بقية شروط حد الحرابة
كنا قد تحدثنا عن شروط الحرابة، وذكرنا: إن هناك خلافًا بين الفقهاء حول ماهية الشرط الأول، ولا يبقى لنا في هذا الشرط إلا أن نقول: بأن الأرجح هو الرأي الذي يرى: أنه يستوي في جناية الحرابة ما إذا تمت في خارج المصر أو في داخله؛ لأننا مثلًا في مدينة القاهرة وهي من أعظم الأمصار، شهدت -وتشهد- أعمالًا من العنف وقطع الطريق كما هو الشأن في الكثير من بُلدان العالم، هذه الأمور تتم داخل المدن على مسمعٍ ومرأًى من العين، وهذا الأمر يتم -كما ذكرنا- ليس في مدينة بعينها، وإنما يتحقق حتى في أكبر المدن “الأمريكية”، و”الأوربية”، ويكفي أن تعليمات الشرطة في كثير من أكبر المدن “الأمريكية”، تنصح المواطن والأجنبي بتسليم ما معه من مال بمجرد طلب القاطع منه؛ لكي يحفظ حياته المهددة لو تردد في ذلك.
فأعمال الحرابة إذن تتم الآن في كل مكان، ولا فارقَ بين الصحراء، والمصر، والقرية.
الشرط الثاني في جريمة الحرابة: أن يكون مع المحاربين سلاح، سواء كان السلاح من حديد أو من غيره كالعصا، والحجر ونحو ذلك؛ لأن قطع الطريق لا يتحقق من غير سلاح يخيف المارة، وينشر فيهم الرعب، فيستسلمون للعدوان، لكنْ المحاربون من غير سلاح، لا يستطيعون تحقيق مقاصدهم في القتل، أو التخويف، أو أخذ المال، وهو ما ذهب إليه العلماء خلافًا للظاهرية، فإنه يستوي عندهم ما لو كان المحارب حاملًا سلاحًا أو غيرَ حاملٍ، حيث قال ابن حزم: المحارب: هو المكابر المخيف لأهل الطريق، المفسد في الأرض، سواء بسلاح أو بلا سلاح أصلًا.
هذا هو الشرط الثاني، أن لا تتحقق جريمة الحرابة إلا إذا كان هناك سلاح، بغض النظر عن نوعية هذا السلاح، كأن كان سلاحًا من حديد أو من غيره.
الشرط الثالث: العدوان جهارًا وقهرًا، وذلك يتحقق في أن يعتدي قطاع الطريق على المارة مجاهرةً في غير تلصصٍ ولا اختطافٍ، ويتحقق أيضًا بأخذ المال من المارة بالقهر والغلبة، أما إن تم أخذ المال منهم استخفاءً، فهذا يكيَّف على أنه سرقة، ومن ثم فيطبق على هؤلاء حكم السارقين، وهو حد القطع، أما إذا اكتملت جناية السرقة من حيث الصفات والشروط، فعند ذاك تستوجب تلك الجريمة حد القطع، وهي العقوبة المقررة للسرقة المستوفية لصفاتها ولشروطها.
أما إن تم العدوان عن طريق الاختطاف، فلا قطع عليهم كما بينَّا سابقًا. وكذلك لا حدَّ على المختلسين الذين يختلسون الأموال، ثم يولون مدبرين معتمدين على سرعتهم في الركض، أو ركوب السيارات، أو الخيل، فهؤلاء ليسوا من المحاربين، أو ليسوا من قطاع الطريق، بل إن قطاع الطريق هم الذين يعتمدون على شوكتهم فيعتدون على الناس في ظهور ومجاهرة.
الشرط الرابع: فيتحقق في أخذ المال من حرز، وهو ما ذكر في باب السرقة، من اشتراط الإحراز للمال المذكور، وصفة الإحراز -كما ذكرنا- بالنفس، أو بالحافظ -كما بينَّا- ومن ثم فلا تكتمل جنايةُ الحرابة لو أخذ المال وهو غير محرز، وهذا ما ذهب إليه الجمهور من الفقهاء.
