تابع ماهية الحركة الصهيونية، والنشاط السياسي للحركة الصهيونية في أوربا وفي أمريكا بعد مؤتمر “بال”
هرتزل ودوره في تسييس الحركة:
هذه بعض الآراء التي قيلت حول تحليل الحركة الصهيونية: هل هي حركة دينية خالصة؟ هل هي حركة سياسية خالصة؟ هل هي حركة قومية خالصة؟
وقد وجدنا أنّ هذه الآراء الثلاثة مطروحة في تحليل الحركة الصهيونية، وأصبح النص الديني قاسمًا مشتركًا بين هذه التفسيرات كلّها.
تحدثنا سابقًا عن تاريخ الحركة الصهيونية، وعن طبيعة هذه الحركة، وعن الجذور الدينية التي تتشبَّث بها والتي تستغلُّها وتجعل منها أسطورة تحاول أن تسيطر بها على الأرض وتجعلَ منها شعبًا مصطفًى ومختارًا من الله على سائر العباد.
وانتهينا بحديثنا إلى القول بأنَّ المفكرين تضاربت أقوالهم أو تنوَّعت أقوالهم حول تحليل هذه الظاهرة: هل هذه الظاهرة في طبيعتها تمثِّل حركة دينية؟ هل الحركة الصهيونية حركة قومية؟ أم حركة سياسية؟ وقلنا: إنّ هذه الآراء كلٌّ منها له وجهة نظره، ويحاول أن يؤيِّد وجهة نظره بنصوص يتشبّث بها روّاد الحركة الصهيونية.
وبذلك لا نميل إلى القول بأن رأيًا معينًا هو الصواب وما عداه خطأ؛ وإنَّما نرى: أنَّ كل هذه الآراء كلّ منها له وجهة نظر، وله ما يُبرِّره في النصوص التي يستدلُّون بها على أنَّ هذه الحركة قومية أحيانًا، دينية أحيانًا، سياسية أحيانًا أخرى؛ لكنَّنا بالتأكيد نميل إلى القول بأنَّ هذه الحركة -خاصة بعدما تأسَّست بشكل رسميّ مؤسَّسيٍّ على يد “هرتزل” بدأت تأخذ شكلًا سياسيًّا قوميًّا، ورُبَّمَا تحتاجُ إلى تأييد بعض مواقفها باستغلال بعض نصوص من التوراة أو التلمود كما سوف نرى. ولذلك فإنَّ مظهر هذه الحركة على امتداد القرن العشرين، وبالتَّحديد من يوم أن ظهر على المسرح السِّياسي “تيودور هرتزل” بدأت هذه الحركة تأخذ بُعدًا سياسيًّا قوميًّا على امتداد القرن العشرين بأكمله. كما يرى المؤرِّخون أنَّ المؤسِّس الأوَّل للصُّهيونية السياسية بهذا المَعنى الَّذي نريدُه هو “هرتزل”، سواءٌ نحا هذا المنحى في كتابه الَّذي أسماه: (الدَّولة اليهوديَّة) الذي ظهر عام 1895م أو ما قرَّره في المؤتمر الأوَّل الَّذي عُقد في سويسرا في مدينة “بال” في عام 1897م. في هذين العمَلين: كتاب الدولة اليهودية، والمؤتمر الأوّل الذي عقده في سويسرا، نجِد: أنّ هذيْن العمَليْن يُمكن أن نستنتج منهما معًا الفكرَ السياسي الصهيونيَّ لهذه الحركة، الذي يهدف “هرتزل” من ورائه إلى السيطرة الكاملة على الأرض، مستغلًّا أسطورة الوعد وأسطورة الشعب، وأيضًا السيطرة على العالم من خلال خلْق ما يسمّى بالحكومة الواحدة التي تَحكم العالم. ولا غرابة في ذلك؛ لأننا نجد “هرتزل” نفسه يعترف بمحض إرادته بأنّ فكرة الصهيونية عن عودة اليهود إلى أرض فلسطين ليست جديدةً على الفكر اليهوديِّ. وهو يذكر في صحيفته: أنَّ أحد أصدقائه واسمه: “شيف” قال له في 17 يونيو 1895م: “إنَّها شيء حاول أحدُ الناس تحقيقه”؛ لكنَّ هذا الرجل كان مسيحيًّا زائفًا.
