Top
Image Alt

بيئات النقد الأدبي، واتجاهاته في العصر العباسي

  /  بيئات النقد الأدبي، واتجاهاته في العصر العباسي

بيئات النقد الأدبي، واتجاهاته في العصر العباسي

لقد تنوعت البيئات الثقافية في العصر العباسي وتعددت، فأصبحت عندنا بيئات متنوعة الأفكار والمعارف والاهتمامات؛ من هذه البيئات: بيئة الجزيرة العربية التي شرفها الله بأن جعلها الموطن، الذي أشرق منه نور الإسلام على الدنيا.

وكانت الجزيرة العربية هي موطن العرب الخُلّص، الذين لم يكونوا قبل اختلاطهم بغيرهم من أصحاب الفلسفة أو الحضارات والنظم المعقدة، فكل ما كان يعرفه العرب في بيئتهم الأولى هو حفظ الأشعار وروايتها ومعرفة الأخبار والأنساب، مع أشتات من المعارف التي استعانوا بها على الحياة في بيئة الصحراء.

وتركزت الحركة العلمية في بيئة الجزيرة بعد ظهور الإسلام، وفي العصرين الأموي والعباسي على علوم الدين الإسلامي وفنون اللغة العربية، وأدى الحرم المكي والحرم النبوي دورًا مهمًّا في احتضان هذه العلوم وتنميتها، وتنشيط البحث فيها. لقد تحول كل منهما إلى جامعة كبرى تدرس فيها علوم الشريعة الإسلامية، وعلوم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.

كما كان يُبحث في هذه البيئة مسائل الفقه، إلى جانب علوم اللغة العربية من نحو وبلاغة، وما يتصل بالدرس اللغوي من رواية الشعر والنظر في نصوصه، وغير ذلك مما هو داخل في دائرة علوم الدين واللغة، ولم يكن لهذه البيئة اهتمام بما يسمى بالعلوم العقلية، وهي علوم الفلسفة التي كانت تسمى علوم الأوائل.

ولم يكن يدرس في هذه البيئة أيضًا العلوم التي تنتسب إلى الحكمة، أو إلى العلم التجريبي؛ كالطب والكيمياء والهندسة والفلك، ولم يكن يبحث أيضًا في هذه البيئة فيما وراء المادة، كالمسائل التي تتعلق بطبيعة النفس البشرية، وغير ذلك من مباحث الفلسفة.

وكان بجانب هذه البيئة -بيئة الجزيرة العربية- بيئات أخرى، تميزت عنها أو اختلفت عنها فيما كان يُبحث ويُدرس فيها.

فنجد بيئة العراق، وقد كانت العراق أكبر بيئة ثقافية في العصر العباسي، فقد اتخذ العباسيون من بغداد عاصمة لدولتهم، وقدم إليها العلماء والأدباء والشعراء من كل مكان، وقد اهتمت بيئة العراق بعلوم الشريعة الإسلامية واللغة العربية -كما كان الشأن في بيئة الجزيرة العربية- لكنها لم تقتصر عليها، بل أضافت إلى ذلك اهتمامًا بالغًا بعلوم الأوائل: الفلسفة والطب والكيمياء، والرياضيات والفلك، وغيرها.

وكما كثر في العراق علماء التفسير والحديث والنحو والبلاغة والشعراء والخطباء، كثر فيها كذلك علماء الطب والكيمياء والفلك، ودار في مجالس العلم بها نشاط علمي كبير حول كتب الفلسفة ومقالاتها، ونشطت الترجمة لتنقل كل ما خلّفه اليونان والفرس من الكتب الفلسفية، وتعددت حواضر الثقافة لتشمل كثيرًا من مدن العراق، وقد اهتمت جميعها بالفلسفة، حتى إن الدكتور شوقي ضيف يقول: “يخيل إلى الإنسان أنه لم يبقَ في العراق وإيران مدينة، إلا اهتمت بالفلسفة وعلوم الأوائل”.

