجاجِ فَإِنَّهُ

*يُطيعُ العَوالي رُكِّبَت كُلَّ لَهذَمِ

وَمَن لا يَذُد عَن حَوضِهِ بِسِلاحِهِ

*يُهَدَّم وَمَن لا يَظلِمِ الناسَ يُظلَمِ

وَمَن يَغتَرِب يَحسِب عَدُوًّا صَديقَهُ

*وَمَن لا يُكَرِّم نَفسَهُ لا يُكَرَّمِ

وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ

*وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ

وهكذا، يقدم لنا زهير في آخر معلقته مجموعة من الحِكم العالية والغالية، والتي من أجلها عرف زهير بأنه شاعر حكيم، وإذا كان في بعض الحكم التي ذكرها زهير ما يستحق النظر أو التعليق من مثل قومه:

رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب

*تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ


 فإننا نقول: إن المنايا في التصور الإسلامي لا تسير خبط عشواء، والعشواء في كلام زهير هي الناقة التي لا تبصر؛ فتسير تخبط هذا فتميته ومن لا تخبطه لا يموت، وهو يشبه سير المنايا في الناس بذلك.

ونحن نقول: إن المنايا أو الموت في التصور الإسلامي قدر يجري بحكمة الله سبحانه وتعالى العالية، وبتقديره المُحكم ليس في الأمر خبط عشواء. وقوله:

وَمَن لا يَذُد عَن حَوضِهِ بِسِلاحِهِ

*يُهَدَّم ….. ….. ……..


هذا صحيح، وفيه حث على أن يحرص الناس على كرامتهم وأن يدافعوا عن حرماتهم، وقوله:

…. …. …. ….

*… وَمَن لا يَظلِمِ الناسَ يُظلَمِ


تقرير أو وصف لما كان يحدث في الجاهلية، وليس دعوة منه إلى الظلم.

هذه معلقة زهير تقدم لنا صاحبها على أنه رجل حكيم مجرّب كان يمدح من يستحقون المدح، يعلي من قيمة الصدق في الكلمة ويلتزم بها، ولا يمدح الناس إلا بما يستحقونه، وهو بهذه الأوصاف التي ذكرها للهرم بن سنان، والحارث بن عوف كأنه يقدم لنا نموذجًا للرجل الكريم السيد الذي يسعى لخير قومه، والذي يستحق من الناس أن يشيدوا بفعاله، كما تقدم لنا هذه الحكم التي وردت في آخر المعلقة صورة لعقل زهير، وصورة لتجاربه في الحياة، كما أود أن أشير إلى البراعة الفنية في الصورة التي رسمها زهير للحرب، وهو ينفّر منها عن طريق الاستعارة في قوله:

فَتَعْركُكُمْ عَرْكَ الرِّحَى بِثِفَالِها

*وَتَلْقَحْ كِشَافًا ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ


فَتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كَلُّهُمْ

*كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ

فَتُغْلِلْ لَكُمْ ما لا تُغِلُّ لأهْلِهَا

*قُرىً بِالعِراقِ مِنْ قَفِيْزٍ وَدِرْهَمِ

ففي هذه الأبيات استعار زهير الرحا للحرب، كما استعار لها أيضًا الناقة التي تلقح وتنتج كل عام وتتئم، واستعار لها أيضًا أرض العراق، لكن النتاج من الناقة والنتاج من الأرض خيرٌ يحبه الناس، أما الناتج عن الحرب؛ فهو شرٌّ ووبالٌ وشؤمٌ كما بيَّن زهير ذلك.

error: النص محمي !!