ودون أن نذهب بعيدًا، فإن نفس الموضوع قد عولج على يد كثير من الكتّاب الذين سبقوا “هرتزل” ونادوا بضرورة عودة الشَّعب إلى الأرض الموعودة من خلال لقاءاتٍ كثيرة تمّتْ قبل “هرتزل”؛ لكن الجديد على يد “هرتزل”: أنَّه صاغ القضية في شكل عبارات أشبه بالقضايا المنطقية أو القضايا الرياضية. فعندما صاغ “هرتزل” هذا الشعار: “نحن شعب، وفلسطين وطننا التاريخي الذي لا يُنسى”، فإنه لم يفعل في هذا الشعار إلا أنه تناول ما أطلق عليه هو نفسه “الأسطورة العظيمة التي نطلقها صرخة مدوِّية لتجميع قوى العالم حول الحفاظ على حقوقنا التاريخية التي ندّعيها”.
هذه القضية بهذا الشكل نقَلها “هرتزل” من بُعد دينيّ إلى بُعد سياسي. ونحن نعرف أنَّ “هرتزل” حينما التقى بالسلطان عبد الحميد أو حاول أن يلتقي بالسلطان عبد الحميد، حاول أن يأخذ منه وعدًا بتأسيس وطن لإسرائيل في أرض فلسطين. وتكلَّمنا عن هذا اللقاء بالتَّفصيل في لقاء سابق، وقلنا: إنَّ السلطان عبد الحميد رفض مقابلة الرجل، وحاول أن يُنيب عنه رجلًا من موظّفي حكومته يسمّى: تحسين. وتم اللقاء بين تحسين و”هرتزل”، وعرض عليه مغريات كثيرة تكلّمْنا عنها فيما سبق كان مِن أهمِّها تسديد الديون، وإعطاء أموال ذهبية، وإنشاء جامعة، وإنشاء سكّة حديد … إلى آخره. لكن لما رفض السلطان عبد الحميد هذه العروض، أضمر “هرتزل” في نفسه ضرورة القضاء على الخلافة العثمانية، ليتسنَّى له إقامة الدولة الصهيونية على أرض فلسطين.
وبعض المحلِّلين يرى: أن هذه الفكرة التي هيْمنت على “تيودور هرتزل” تُشبه تمامًا نفس الفكرة التي طبّقها بعضُ دعاة التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا؛ ولذلك يلمِّح أو يشير بعض الكتّاب إلى أن “هرتزل” أراد أن يطبِّق في الشرق وفي أرض فلسطين بالذات السيناريو الذي حقّقه “سيسل روديس” في أفريقيا الجنوبية. وربما أشار إلى أنّ “هرتزل” قد صرّح في بعض لقاءاته أنه متأثِّر بهذا الرجل، وأنّ مهمّة “تيودور هرتزل” هي: تطبيق نفس المنهج الذي طبّقه “سيسل روديس” في جنوب أفريقيا. ولذلك طلب “هرتزل” من “سيسل روديس” في 11 يناير 1902م مسانَدَته في تحقيق حُلمه في إقامة الدولة الصهيونية على أرض فلسطين كما فعل هو في جنوب أفريقيا. ولذلك أرسل له يقول: “أرجوك أرسل إليّ نصًّا يقول: إنك فحصت برنامَجي، وإنك توافق عليه، وإنه يتوافق إلى حد كبير مع برنامجك الذي احتللْت به جنوب أفريقيًا”.