وكان من أهم هذه الحواضر -إلى جانب بغداد- الموصل وإربل وسِنجار والبصرة والكوفة، وانتشرت في هذه المدن المدارس والمكتبات، وامتلأت المكتبات بالكتب المترجمة والمؤلفة في فنون العلوم المختلفة، كما تعددت حلقات العلم والبحث الفلسفي، وكان من أهمها حلقة أبي سليمان المنطقي السجستاني، الذي رحل إلى بغداد ليتتلمذ على علمائها الكبار.

وقد كان داره منتدًى كبيرًا يجتمع فيه العلماء وطلاب العلم، وتثار فيه مشكلات الفلسفة الإلهية والطبيعية ومسائل الرياضة والفلك، وموضوعات النفس والسياسة والأخلاق، وبحوث الطب والتنجيم، وإلى جانب هذه الحلقة كانت هناك حلقات أخرى تعقد في بيوت العلماء والوزراء، وفي المساجد والمدارس.

ولقد بلغت الحركة العلمية أَوجَ نشاطها في بيئة العراق، وقدّمت للحضارة الإنسانية عددًا كبيرًا من الفلاسفة في شتى فروع الفلسفة؛ ومن العلماء الذين برزوا وعُرفوا فيها الحسن بن الهيثم، وله ثلاثة وأربعون كتابًا في الفلسفة والعلم الطبيعي، وخمسة وعشرون كتابًا في الرياضيات والهندسة، وهو صاحب النظريات الدقيقة في علم الضوء والبصريات، ومنهم أيضًا الطبيب ابن بطلان، وعالم الجغرافيا الإصطخري وغيرهم كثير.

ولم تكن العلوم الفلسفية هي المزدهرة وحدها في العراق ازدهارًا كبيرًا، فقد ازدهرت علوم الشريعة واللغة العربية، وكثر في هذه البيئة المبرزون من العلماء، أصحاب المصنفات المهمة في التفسير والقراءات والحديث والفقه والبلاغة والنحو والتاريخ، كما كثر فيها الشعراء والأدباء والكتاب والخطباء والنقاد.

ولما امتدت الدولة العربية لتشمل أقاليم أخرى كإيران ومصر وغيرهما نشأت بيئات ثقافية جديدة، ومن هذه البيئات بيئة إيران، فقد أدى التنافس في تشجيع الثقافة والعلم والأدب بين الحكومات المتعاصرة والمتعاقبة على أقاليم إيران إلى ازدهار الثقافة والعلم والأدب، فقد عمل كل أمير على أن يحشد في بلاطه أشهر العلماء والشعراء، وكانوا في ذلك يتشبهون بالخليفة العباسي في بغداد، فعضد الدولة البويهي -مثلًا- كان يجري الرواتب الكبيرة على الفقهاء والأدباء والقراء؛ ليرغب الناس في العلم، وكاد هذا الأمير نفسه يشتغل بالعلم، ووُجد في تذكِرة له قوله: “إذا فرغنا من حل إقليدس كله تصدقت بعشرين ألف درهم، وإذا فرغنا من كتاب أبي علي الفارسي تصدقت بخمسين ألف درهم”.

وأمير يحب العلم ويقدره إلى هذا الحد، لا غرابة في أن يقصده العلماء من كل جهة، وأن يصنفوا له الكتب في سائر فروع العلم، وأن يتوجه إليه الشعراء ليقيموا في ظلاله، ولقد صار خلفاؤه من بعده على نهجه.

ولم تَقِل عناية الدولة الخوارزمية والدولة السامانية والدولة الغزنوية والدولة السلجوقية بالعلم والثقافة والأدب عن عناية البويهيين، وكان من الطبيعي أن يثمر هذا الاهتمام بالعلم وأهله زيادة في عدد المشتغلين بالعلم، وزيادة في الكتب والمصنفات في شتى العلوم والمعارف، وكان لإيران شرف ظهور نخبة ممتازة من العلماء المبرزين في علوم الشريعة واللغة والفقه، والأصول والتاريخ والأدب.

