(بناء المسجد النبوي) اشتراك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في البناء، وما صاحب ذلك من آيات
بركتْ ناقتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند باب مسجده، فقال صلى الله عليه وسلم: ((هذا المنزل إن شاء الله))، ثم أخذ في النزول: {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِين} [المؤمنون: 29], وقد كان الموضع الذي بركت فيه مربدًا ليتيمين –المربد مكان يُجمع فيه التمر ليجف- وكان مملوكًا ليتيمين، وهم: سهل, وسهيل. وقال العلماء إن اليتيمين ابنا رافع بن أبي عمرو بن عائذ بن ثعلبة بن غن بن مالك بن النجار. وبذلك صرح ابن حزم، وأبو عمرو ورجحه، وكان هذان اليتيمان في حجر أسعد بن زرارة، أي: تحت رعايته، كما جاء في (صحيح البخاري).
وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى بني النجار بسبب موضع المسجد، فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا، أي: قدروا لي ثمنًا أدفعه لهذا المكان، فقالو: والله لا نطلب ثمنه إلا من الله، وفي رواية: فدعا بالغلامين وساومهما بالمربد ليتخذه مسجدًا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله منهما هِبة، حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدًا.
وعن أنس قال: كان المسجد جدارًا ليس له سقف، وقبلته إلى القدس، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل بالغرقد أن يقطع، وكان فيه قبور جاهلية، فأمر بها فنشبت، وأمر بالعظام أن تغيب، كان في المربد ماء فسيره حتى ذهب، وكان فيه خِرَب -يعني: أرض خربة- فأمر بها فسويت، فصف النخل قِبلة له، أي: جعلت سواريه مثل الأعمدة له في جهة القبلة, فسقف عليها، وجعلوا عضودتيه حجارة. وروى ابن عائذ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه وهو عريش اثني عشر يومًا، ثم سقف.
وروى محمد بن الحسن المخزوني، ويحيي بن الحسن، عن شهر بن حوشب قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبني المسجد، قال: ((ابنوا لي عريشًا كعريش موسى, ثمامات وخشبات, وظلة كظلة موسى، والأمر أعجل من ذلك، قيل: وما ظلة موسى؟ قال: كان إذا قام أصاب رأسه السقف))، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في بناء المسجد بنفسه الكريمة، وطفق ينقل معهم اللبن -الطوب الأبيض الذي لم تسو طينته بالنيران- ترغيبًا لهم في العمل، ويقول:
اللهم إن الأجر أجر الآخرة | * | فارحم الأنصار والمهاجرة |
ويذكر أن هذا البيت لعبد الله بن رواحة، وكان شاعرًا، وعن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:
((اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فارحم المهاجرين والأنصار)). وروى محمد بن الحسن المخزومي، عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: “بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجدًا، فقرب اللبن، وما يحتاجون إليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع رداءه، فلما رأى ذلك المهاجرون الأولون والأنصار ألقوا أرديتهم وأكسيتهم، وجعلوا يرتجزون ويعملون، ويقولون:
لئن قعدنا والنبي يعملُ | * | ذاك إذن للعمل المضللُ |
وروى البيهقي عن الحسن قال: “لما بني رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، أعانه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن حتى أغبر صدره”.