الشرط الخامس: أن يبلغ المال المأخوذ النصاب، وهو عند الحنفية مقدَّر بدينار، أو بعشرة دراهم، وعند الجمهور مقدر بربع دينار، أو ثلاثة دراهم -كما بيناه عند الحديث عن السرقة- وهو النصاب في الحرابة، وهو معتبر أيضًا عند جمهور الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
ومع اتفاق الفقهاء على مبدأية وجود النصاب، إلا أنهم اختلفوا في حجم النصاب ومداه، فقال الحنفية، والشافعية: يشترط أن تكون حصة كل واحد من المحاربين بالغة نصابًا، وعلى ذلك فإن كان حصة الواحد دون ذلك لم يقطع، لكن الحنابلة لم يشترطوا هذا الشرط، أي: لم يشترطوا عدد الأنصباء تبعًا لعدد المحاربين، ومن ثم فإنهم قالوا: لو أخذوا جميعهم ما يبلغ نصابًا واحدًا، وجب في حقهم القطع من غير أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابًا، أما المالكية فلم يشترطوا النصاب؛ لوجوب القطع من خلاف، فقالوا: ليس حد المحاربين مثل حد السارقين، والمحارب عندهم على هذا المعنى: هو الذي يأخذ المال قليلًا أو كثيرًا، فهو عندهم سواء.
إذن، الفقهاء وإن اتفقوا على مقدار النصاب، وهو عشرة دراهم عند الحنفية، أو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم عند الجمهور، إلا أنهم اختلفوا: هل يستلزم تعدد النصاب مع تعدد المشتركين في جريمة قطع الطريق؟ خلاف بين الفقهاء؛ حيث بينَّا أن هناك مَن يشترط أن تكون حصة كل واحد من المحاربين بالغةً للنصاب، وهناك مَن لا يشترط ذلك كفقهاء المالكية.
الشرط السادس: التكليف: إذن بهذا الشرط لا ينسحب حكم المحارب من حيث الحد، أو التعزير أو نحو ذلك على غير المكلف، وغير المكلف -كما نعلم- هو الصبي الذي لم يبلغ، وكذلك المجنون الذي يستر عقله الجنون، وهؤلاء ورد فيهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة: الصبي حتى يبلغ، والنائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق))، ومعلوم أن التكليف منوط بالعقل، والبلوغ، ومن ثم فمَن كان غير عاقل، ولا بالغ، بات غيرَ مكلفٍ، هو بذلك لا يحتمل من المسئولية الجزائية ما يلحقه بعذاب الحد كالقتل، أو القطع، وإنما يُناط بذمته تكليف مالي، يؤديه الولي، أو الوصي من مال غير المكلف؛ لما أوقعه بغيره من ضرر كيفما كان.
أما المكلف، فإنه بلا شك يتحمل مسئولية الحد بالقطع إذا كان من المحاربين، ويستوي في ذلك ما لو كان المحارب رجلًا أو امرأةً، سيدًا أو خادمًا، عظيما أو وضيعًا، إلا ما اشترطه الشافعي لوجوب الحد هنا، وهو الإسلام، الأمر الذي به يخرج الذِّمي، فلا ينسحب عليه في تلك الحالة -بناءً على ما قاله الشافعي- حكم المحارب.
الشرط السابع: أن يظفر بهم الإمام قبل أن يتوبوا، أي: يتمكن الإمام أو الحاكم من القبض على هؤلاء الجناة قبل أن يتوبوا، ومن ثم إذا ظفر بهم الإمام قبل توبتهم، أقام عليهم حد الحرابة تبعًا لما قارفوه أو ارتكبوه من جنايات، وفي تلك الحالة لا تنفع التوبة، ولا تدفع عنهم عذاب الحد، لكنهم إن تابوا قبل اقتدار الإمام عليهم، أو قبل قبض الإمام عليهم، امتنع الإمام عن عقابهم بالحد؛ امتثالًا لقول الله تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34].