ففي التفسير قدمت الزمخشري صاحب (الكشاف)، والفخر الرازي صاحب (مفاتيح الغيب)، والبيضاوي صاحب (أنوار التنزيل)، والنسفي صاحب (مدارك التنزيل وحقائق التأويل)، والقشيري. وفي علوم الحديث أنجبت بلاد إيران البخاري ومسلمًا والنسائي وابن ماجه والترمذي وأبا داود، وهؤلاء هم أئمة الحديث وأصحاب الصحاح الستة. وفي الفقه والأصول قدمت كثيرًا من العلماء كالرازي والسمرقندي والسرخسي وغيرهم. وفي التاريخ أنجبت بلاد إيران الطبري والبيروني والعماد الأصبهاني، والثعالبي والسمعاني، وغيرهم.

وفي علوم اللغة قدمت أبا منصور الأزهري واضع معجم (تهذيب اللغة)، والفارابي صاحب معجم (ديوان الأدب)، والجوهري صاحب (تاج اللغة) و(صحاح العربية)، والزمخشري صاحب (أساس البلاغة)، وأبا علي الفارسي إمام النحاة في القرن الرابع، وأبا هلال العسكري، والإمام عبد القاهر الجرجاني، والقاضي الجرجاني، وغيرهم.

أما في علوم الفلسفة والطب والكيمياء وغيرها، فقد اضطلعت البيئة الإيرانية بالقدر الأعظم من النهضة بهذه العلوم في الدولة الإسلامية في العصر العباسي؛ فلقد أفاد الإيرانيون من تراثهم القديم في هذه العلوم، وقدموا للحضارة الإسلامية والعالمية أكبر الأطباء والفلاسفة، وعلماء الهندسة والجغرافيا؛ كابن سينا والبيروني والرازي والخوارزمي، وغير هؤلاء كثيرون.

وكانت الشام بيئة أخرى من البيئات الثقافية النشيطة في العصر العباسي، وقد اكتسبت الشام مكانتها من بداية العصر الأموي، حيث اتخذ الأمويون من دمشق عاصمة لهم، فأصبحت مركزًا مهمًّا من مراكز الثقافة والعلم، وشدّ إليها كثير من العلماء والأدباء والشعراء رحالهم؛ لينعموا بالحظوة عند أمرائها.

وبلغ ازدهار النشاط العلمي والأدبي أَوْجَهُ في القرن الرابع، خاصة في ظلال سيف الدولة الحمداني، الذي أبدع المتنبي فيه كثيرًا من المدائح، وكان بلاط سيف الدولة الحمداني مسرحًا لظهور كثير من الشعراء والأدباء والنقاد.

وبالإضافة إلى دمشق كانت هناك حواضر أخرى من حواضر الشام تعدّ بيئات ثقافية، فقد كانت حلب والقدس وطرابلس ذات دور مهم في تنشيط حركة العلم والأدب، وانتشرت فيها المدارس والمكتبات العامرة، وبلغت الكتب التي حوتها إحدى المكتبات في طرابلس مائة ألف مجلد.

ولم تخلُ البيئة الشامية من العلماء الكبار والأدباء المشهورين، وممن أنجبتهم هذه البيئة: أبو الفضل الحارثي الدمشقي عالم الرياضيات، ومحمد القيصراني الدمشقي عالم الهندسة والفلك، والطبيب الشاعر أبو الحكم بن المظفر، والحكيم الفيلسوف الشاعر عبد المنعم الجرجاني الجلياني، وأبو العلاء المعري وهو الشاعر الأديب، الناقد الفيلسوف.

وكان في مصر كذلك نشاط ثقافي كبير، وكان البحث منصبًّا في مصر على علوم الشريعة واللغة العربية.

ولم يقتصر النشاط في مصر على القاهرة وحدها، بل شاركت فيه عدة حواضر أخرى كالإسكندرية وقوص وأسيوط وغيرها، وكان في مصر علماء مشهورون في التفسير والقراءات والفقه والحديث والأدب، وكان فيها كذلك شعراء ونقاد على قدر كبير من معرفة فنون الكلام والبصر بمعانيه، وكان للمساجد الكبيرة في مصر دور مهم في تنشيط الحركة العلمية والثقافية، ومن أشهر هذه المساجد: الجامع الأزهر، وجامع ابن طولون، وجامع عمرو بن العاص.