وعلى ذلك استطاع “هرتزل”، بناءً على هذا التفكير: أن ينظِّم المؤتمر الصهيوني الأول في “بال” 1897م. وكان يحلم بأن يعقده في “ميونِخ”، غير أنّ كثيرًا من المفكِّرين المعاصرين له عارضوا هذا الأمر، ورأوا أن يعقد في “بال” بسويسرا. وترتّب على هذا المؤتمر: أن صاغ “هرتزل” برنامجًا كبيرًا جدًّا يمكن أن يسمّى ببرنامج “بال”، أو يسمّى: ورقة عمل لـ”هرتزل”، أو ورقة العمل للمنظمة الصهيونية العالمية خلال القرن العشرين. وفعلًا يمكن أن يسمّى هذا: “ورقة عمل”؛ ففي أغسطس 1897م افتتح “هرتزل” مؤتمر “بال” ووضَع برنامجه للتنظيم الصهيوني العالمي على النحو الآتي:
افتتحه بقوله: “إنَّ الصهيونية تستهدف أن تُنشئ للشعب اليهودي وطنًا في فلسطين، مضمونًا بوساطة القانون العام”. القانون العام هنا ربما يشير به إلى ما ظهر فيما بعْد بالأمم المتحدة ومجلس الأمن، أو قانون الدولة العظمى التي كانت مسيطرة في هذا الوقت وهي: بريطانيا العظمي التي كانت لا تغيب عنها الشمس كما يقولون؛ ولذلك نجد: أن هذا القانون العام تمثّل تمامًا في احتضان بريطانيا للحركة الصهيونية قبل الحرب العالمية الأولى وأثناء الحرب العالمية الأولى إلى أن تمخَّض عنها وعد “بلفور” 1917م.
وكتب “هرتزل”: “إنَّ تحقيق هذا الهدف يتطلّب الآتي”. ووضع مجموعة من الخطوات التي يراها ضرورية لإنشاء هذا الوطن القومي في فلسطين:
أولًا: نادى بتطوير استعمار فلسطين على أحسن وجْه، وأرشد إلى ضرورة تهجير المزارعين والمهنيِّين والتجار اليهود وأصحاب رءوس الأموال، لتكتمل دائرة الحركة اليومية في استصلاح الأرض وزراعتها والتجارة بالمنتجات الزراعية.
ثانيًا: ثم نادى بتنظيم يهودي في كلّ دولة أوربية، وأن هذا التنظيم ينبثق عنه مجلس قومي يهودي في كل بلد أوربي، تكون مهمّته: تقوية الشعور القومي لدى اليهود المقيمين في هذا البلد أو ذاك. وحثّهم على ضرورة الهجرة إلى أرض فلسطين: أرض الميعاد، أرض الأجداد، الأرض المقدّسة.
ثالثًا: ثم المناداة بتنظيم اليهود وتوحيدهم على مستوى العالم في شكل مجلس عالمي، هيئة عالمية، وكالة دولية تجمع شتات اليهود في أنحاء العالم؛ حتى إذا ما احتاج إليه الأمر يمكن الوصول إليهم في أيّة بقعة من العالم.
رابعًا: ثم تقوية الشعور القومي عند اليهود وتوعيتهم بأنهم قومية مفضّلة، وأنهم شعب مختار، ولهم حقوق إلهية على العالم.
خامسًا: ثم ضرورة المساعي التحضيرية للحصول على موافقة الحكومات التي هي ضرورية لبلوغ الهدف لبناء الدولة الصهيونية. ومهمّة الحصول على موافقة الحكومات تُناط بالمجالس اليهودية التي تؤسَّس في هذه البلاد.
وقد ظلَّ هذا البرنامج دستور الحركة الصهيونية حتى عقد المؤتمر الثالث والعشرين الصُّهيوني عام 1951م؛ حيث صيغت الأهداف بطريقة جديدة، وصيغ هذا البرنامج تحت عنوان: برنامج أورشليم الذي أعقب برنامج “بال”.
يمكن أن نستوعب الفترة أو المساحة الزمنية بين المؤتمر الصهيوني الأوّل على يد “هرتزل” والمؤتمر الصهيوني الثاني بعد تأسيس الدولة وميلاد الدولة الذي عُقد في أورشليم سنة 1951م، ونتأمّل ماذا وقع في هذه الفترة الزمنية من 1897م إلى 1951م. نلاحظ ما يأتي:
أ. تمّ إسقاط الخلافة العثمانية.
ب. تم وضْع معظم أو جميع البلاد العربية باستثناء المملكة العربية السعودية تحت الاحتلال. فاحتلت بريطانيا: الأردن، فلسطين، العراق، مصر، السودان، والإمارات المطلّة على الخليج العربي. واحتلت فرنسا: المغرب، الجزائر، تونس، سوريا، ولبنان. واحتلت إيطاليا ليبيا. لو وضعت أمامك الخريطة الجغرافية للوطن العربي، لأبصرتها كلّها واقعة تحت الاحتلال الأوربي في الفترة ما بين مؤتمر “بال” الأول ومؤتمر أورشليم الثاني.