لكن ما معنى التوبة هنا؟
التوبة هنا، تعني: رجوعهم عما قارفوه أو ارتكبوه من قطع الطريق، مع الندم على ذلك، والعزم على أن لا يفعلوا شيئًا من ذلك في المستقبل، وليس هذا فقط، بل لا تكتمل التوبة حتى يردوا ما أخذوه من مال لصاحبه، وعلى هذا النحو إذا تحققت التوبة بندمهم وعزمهم على الرجوع فيما هو آتٍ، وردهم المال لصاحبه، اندرأ الحد أصلًا، أيًّا كان هذا الحد متضمنًا قتلًا، أو قطعًا، أو صلبًا، أو نفيًا.
أما فيما يتعلق بحقوق الآدميين كالقصاص، والأروش، فقد وجبت مراعاتها، أي: لا تؤثر التوبة فيما يتعلق بحقوق الآدميين، وعلى هذا فإذا حصل منهم -أي: من هؤلاء القطاع- قتل أو جراحات فتابوا، دفعهم الإمام لأولياء المقتولين، أو لأصحاب الجراحات؛ ليكون لهم الخيار، فإن شاءوا اقتصوا منهم، وإن شاءوا عفوا مطلقًا، أو عفوا عن القصاص إلى الدية، أما إذا لم يقترف القاطع جناية القطع، أو الجرح، أو أَخْذ مال هنا تكون التوبة بالندامة مع الإعلان عن عدم الرجوع في المستقبل، وليس في ذمته بعد ذلك حق من حقوق الله أو الآدميين.
ذلك ما ذهب إليه جمهور الحنفية، والشافعية، والحنابلة في أحد القولين لهم.
كيف تتحقق التوبة؟
التوبة من حيث الكيفية، تعني: إتيان المحارب للإمام طائعًا مختارًا، وإظهار التوبة والرجوع عنده، وهذا قول الحنفية، وقيل: إن التوبة يبينها ظهور الصلاح في حال المحارب، وذلك يُعلَم بمضي مدة من الزمن تكفي لظهور صلاحه، والتحقق من إقلاعه عن الفساد، وهذا هو قول الشافعية، والحنابلة في أحد وجهين.
واستند هؤلاء في ذلك إلى قول الله تعالى:{ فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا } [النساء: 16]، وقوله سبحانه: { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39]، فهنا علق العفو بالتوبة والإصلاح؛ لأنه ربما أعلن عن التوبة على سبيل التقية، فلا يمكن التحقق من صحتها حتى يقترن بالإعلان إصلاح في زمان يوثَق فيه بتوبته.
هذا فيما يتعلق بكيفية تحقق التوبة.
وهناك شروط أخرى عند فقهاء الشافعية، والحنابلة كالإسلام، ومن ثم وتأسيسًا على هذا الشرط، قالوا: إن الكفار ليسوا بقطاع طريق، حتى وإن أخافوا السبيل، وقتلوا وأخذوا الأموال، وقد استندوا في ذلك إلى الظاهر من قول الله تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ }، حيث قالوا في وجه الاستدلال من الآية: إن الكفار تقبل التوبة منهم في كل الأحوال، ويستوي في ذلك قبل الاقتدار عليهم أو بعده؛ لأن الإسلام -كما نعلم- يجب ما قبله.
هذا ما قال به فقهاء الشافعية، والحنابلة.
أما الحنفية، والمالكية، فلم يشترطوا الإسلام؛ لوجود الحد في الحرابة، ومن ثم فيستوي في المحارب أن يكون مسلمًا، أو كافرًا سواء كان الكافر ذميًّا، أو مستأمنًا.
ولعل هذا الرأي الأخير، هو الراجح في تلك المسألة، الذي يقوم على أن الحرابة والعقوبة المقررة، لا تتوقف على ما إذا كان المحارب مسلمًا، أو غيرَ مسلمٍ.