كما كانت هناك مدارس كالمدرسة الفاضلية، التي أنشأها القاضي الفاضل سنة خمسمائة وثمانين من الهجرة، وألحق بها مكتبة ضمت مائة ألف مجلد.

ويمتد التأريخ لحركة الثقافة والعلوم في العصر العباسي إلى أبعد من هذه البيئات؛ لأن العصر العباسي يمتد في الزمن قرونًا عديدة، ويمتد في المكان إلى بيئات كثيرة.

إذًا: كانت الثقافة على هذا النحو من أهم العوامل التي أدت إلى نشاط النقد الأدبي، وإمداده بزاد جديد ونظرات جديدة.

ولذلك نجد أحد المؤرخين للنقد الأدبي عند العرب يقول: “لم تعرف الحياة الأدبية والعلمية عند العرب عهدًا خصبًا بالرجال والأفكار ومختلف الأمزجة، كما عرفت في صدر الدولة العباسية؛ فقد كان فيها ضروب شتى من التفكير، وضروب شتى من البحوث، وقد كان فيها ولوع بالمعرفة وانصراف إلى العلوم والفنون في قوة وإيمان.

فبين رجال الدين الذين يبحثون في القرآن والحديث والفقه والأصول، وبين علماء العربية الذين يجمعون اللغة ويدونون النحو ويستنبطون العروض، إذا بعلماء آخرين ينقّبون في آثار الفرس والسريان واليونان، وينقلون منها إلى العربية الصالح المقبول.

وما انقضى عصر الرشيد حتى كانت العلوم اللسانية والشرعية قد دُوِّنت، وحتى ألَمّ العرب بكثير من أفكار الأمم الأجنبية وطرقها في البحث والتحليل، وهذه الحياة العلمية المتشعبة هي التي أنبتت الجاحظ وسهل بن هارون وأبا تمام وابن الرومي، وغيرهم من الكتاب والشعراء.

وهذه الحياة العلمية أثّرت في النقد تأثيرًا بعيدًا، لا في ظواهره فقط ولا في أشكاله، بل في جوهره وحقيقته، وفي الأمزجة التي يصدر عنها، وفي الثقافة التي ينحدر منها.

فالنقد الأدبي منذ القرن الثالث يقوم إذًا على عناصر قديمة، كانت موجودة عند العرب، وعناصر جديدة أتتهم من اختلاطهم بالأمم الأخرى. كان النقد الأدبي يقوم على البلاغة والثقافة والتبحر والفلسفة والمنطق، وكل ما دخل في الذهن العربي من المعارف الأجنبية”.

ثم يصف هذا النقد بأنه نقد متشعب النواحي مختلف الأمزجة، دقيق متأثر بكل ما جاء به العلم في صدر الدولة العباسية، ومتأثر كذلك بروح النقد القديم، نقدٌ فيه بحوث قيمة، منها ما أدخل شيئًا من الترتيب والتنظيم، والقواعد التي تعين الناقد على الفهم والحكم، ومنها ما شرح بعض مظاهر الأدب وعلل كثيرًا من حالاته.

يقوم النقد عند المحدثين على دعامتين اثنتين؛ على ما سرى إليه من العصور التي سبقت من خصائص وأحكام، وعلى ما دخل فيه من آثار البلاغة والمنطق والفلسفة والجدل.

ويرصد تاريخ النقد الأدبي عند العرب التفاوت والاختلاف والتنوع الذي حدث في بيئات النقد، فيذكر أن هذا النقد الأدبي في العصر العباسي كان ينبعث عن ذهنيات أربع، يمكن أن تكون هذه الذهنيات بهذا اللفظ هي التي تمثل الاتجاهات؛ اتجاهات النقد الأدبي في هذا العصر: ذهنية اللغويين، وذهنية الأدباء، وذهنية العلماء الذين أخذوا نصيبًا يسيرًا من المعارف الأجنبية، وذهنية العلماء الذين تأثروا كل التأثر بما نُقل عن اليونان.

