تأجير العين المؤجرة
لو أن شخصًا يملك عينًا أجرها، أي: يملك منفعتها لفترة ما، هل يجوز له أن يؤجرها؛ وهذا ما يسمى: “تأجير من الباطن”؟
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والأصح عند الحنابلة: إلى أنه يجوز إيجار المستأجر العين المؤجرة إلى غير المؤجر، وذلك بشرطين، فجمهور الفقهاء يرون جواز هذا الصنيع، بأن يقوم المستأجر بتأجير العين التي استأجرها خلال المدة، وأجازوا ذلك بشرطين:
الشرط الأول: قبض المستأجر العين المؤجرة -يعني استلامها- أي: أصبحت في حوزته، وأصبح مسئولًا عن أيّ إتلاف فيها.
الشرط الثاني: قد يضمن أن تكون العين المؤجرة تختلف باختلاف الشخص المستعْمِل أو المستفيد، ومعنى هذا الشرط: أن العين المؤجرة يجوز للمستأجر أن يؤجرها، إذا كان لا يختلف ذلك باختلاف الأشخاص، لكن إن اختلف ذلك باختلاف الأشخاص؛ فلا يجوز.
إذًا جمهور الفقهاء ذهبوا إلى جواز تأجير المستأجر العين التي أجرها بهذين الشرطين، وذهب المالكية، والشافعية: إلى جواز ذلك مطلقًا، أي: سواء كانت بمثل الأجرة السابقة -يعني: هو أجرها في السنة مثلًا بعشرة آلاف، فيجوز أن يؤجرها بعشرة آلاف- أو أزيد- ويجوز أن يكون هو قد استأجرها بعشرة آلاف، فيؤجرها باثني عشر ألفًا- أو أقل -كأن يكون استأجرها بعشر فيؤجرها بثمان- ووافقهم الإمام أحمد في الأصح، يعني الإمام أحمد وافق المالكية والشافعية، إلى جواز ذلك بأيِّ ثمن ما دام سيؤجرها لغير المؤجر مطلقًا، سواء كانت بمثل الأجرة، أو أكثر أو أقل، والمالكية والشافعية، وافقهم الإمام أحمد في الأصح على ذلك.
ورفض القاضي أبو يعلى، الزيادة، يعنيك الإمام أبو يعلى من -الحنابلة- أجاز أن يؤجر المستأجر العين التي استأجرها لكن بأقل أو بمثل ما أجرها به؛ أما الزيادة فلا تجوز، قال: لا تجوز؛ لأنه في هذه الحالة سيأخذ أزيد مما دفع، وستكون هذه الزيادة ربحًا لما لم يضمن؛ لأنه لم تدخل المنفعة في حوزته؛ لأن المنفعة تتجدد، وهو يحصل على الفائدة جزءًا كل يوم إلى أن تنتهي المدة، فيكون قد حصل المنفعة.
والراجح، الجواز؛ لأن قبض العين قام مقام قبض المنفعة، فالمؤجر لا يحول بينه وبين العين ويسلمها له، فكأنه سلمه المنفعة نفسها، وهذا هو الراجح، أما قول أبي يعلى، قول فيه وجهة نظر.
وذهب الحنفية، إلى جواز “الإجارة الثانية”، إن لم تكن الأجرة الثانية من جنس الأجرة الأولى، يعني: إذا كانت الإجارة الثانية التي سينقلب فيها المستأجر مؤجرًا، إذا كانت الأجرة من غير الجنس جاز، يعني: إذا كان أجرها بذهب، ويريد أن يؤجرها بفضة، يجوز؛ لكن إذا كان أجرها بذهب، ويريد أن يؤجرها بذهب، فهذا قد توقَّفوا فيه.
