بيان أن العلو يبعد الإسناد من الخلل
إن الإسناد خصّيصة فاضلة من خصائص هذه الأمّة الإسلامية، وسنّة بالغة من السّنن المؤكّدة. قال ابن حزم: “نقل الثقة عن الثقة، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، مع الاتّصال، خص الله به المسلمين دون سائر المِلَل. وأما مع الإرسال والإعضال، فيوجد في كثير من اليهود، لكن لا يَقْربون فيه من موسى قُرْبَنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثرُ من ثلاثين عصرًا، وإنما يبلغون إلى شمعون ونحوه”.
قال: “وأما النصارى، فليس عندهم من صفة هذا النقل إلاّ تحريم الطّلاق فقط. وأمّا النقل بالطريق المشتمِلة على كذّاب أو مجهول العين، فكثير في نقْل اليهود والنصارى”. وقال: “أمّا أقوال الصحابة والتابعين، فلا يمكن اليهود أن يبلغوا إلى صاحب نبيٍّ أصلًا، ولا إلى تابع له. ولا يمكن النصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولس”.
وقال أبو علي الجياني: “خَصّ الله تعالى هذه الأمّة بثلاثةِ أشياءَ لم يُعْطِها مَن قبْلَها: الإسناد، والأنساب، والإعراب”. ومن أدلّة ذلك: ما رواه الحاكم وغيره عن مطر الورّاق في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} [الأحقاف: 4]، قال: “هو إسناد الحديث”.
قال ابن الصلاح: “ورويْنا من غير وجه، عن عبد الله بن المبارك، أنه قال: “الإسناد مِن الدِّين. لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”. وقال سفيان بن عيينة: “حدّث الزهري يومًا بحديث، فقلت: “هاتِه بلا إسناد؛ فقال الزهري: أتَرْقى السّطحَ بلا سُلّم؟ وطلب العلوّ فيه سُنّة؛ ولذلك استُحبَّت الرِّحلة فيه”.
قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-: “طلَب الإسناد العالي سُنّة عمّن سلَف، لأن أصحاب عبد الله كانوا يرحلون من الكوفة إلى المدينة، فيتعلّمون من عمر ويسمعون منه. وقد روينا أنّ يحيى بن معين قيل له في مرضه الذي مات فيه: ما تشتهي؟ قال: بيت خالي، وإسناد عالي”.
قال الحافظ ابن الصلاح: “العلوّ يُبعد الإسناد من الخلل؛ لأنّ كلّ رجل من رجاله يحتمل أن يقع الخلل من جهته سهوًا أو عمدًا؛ ففي قِلّتهم قِلّة جهات الخلَل، وفي كثرتهم كثرة جهات الخلل”. وهذا جليٌّ واضحٌ.
وقال الحاكم في طلب الإسناد العالي: “سُنّة صحيحة عن الإمام مسلم، من حديث أنس, في مجيء الأعرابي وقوله: “يا محمد أتانا رسولك فزعم كذا…” الحديث”. قال: “ولو كان طلبُ العلوّ في الإسناد غيرَ مستحب، لأنكر عليه سؤالَه عمّا أخبره رسولُه عنه، ولأمَرَه بالاقتصار على ما أخبره الرسول عنه”. قال: “وقد رَحَل في طلب الإسناد غيرُ واحد من الصحابة”. وساق بسنده حديثَ خروج أبي أيّوب إلى عُقبة بن عامر، يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَبقَ أحد ممّن سمِعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرُ عقبة. والحديث في سِتر المؤمن.
قال الحافظ العراقي: “لم يَحكِ الحاكم خلافًا في تفضيل العلوّ، وحكاه ابن خلاد، ثم الخطيب؛ فحكيا عن بعض أهل النّظر أنّ التنزّل في الإسناد أفضل، لأنه يجب على الراوي أن يجتهد في متْن الحديث وتأويله، وفي الناقل وتعديله؛ وكلما زاد الاجتهاد زاد صاحبه ثوابًا”. قال ابن خلاّد: “وهذا مذهب مَن يزعم: أنّ الخبر أقوى من القياس”. قال ابن الصلاح: “وهو مذهب ضعيف الحُجّة”.
وقال ابن دقيق العيد: “لأن كثرة المشقّة ليست مطلوبة لنفسها، ومراعاة المعنى المقصود من الرواية -وهو: الصحة- أوْلى.
وهذا بمثابة مَن يقصد المسجد لصلاة الجماعة، فيسلك طريقًا بعيدة لتكثير الخُطى، فتفوته صلاة الجماعة التي هي المقصود؛ لأن المقصود من الحديث التّوصّل إلى صحّته وبُعْد الوهم، وكلما كثر رجال الإسناد تطرّق إليه الخطأ والخلل، وكلما قصر السند كان أسلم، اللهم إلاّ أن يكون رجال السّند النازل أوثق وأحفظ أو أفقه؛ فإنه يكون أولى”.
وقال الحافظ العلائي: “وفي استدلالهم بحديث ضمام، وبخروج أبي أيوب إلى عقبة بن عامر، أنهما طلبا بذلك علوّ الإسناد، فيه نظر لا يخفى. أما حديث ضمام، فقد اختلف العلماء فيه، هل كان ضمام قد أسلم قبل مجيئه أو لا؟ فإن قلنا: إنه لم يكن قد أسلم قبل مجيئه -كما اختاره أبو داود- فلا ريب في أنّ هذا ليس طلبًا للعلوّ، بل كان شاكًا في قول الرسول الذي جاءه، فرحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى استثبت الأمْر، وشاهد من أحواله صلى الله عليه وسلم ما حصل له العلْم القطعي بصدْقه؛ ولهذا قال في كلامه: “فزعم لنا أنك كذا…” إلى آخر الحديث. فإنّ الزعم إنما يكون في مظنّة الكذب”. ثم قال: “وإن قلنا أنه كان قد أسلم قبل مجيئه، فلم يكن مجيئه أيضًا لطلب العلوّ في إسناد، بل يرتقي مّن الظن إلى اليقين، لأن الرسول الذي أتاهم لم يُفِد خبرُه إلى الظن، ولقاء النبي صلى الله عليه وسلم أفاد اليقين”. قال: “وكذلك ما يحتجّ به لهذا القول من رحلة جماعة من الصحابة والتابعين في سماع أحاديث معيّنة إلى البلاد، لا دليل فيه أيضًا، لجواز أن تكون تلك الأحاديث لم تتّصل إلى مَن رحَل بسببها من جهة صحيحة، وكانت الرحلة لتحصيلها لا للعلوّ فيها.