إذًا: تعددت اتجاهات النقد الأدبي في العصر العباسي تبعًا لتنوع الثقافة وتجددها، فاللغويون وفصحاء الأعراب هؤلاء الذين يمكن أن نعدهم امتدادًا لما كان موجودًا قبل العصر العباسي والعصر الأموي، حيث النقد اللغوي الذي كان يمارسه علماء اللغة ورواة الشعر، فهؤلاء العلماء -علماء اللغة وفصحاء الأعراب والرواة- استمر نشاطهم أيضًا في العصر العباسي.

وانتشروا في البصرة والكوفة وبغداد وغيرها من المدن والأقاليم، وكانوا يدرِّسون في المساجد، ويؤدِّبون أبناء الخلفاء والولاة والخاصَّة من القوم، وكانوا يؤلفون الكتب الحافلة، وينشرون آراءهم في الشعر والأدب بين الناس.

من هؤلاء: أبو سعيد السكري راوية البصريين في عهده، وأبو العباس ثعلب أحد اللغويين والنحويين الكوفيين، وأبو العباس محمد بن يزيد المُبَرِّد البصري، ومنهم: أبو العُمَيْث الأعرابي، مؤدب ولد عبد الله بن طاهر بخراسان.

هؤلاء إذًا يمثلون اتجاهًا آخر قريبًا من هذا الاتجاه، لكنه زاد عليه في اهتمامه بالأدب الحديث وبالشعر المحْدث. أصحاب هذا الاتجاه الثاني أخذوا القديم عن اللغويين والنحويين، وعُنوا بالمُحْدَث أشد من عناية اللغويين والرواة، وحفلت به مجالسهم وأقبلوا على تحليل عناصره، وما يجدُّ فيه عهدًا بعد عهد، ويوازنون بينه وبين ما يجدونه في المذهب القديم.

يمثل إذًا هذا الاتجاه طائفة من العلماء والشعراء والأدباء، الذين كانوا يحرصون على القديم، ويضيفون إليه ذوقًا جديدًا، ومن هؤلاء الذين مارسوا هذا النقد عبد الله بن المعتز، فقد كان كثير السماع غزير الرواية، يلقى العلماء من النحويين والأخباريين، ويقصد فصحاء العرب ويأخذ عنهم، ولكنه كان مع كل ذلك بارعًا في الأدب حسن الشعر، مهتمًّا بنقد المُحْدَثِين، وله رسالة في محاسن شعر أبي تمام ومساويه، وله كتب أخرى في النقد، وهذه الطائفة كانت أكثر تسامحًا مع الشعر المحدث والاتجاه الجديد من الطائفة الأولى.

وهذان الاتجاهان في النقد الأدبي في العصر العباسي يتصلان بسبب وثيق ونسب عريق بالذوق العربي الأصيل، وبالثقافة العربية الموروثة.

ونقاد هذين الاتجاهين لم تبهرهم المعارف الأجنبية، وإن كان بعضهم يعرف عن هذه المعارف الأجنبية ويأخذ منها بنصيب.

الاتجاه الثالث مثلته جماعة من العلماء الذين كانوا يدرسون الشعر القديم، ويدرسون الشعر المحدث، ويدرسون إلى جانب ذلك كثيرًا من العلوم الكونية والنقلية، وكانوا يلمون ببعض آثار الأمم القديمة، فجاء ذوقهم في نقد الأدب مختلفًا عمن سبقهم من أصحاب الاتجاهين الأول والثاني.