وفي خلال هذه الفترة الزمنية أيضًا، عليك أن تتذكر أنه تمّ ما يسمى بالاتفاق الوِدِّي بين فرنسا وبريطانيا، وتم توقيع ما يسمّى بمعاهدة (سايكس بيكو)، وتمّت الحربان العالميتان التي انتهت الأولى منهما بوعد “بلفور”، وانتهت الثانية منهما بميلاد الوطن القومي لليهود عام 1948م.
هذه أمور ينبغي أن نضعها أمامنا لنعرف كيف تتحرّك الصهيونية، وكيف نظّمت نفسها، وكيف بلْورت أهدافها، وكيف تُعدّ البرنامج إثر البرنامج خطوة خطوة؛ لتصل في النهاية إلى تحقيق هذا الهدف الذي تسعى إليه.
إذا كانت هذه الخطوات تتعلق ببرنامج “بال” على يد “هرتزل”، فقد صيغ برنامج أورشليم على النحو التالي: إن أهداف الصهيونية هي وحدة الشعب اليهودي على أن تكون إسرائيل مركزه وحياته وموطن تجمّع الشعب اليهودي، واعتبارها وطنًا تاريخيًّا، واعتبار أنّ الهجرة إليها من جميع البلاد عمل إلهيّ تنفيذًا لوعد الرب؛ لأن ذلك يعمل على تقوية دولة إسرائيل المؤسسة على المُثل العليا النبوية للعدالة والسلام. ولا بد من المحافظة على شخصية الشعب اليهودي، وتطوير التربية اليهودية، عن طريق تعليم اللغة العبرانية والآداب اليهودية، وإحياء الأساطير الشعبية المبثوثة في ثنايا التوراة، وكذلك بالقيم والثقافة اليهودية حماية لحقوق اليهود في كل مكان.
ولا ننسى أن “هرتزل” قد قَبِلَ في مؤتمر “بال” بنوع من المواءمة بين صيغة “وطن قومي” في فلسطين، ولم تتردّد كلمة: “دولة يهودية”؛ لكن نحن وجدنا في المؤتمر الثاني كلمة: “دولة يهودية” التي هي عنوان كتاب “هرتزل” نفسه، كأنَّ الكتاب الذي وضعه “هرتزل” حمل معه عنوان الدولة، مع أنه في قانونه أو في برنامجه قال: “وطن قومي لليهود”.
ونريد من هذا: أن نستشعر ضخامة العمل الذي قام به هذا الرجل في غيبة من الوعي العربي، بل في حضور من الخلافات العربية ونسيان ما يُسمّى بالهويّة العربية والهويّة الإسلامية التي تمثّل جدار الصد لهذا الهجوم الصهيوني على العالم العربي. ونجد أن التعبير بكلمة: “وطن قومي” أو “دولة” أخذ شكلًا أشبه باللعبة الفلكلورية بين كُتاب الحركة الصهيونية. ففي حين أن “هرتزل” طالب بإقامة وطن قومي، وأنّ وعد “بلفور” طالب بإنشاء وطن قومي، إلّا أنه قد بذلت جهود كثيرة لإقناع هؤلاء بأن المطلوب هو: دولة يهودية في فلسطين. ولكن صرّح “هرتزل” بقوله: “إننا يجب أن نلجأ إلى التعمية للتعبير عنها في صيغة تتحاشى أن تثير قادة الأتراك في الأرض التي نطمع فيها، واقترحنا عبارة: “وطن قومي” مرادفة لكلمة: “دولة”؛ لأن “وطن” يعني: قطعة نقيم عليها وطنًا، أمّا كلمة “دولة” فتعني من الاتساع ما تعنيه حسب تفسيرات المجتهدين والمفسِّرين والمحلِّلين السياسيِّين.
ولذلك نجد أن هذه الصيغة الغامضة كانت تعني لدى “هرتزل” واقعًا محدّدًا أعلنه للناس، ولكنها في نفس الوقت لم تكن هي الغاية التي يسعى إليها “هرتزل”؛ فقد كتب في صحيفة 3 سبتمبر 1897م في صحيفته التي كان يتولّى رئاستها: “إنه إذا كان واجبًا أن ألخِّص أعمال المؤتمر في كلمة واحدة، كنت أمسكت عن نطقها علنًا. فهذه الكلمة هي: أنني في “بال” أسّست الدولة اليهودية، بيْد أن هذا شيء لا يقال بصوت عال”. إلى هذا الحد كان يعلن شيئًا ويضمر شيئًا آخَر.