وكان عثمان بن مظعون رجلًا متنطعًا، وكان يحمل اللبنة فيجافي بها ثوبه، أي يبتعد بها عن ثوبه فإذا وضعها نفض كمه، ونظر إلى ثوبه، فإن أصابه شيء من التراب نفضه، فنظر إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأنشد يقول:
لا يستوي من يعمر المساجدَ |
يدأب فيها قاعدا |
لا يستوي من يعمر المساجدَ ومن يُرى من الغبار حائدا |
فسمعها عمار بن ياسر، فجعل يرتجز بها، وهو لا يدري من يعني بها، فمر بعثمان بن مظعون، فقال: يا ابن سمية، ما أعرفني بمن تعرض، ومعه جريدة فقال: لَتَكُفَّنَّ أو لاعترضن بها وجهك، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب ثم قال: ((إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني وأنفي، فإذا بلغ ذلك من المرء فقد أبلغ))، ووضع يده بين عيينه، فكف الناس عن عمار، ثم قالوا لعمار: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غضب فيك، ونخاف أن ينزل فينا قرآن، فقال: أنا أرضيه كما غضب، فقال: يا رسول الله، مالي ولأصحابي، قال: مالك ولهم، قال: يريدون قتلي، يحملون لبنة لبنة، ويحملون عليَّ لبنتين لبنتين، فأخذه بيده وطاف به في المسجد، وجعل يمسح فروته -يعني: شعر رأسه- بيديه من التراب، ويقول: ((يا ابن سمية, ليسوا بالذين يقتلونك, تقتلك الفئة الباغية، تدعوهم إلى الجنة, ويدعونك إلى النار)).
وروى الإمام أحمد، ويحيي بن الحسن عن طلق بن عدي رضي الله عنه، قال: “أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد والمسلمون يعملون فيه معه، وكنت صاحب علاج وخلط طين، فأخذت المسحاة أخلط الطين، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلي، ويقول: ((إن هذا الحنفي لصاحب طين)) وكان يقول: ((قربوا اليمامي من الطين، فإنه أحسنكم له مسكنا، وأشدهم منكبًا))”.
وروى يحيي بن الحسن من طريق عبد العزيز بن عمر، عن يزيد بن السائب، عن خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: “بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده سبعين في ستين ذراعًا أو يزيد، ولبن لبنة من بقيع الخبخبة، وجعل جدارًا، وجعل سواريه خشبًا شقة شقة، وجعل وسطه رحبة، وبني بيتين لزوجتيه”.
وروى يحيي أيضًا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: “كان بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسميط, لبنة على لبنة، ثم بالسعيد, لبنة ونصف أخرى، ثم كثر الناس، فقالو: يا رسول الله، لو زيد فيه، ففعل، فبني بالذكر والأنثى, وهما لبنتان مختلفان، وكانوا رفعوا أساسه قريبًا من ثلاثة أذرع بالحجارة، وجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخرة مائة ذراع، وكذا في العرض، وكان مربعًا”. وفي رواية جعفر: “ولم يسطح فشكوا الحر، فجعلوا خشبه وسواريه جذوعًا وظللوه بالجريد، ثم بالخسف، فلما وكف عليهم طينوه بالطين، وجعلوا وسطه رحبة، وكان جداره قبل أن يسقف قامة وشيئًا”.
وروى يحيي، عن أسامة بن زيد بن حارثة، عن أبيه رضي الله عنهما: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل قبلته إلى بيت المسجد، وجعل له ثلاثة أبواب في مؤخره: باب أبي بكر, وهو في وجهة القبلة اليوم, وباب عاتكة الذي يدعي باب عاتكة، ويقال له: باب الرحمة، والباب الذي كان يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم” وهو باب آل عثمان اليوم، وهذان البابان لم يغيرا بعد أن صرفت القبلة، ولما صرفت القبلة سد النبي صلى الله عليه وسلم الباب الذي كان خلفه، وفتح هذا الباب، وحذاءه هذا الباب، أي: ومحاذيه هذا الباب الذي سد.
وروى ابن جبالة عن جعفر بن محمد: ” أن النبي صلى الله عليه وسلم بني مسجده مرتين، بناه حين قدم أقل من مائة في مائة، فلما فتح الله عليه خيبر بناه وزاد عليه مثله في الطول”.
وروى الزبير بن بكار عن أنس أنه قال: “بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده أول ما بناه بالجريد، وإنما بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين”.