جاء ذوق أصحاب هذا الاتجاه الثالث معتمدًا على القديم ومتأثرًا بالجديد؛ يعتمد على القديم في الروح والشواهد، ويتأثر بالمعارف التي نُقلت وبالبلاغة التي عُرفت، وبالعلوم التي تُرجمت، وظهر أثر هذا الجديد أو التأثر بالمترجم والمنقول في مؤلفاتهم، التي اتسمت بالتنظيم والترتيب، وفي أحكامهم التي جنحت إلى التعمق والتعليل. ومن هؤلاء النقاد أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، العالم الأديب الناقد.

وأما الاتجاه الرابع في النقد الأدبي في العصر العباسي فتمثله الذهنية، التي وقف أصحابها على بعض آثار الفرس والسريان واليونان، واستمدوا معارف كثيرة من ميراث الأمم غير العربية، وتأثروا بما نقل عن “أرسطو” و”أفلاطون”، واتخذوا من مقاييس الأمم الأخرى مقاييس لنقد الأدب العربي، وقد كان أكثر هذه المقاييس لا يتصل بسبب بالأدب العربي القديم، ولا ينتهي إلى أصل من أصوله المعروفة.

وكان القائمون بهذا النقد يجتلبون الشواهد من الأدب العربي اجتلابًا، ويحاولون أن يطبقوا عليها المقاييس التي استقوها من الثقافات الأجنبية، ومؤرخو النقد الأدبي يمثلون لأصحاب هذا الاتجاه بقدامة بن جعفر؛ صاحب كتاب (نقد الشعر).

إذًا: هذه هي الاتجاهات التي ظهرت في النقد الأدبي في العصر العباسي، وكلها كانت نتاجًا للثقافة العريضة والمتنوعة والعميقة، التي انتشرت في هذا العصر الغني والثري، والعميق والواسع.

واستمرت مسيرة النقد الأدبي في العصر العباسي وهذه الاتجاهات تتقارب أو تتباعد، حتى استطاع الذوق العربي أن يفرض نفسه، وأن تكون الذهنية الرابعة التي تأثرت بما هو مترجم ومنقول، وحولت النقد إلى فلسفة.

وأثّر هذا الاتجاه عندهم في طبيعة الشعر العربي وطبيعة الأدب العربي، قَلّ أثر هذا الاتجاه، وكان الاتجاه الأغلب والأعم اتجاهًا توافقيًّا منصفًا لطبيعة الأدب العربي، ومنصفًا للنقد الذي يقوم على الذوق الأدبي السليم، من غير أن يخاصم المعارف الجديدة.

لكنه يأخذ من العلم ما يأتنس به في الشكل أو الصورة، ولا يجعله في موضع الجوهر أو الروح، حتى يظل الأدب أدبًا والعلم علمًا.

ولذلك وجدنا مؤرخي النقد الأدبي يذكرون أن النقد في القرن الرابع كان خصبًا جدًّا، وكان متسع الآفاق متنوع النظرات، معتمدًا على الذوق الأدبي السليم، مؤتنسًا بمناحي العلم في الصورة والشكل، لا في الجوهر والروح.

وظهرت آثار هذا الميل في الذوق، والبعد في الجوهر عن العلم والفلسفة في آثار النقاد، وفي طريقة النقد، فإن حَلّل هذا النقد الشعر حَلل بذوق سليم، وإن علل فبمنطق سديد، وإن عرض لفكرة أتى على كل ما فيها.

ونقدٌ يرجع بنا إلى عهد متقدمي اللغويين والرواة، الذين رأيناهم في أواخر القرن الثاني، فرجالهم مثلهم ذوقًا وفهمًا وتأتيًا لدراسة الأدب، أو إن نقدة القرن الرابع استمرار وامتداد للذين جروْا في النقد على الأصول العربية في القرن الثالث، وامتداد للغويين وللنقدة الأدباء مجتمعين.

فليسوا كاللغويين عكوفًا على القديم ونفورًا من المحدَث، وليسوا كالأدباء يفهمون الشعر المحدث فهمًا لا يكشف سره، ولا يوضح علله ولا يبين مراميه.

