تابع : الجذور التاريخية لحركة الصهيونية العالمية
وأيضًا من الحركات التي كان لها أثر كبير الحركة الصهيونية التي قادها “نابليون بونابرت” قائد الحملة الفرنسية على مصر وعلى الشرق. هذا القائد الذي زُوِّرَت حملته على أنَّها جاءت إلى مصر بقصد التنوير، وبقصد نشر الحضارة، وبقصد نشر العلم، ولكن الأهداف الحقيقية لهذه الحملة قد أعلن عنها “نابليون بونابرت” نفسه في وثائق أدعوكم إلى قراءتها في الكتاب العظيم الذي جمعه وطبعه -وهو في شكل وثائق تاريخية- الصحفي محمد حسنين هيكل في كتاب بعنوان: (الوثائق السرية لإسرائيل).
في هذه الوثيقة، اعترف “نابليون” بأنه كان على علاقة باليهود، وأنه صاحب دعوة، أو وجّه الدعوة إلى المجلس الأعلى اليهودي في سنة 1806م للاجتماع بهم لإثارة حماستهم وأطماعهم، وتحريضهم على مساندته في احتلال الشرق العربي، واعدًا إياهم بمنْحهم أرض فلسطين، في الوقت الذي كان اليهود فيه في فرنسا كانوا قد بدءوا نشاطًا إيجابيًّا منذ 1798م، يوم أكثر كتابُهم وخطباؤهم من إثارة الحماسة اليهودية لإعادة بناء الدولة في أرض فلسطين.
وقد استغلّ “نابليون” عواطف اليهود، فحرّضهم على جمع الأموال لتمويل حمْلته على مصر. وقد ألقى أحد حكماء اليهود خطابًا خطيرًا في هذا الاجتماع، كانت كلماته كلّها عبارة عن مادة لكتاب ظهَر -فيما بعد- بعنوان: (بروتوكولات حكماء صهيون)؛ حيث حثّ الفرنسيِّين فيه أو اليهود بالذات، على التضحية بالمال من أجْل العودة، وبناء الدولة، وبناء هيكل أورشليم. كما حثّهم على تشكيل مجلس ينتخبه اليهود المقيمون في البلدان التالية -وحدد هذه البلاد ابتداءً من إيطاليا، وسويسرا، والمجر، وبولونيا، والسويد، وألمانيا، وتركيا- مجالس منتخبة في هذه البلاد على أن تتولّى تلك اللجنة في كل بلد دراسة وسائل العودة لليهود المقيمين في هذه البلاد إلى أرض فلسطين.
تأمّلوا معي هذه الملاحظة؛ لأنها على جانب كبير من الأهمية في هذا الاجتماع الذي دعاهم إليه “نابليون بونابرت”. وقف أحد حكماء صهيون على مرأى ومسمع من “بونابرت” الذي ادّعى أنه جاء لنشر التنوير والحضارة والعلْم في الشرق. ماذا قال هذا الرجل؟ كان من أهمّ ما دعا إليه: أن يؤسّس في كل بلد أوربي جمعية أو مجلسًا ينتخبه اليهود المقيمون في هذا البلد أو ذاك، تكون مهمّة هذا المجلس: العمل على جمع اليهود المقيمين في هذا البلد، وإثارة حماستهم، وأن يبحثوا معًا وسائل العودة لهؤلاء اليهود إلى أرض فلسطين.
لو استقرأتَ أسماء البلاد الأوربية التي ذكَرها هذا المفكِّر في هذا اللقاء، تجدها شملت جميع دول أوربا بلا استثناء. مجلس يؤسّس في كل بلد أوربي، يبحث عن أفضل الوسائل لعودة اليهود إلى أرض فلسطين.
بل ذكر ما هو أنكى وأدهى من هذا:
صرّح بهذه العبارة: دراسة تلك اللجنة لأفضل الوسائل المتاحة للعودة إلى أرض فلسطين، للاستيلاء على مقدّرات العالَم بعد وضْع السُّبل المؤدّية إلى ذلك. وتكون قرارات هذه اللجنة ملزِمة لجميع يهود العالم.
ثم بدأ هذا المفكِّر في هذا الاجتماع أيضًا يُحدِّد المناطق الجغرافية المؤسّسة لدولة إسرائيل. فهي تبدأ من الوجْه البحري في مصر حتى يتمكّنوا من السيطرة على البحر الأحمر وعلى مياه النيل، ثم يتعاونون مع إثيوبيا والحبشة وهي البلاد التي كانت تُقدّم للملِك سليمان الذهب والعاج والحجارة الكريمة. كما أنَّ الإقامة بفلسطين سوف تسهّل الاتصال بفرنسا من جانب، وإيطاليا وإسبانيا عن طريق البحر الأبيض من جانب آخَر.
ثم بدأ يتحدّث عن مزايا موقع فلسطين ومواردها، وأثَر ذلك في قوة الدولة المرتقَب ميلادها. تأمّلوا معي مليًّا ما جاء في هذا الخطاب من تحديد جغرافيٍّ للدولة، ومن دعوة اليهود الموجودين في أوربا قاطبة للعودة إلى فلسطين، ودعوة “نابليون” نفسه، واستعانته باليهود لكي يؤسِّسوا ويموِّلوا حمْلته على الشرق!
وهنا سؤال مهم جدًّا: هل بعد ذلك يصحّ لمؤرخ أن يدّعي زورًا: أن حملة “نابليون” على مصر كانت هي بداية عصر التنوير في مصر، وأنّ القصد من هذه الحملة كان هو نشر العلم والمدنية في أرض مصر؟ أظنّ بعد هذه التصريحات لم يَعُد هناك مبرِّر لتزييفٍ أكثر في تاريخ المنطقة وفي تاريخ هذه الحملة بالذات.
بعد حركة “نابليون” نجد في مَسيرتنا التاريخية الحركة القوية التي قادها رجال المال اليهود بقيادة عائلة “روتشيلد”. فقد قدّموا الأموال الطائلة لشراء الأراضي في فلسطين، وبناء المستعمرات منذ أواسط القرن التاسع عشر. وساعدهم على ذلك بعض اليهود الذين تظاهروا بالنَّصرانية حتى وصلوا إلى رئاسة الوزراء في بريطانيا، مثل اللورد “بكسون فيلد” رئيس وزراء بريطانيا في عهد الملكة “فيكتوريا”، ومثل صاحب وعد “بلفور” فإنّ أصله يهودي أيضًا.