وروى الطبراني عن أبي المليح أنه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب البقعة التي زيدت في مسجد المدينة -وكان صاحبها من الأنصار- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لك بها بيت في الجنة))، قال: فجاء عثمان فقال: لك بها عشرة آلاف درهم, فاشتراها منه، ثم جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، اشتر مني البقعة التي اشتريتها من الأنصاري، فاشتراها منه ببيت في الجنة, قال عثمان: إني اشتريتها بعشرة آلاف درهم، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لبنة، ثم دعا أبا بكر فوضع لبنة، ثم دعا عمر فوضع لبنة، ثم دعا عثمان فوضع لبنة، ثم قال للناس: ((ضعوا))، فوضعوا”.
وروى البخاري وأبو داود عن نافع وأبي داود من طريق ابن عطية، وكلامها عن ابن عمر رضي الله عنهما: “أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سواريه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جذوع النخل, وأعلاه مظلل بجريد النخل، ثم إنها نخرت في خلافة أبي بكر, فبناه بجذوع النخل, وبجيد النخل ولم يزد فيه، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبًا، ثم إنها نخرت في خلافة عثمان، فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقَصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج, ونخل إليه الحصواء من العقيق كما جاء في بعض الروايات، وأول ما اتخذ فيه المقصورة مروان بن الحكم، بناها بحجارة منقوشة وجعل لها قُوَل.
ثم لم يحدث فيه شيء إلى أن ولي الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد أبيه، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة يأمره بهدم المسجد وبنائه، كان مروان بن الحكم أحد الخلفاء من بني أمية، ولكن الإشارة إليه عندما سبقت قبل ذلك بقليل، كانت عندما كان مسئولًا عن المدينة المنورة كوال عليها، وكان عمر بن العزيز عاملًا على المدينة للوليد بن عبد الملك, فجاءه الأمر بهدم المسجد وبنائه، وبعث إليه الوليد بمال وفسفياء ورخام، وثمانين صانعًا من الروم والقبط من أهل الشام ومصر، فبناه وزاد فيه، وولي القيام بأمره والنفقة عليه صالح بن كيسان، وذلك في سنة سبع وثمانين، ويقال: سنة ثمان وثمانين؛ لأن الوليد بن عبد الملك تولى في الفترة من عام ست وثمانين إلى عام ست وتسعين، ولم يحدث فيه أحد من الخلفاء شيئًا حتى استخلف المهدي الخليفة العباسي”.
وقال علي بن محمد المدائني: “ولي المهدي جعفر بن سليمان مكة والمدنية واليمامة، فزاد في مكة، ومسجد المدينة، وتم بناء مسجد المدينة في سنة اثنتين وستين ومائة، وكان المهدي أتى إلى المدينة في سنة ستين ومائة قبل الحج، فأمر بقلع المقصورة، وتسويتها مع المسجد، ويقال: إن المأمون عمره أيضًا وزاد فيه. ثم لم يزد فيه شيئًا أحدٌ من الخلفاء بعد المأمون، ولم يعمروا إلا مواضع يسيرة إلى أن حصل الحريق في المسجد النبوي في أول شهر رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة أول الليل لدخول أبي بكر بن أوحد الفراش، الحاصل الذي في الزاوية الغربية؛ لاستخراج قناديل لمنائر المسجد، وترك الضوء الذي كان في يده على قفص من أقفاص القناديل، وفيه مشاق، فاشتعلت النيران فيه, وأعجزه إطفاؤها، وعلقت ببسط وغيرها مما في الحاصل، وتزايد الالتهاب حتى اتصلت بالسقف بسرعة، ثم دبت في السقوف آخذةً قبلةً، فأعجلت الناس عن إطفائها بعد أن نزل أمير المدينة، واجتمع معه غالب أهلها، لم يقدروا على قطعها, وما كان إلا القليل حتى استوى الحريق على جميع سقف المسجد الشريف, وما احتوى من المنبر النبوي والأبواب، والخزائن، والمقاصير، والصناديق، ولم تبق خشبة واحدة.