وإنما هم من صنف جمع بين الذوقين وأخذ من الطريقتين، تضلع في القديم وأَلِف الحديث، واعتمد على الذوق في فهم الأدب، وأنس بما شاع في عصره من أساليب الجدل، فصاغ فيها كل ما اهتدى إليه من نظرات وأحكام.

إذًا: استقر النقد الأدبي في القرن الرابع الهجري على نمط جمع بين الاتجاهين الأول والثاني، وزاد عليهما تعمقًا في الفهم وصحة في التعليل، وإفادة من الموروث، وإفادة كذلك من الجديد على نحو متوازن فيما بينهما.

واعتمد هذا الاتجاه على أن النقد صناعة لا بد فيها من طبع وقريحة، كما أنه لا بد في الأدب نفسه من طبع وقريحة.

فلا بد من وجود الذوق السليم للأديب وللناقد على حد سواء، وهذا الطبع أو هذا الذوق لا بد له من خبرة وطول معاناة، لا بد له من صقل، لا بد له من ثقافة، ولم يعد النقد يعتمد على العلم والمنطق والفلسفة.

وكان من أئمة هذا الاتجاه الناضج أبو القاسم الحسن بن بِشر الآمدي، والقاضي الجُرجاني. ومما قاله القاضي الجرجاني في شرح هذا الاتجاه.

وما يعتمد عليه في النظر إلى الشعر: “إن الشعر لا يُحَبب إلى النفوس بالنظر والجدل، وإنما يعطفها عليه القبول والطلاوة، وقد يكون الشيء متقنًا محكمًا ولا يكون مقبولًا، ولكل صناعة أهل يُرجع إليهم في خصائصها، ويُستظهر بمعرفتهم عند اشتباه أحوالها، وكثير من شئون النقد تُمتحن بالطبع لا بالفكر”.

فنحن نجد في هذا الكلام إعلاء من شأن الطبع والاستعداد والذوق؛ الذوق المدرب والطبع المثقف.

وقوله: “لا بالفكر” يعني: لا بالإمعان في نقل رسوم المنطق وقيود الفلسفة وطبيعة العلم إلى الأدب، فالأدب طبيعته في الأصل ترجع إلى الذوق، ولا ترجع إلى العلم والفكر.

وكان هذا الكلام من القاضي الجرجاني محاولة منه لإبعاد أصحاب الذهنية العلمية عن النقد، وكان تعريضًا بالذين تصدوا لممارسة النقد الأدبي، والكلام في الشعر دون أن يكون لهم فيه طبع أو ذوق.

وكما انحسرت في مجال النقد الأدبي ذهنية المنطقيين والعلماء والفلاسفة، انحسرت كذلك ذهنية النحويين.

فلم نعد نرى ناقدًا كأبي عبيدة أو يونس بن حبيب أو ابن الأعرابي وأشباههم، الذين كانوا يقتصرون في نقدهم للأشعار على ما فيها من اللغة، فالذوق الجديد أو الاتجاه الجديد يتجاوز هذه النظرة، وينظر إلى العمل الأدبي على أنه يتكون من عناصر متعددة.

والذين مارسوا النقد في هذا الاتجاه الناضج -إذًا- هم الأدباء العلماء، الذين عُنوا بدراسة الشعر وتقدير رجاله، وتحاوروا فيه وتخاصموا بنظر أعمق وأفق فسيح، وحللوا الظواهر الأدبية وعللوها.

وأرجعوا كل شيء إلى أصل وسبب، فهم أدباء علماء، ذوقهم عربي سليم، وثقافتهم عربية غزيرة، ويعرفون ما نُقل إلى لغتهم، ويستفيدون منه بالقدر الضروري. هذه هي الاتجاهات التي سادت في النقد الأدبي، أو التي عُرفت فيه في العصر العباسي، ولا نستطيع أن نجزم بأن هذا الحال كان مستمرًّا طوال عصر الدولة العباسية؛ لأن طول الزمن وتعدد البيئات وتنوع الثقافات وتغاير الأذواق، كان يؤثِّر من حين إلى حين، ومن مكان إلى مكان في النقد الأدبي في العصر العباسي.

error: النص محمي !!