والحنفية إذًا يقولون: إن لم تكن الأجرة الثانية من جنس الأجرة الأولى يجوز، أما إذا اتحد جنس الأجرة في المرة الأولى، وفي المرة الثانية؛ فإن الزيادة لا تطيب، يعني: الإجارة نفسها صحيحة، لكن الزيادة عن الأجر الذي دفعه لا تطيب له، يعني: فيها شبهة، فالأفضل له أن يتصدق بها -يتخلص منها- ولكن الإجارة جائزة؛ لأن الفضل – أي: الزيادة- فيه شبهة فقط، وليس مخالفًا لأصول العقد.
أما إن أحدث زيادة في العين المؤجرة -يعني: شخص استأجر شقة ولم تكن مدهونة، فدهنها، أو كانت نوافذها مكسورة فأصلحها- إذا كان قد زاد في العين المؤجرة زيادةً ما، فالزيادة في الأجرة تطيب له -كأن أجرها بعشر، ويريد أن يؤجرها باثني عشر- وقد زاد فيها زيادة حتى لو كانت الأجرة من نفس الجنس، فتجوز الزيادة؛ لأنه أحدث في العين المؤجرة زيادةً، فالزيادة مقابل هذه الزيادة، وهذا كله بعد القبض.
أما قبل القبض، فيجوز عند المالكية مطلقًا؛ فالمالكية لم يشترطوا القبض -بمعني تسلم العين المؤجرة- بل أجازوا إجارتها مطلقًا قبل أو بعد -عقارًا كان أو منقولًا- سواء كان هذا بأنقص، أو بأزيد، لا بأس قبل القبض، أو بعد القبض؛ لأن المعقود عليه هو المنافع، وهي لا تصير مقبوضة بقبض العين، فلا يؤثر فيها القبض، وتلك وجهة نظر المالكية، والمالكية في هذا أكثر اتساعًا من غيرهم.
والمشهور عند الشافعية، وفي وجه عند الحنابلة: أن ذلك لا يجوز قبل القبض، وأجاز أبو حنيفة وأبو يوسف ذلك في العقار دون المنقول؛ لأن الإمام أبا حنيفة يجيزُ بيعَ العقار قبل استلامِهِ، فيجيز أيضًا إجارته قبل قبضه، حتى في الإجارة قبل أن يقبضه المستأجر، جاز له أن يؤجره، فيصبح كأنه مؤجر.
وسبب ذلك، اختلافهم في جواز بيع العقار قبل قبضه، هل يجوز أو لا؟
الإمام أبو حنيفة، أجاز، أما أبو يوسف، فلم يجز ذلك.
وبناء عليه، اختلفا أيضًا في جواز أن يؤجر المستأجر العين قبل قبضها.
وعلى كل حال فهذه وجهة نظرهم، وكلٌّ يؤخذ من قوله، ونختار من أقوالهم ما هو أفيد، وأنفع، وأقرب وأقوى دليلًا.
كل ما سبق، بالنسبة لإجارة المستأجر العين لغير المؤجر، لكن هل يجوز للمستأجر أن يعيد الإجارة فيؤجر العين للمؤجر، أي: إجارتها للمؤجر نفسه؟ فالمالكية والشافعية، يجيزون ذلك مطلقًا، وهو أحد وجهين عند الحنابلة.
أما الحنفية: فمنعوا ذلك مطلقًا؛ لأن في تأجيرها للمؤجر تناقضًا؛ لأن المستأجر مطالب بالأجرة للمؤجر، فيصبح هذا المستأجر دائنًا ومدينًا من جهة واحدة، لا شك أن قول الحنفية في هذا قول متوازن سواء في الحالة الأولى -بالنسبة لتأجير المستأجر لغير المؤجر، أو تأجير المستأجر للمؤجر، وهذه المسألة تمنعها بعض البلاد، وترى في حالة الزيادة أنها تشبه “بيع العينة”، وبعض البلاد في قوانينها -كما هو الحال في مصر- لا تجيز للمستأجر أن يؤجر العين التي استأجرها إلا برضا من المؤجر، ويسمونه: “الإجارة من الباطن”، وهذه منعها القانون المدني المصري، إلا إذا وافق المؤجر.