ونفس القضية في وعد “بلفور”: فإن نفس الصيغة هي كانت إنشاء وطن قومي لليهود التي قد قيلت في مؤتمر “بال”، لكن الإعلان النهائي لـ”بلفور” فإنه لم يتكلم عن كل فلسطين، بل عن إقامة وطن قومي فقط للشعب اليهودي. والواقع أن العالَم كلّه استعمل كلمة “وطن” في هذه المرحلة، لكن ترجم فيما بعد على أنّ كلمة “دولة” هي المقصود، وأن هذا ما كان يعنيه “هرتزل”.
وكتب كثيرون حول تحليل هذه الظاهرة، وكلمة “وطن” استُبدل بها كلمة “دولة” في تاريخ ميلاد إسرائيل 1948م، وأصبحت هذه الدولة معترفًا بها عالميًّا الآن، مع أن المقصود في الطلبات التي قُدِّمت للخلافة العثمانية هي: “وطن قومي”، ووعد “بلفور” كان “وطنًا قوميًّا”، ولم يكن المصرّح به أو المعلن كلمة: “دولة لليهود”.
من المهمّ: أن نلقي الضوء أيضًا على النشاط السياسي للحركة الصهيونية في أوربا وفي أمريكا بعد مرحلة مؤتمر “بال”؛ لأن تقريبًا نحن نعتبر بأن هذه الفترة الزمنية من وجهة نظر المؤرخين لدولة إسرائيل وللحركة الصهيونية العالمية تُعتبر هي أخصب الفترات في تاريخ الحركة الصهيونية العالمية؛ بل ربما يرى البعض أنّ هذه الحركة قد وصلت إلى نهايتها وبدأت فيما يسمّى بالانحدار أو الانهيار التاريخي.
نجد أن تفرّق اليهود في بلدان أوربا، وأنّ ما أشار به “تيودور هرتزل” في مؤتمره من ضرورة تأسيس مجالس يهودية في بلاد أوربا، تكون مهمتها: العمل على الحصول على موافقة الحكومات المعنيّة على ما نريده منها من مساعدات، وفي نفس الوقت تنمية الشعور اليهودي لدى المواطنين اليهود في هذه البلاد، ثم محاولة الزحف الهادئ المنظّم للاستيلاء على مناصب قيادية سياسية وثقافية في هذه البلاد. وهذا ما تمّ فعلًا في معظم بلاد أوربا وأمريكا بلا استثناء؛ ولذلك أرى من الضروري أن نلقي الضوء على مدى تغلغل النفوذ الصهيوني؛ تنفيذًا لبرنامج “هرتزل” الذي تمخّض عنه مؤتمر “بال” 1897م. وسوف نمرّ على بعض البلاد الأوربية بشيء من الإيجاز، لنرى كيف تسللت الصهيونية إلى مناطق التأثير في هذه البلاد.
ففي بريطانيا مثلًا، تسللت الحركة الصهيونية في أجهزة الحُكم حتى كان منهم رئيس الوزراء “دزرائيل” في عهد الملِكة “فيكتوريا”. كما استطاعوا أن يحصلوا على الأغلبية في عضوية مجلس الشورى للبلاط الملكي البريطاني، فضلًا عن مجلس العموم، ومجلس اللوردات، والمجالس البلدية، والجمعيات الخيرية، والأحزاب السياسية في بريطانيا، كما استطاعت الصهيونية مع مطلع القرن العشرين: أن يُسيطروا على مقدّرات البلاد الاقتصادية متمثلة في البنوك، والشركات الصناعية والتجارية، والمناجم، وأسهم شركات البترول على سبيل المثال في إيران والعراق والكويت.
وفي مجال الصحافة في بريطانيا، وجدْنا أنّ جريدة (تايمز) اللندنية أُسِّست عام 1788م بمال يهودي، ولم تَخْل منذ تأسيسها حتى الآن من صهاينة يحتلّون بها مراكز متقدمة. وقد أخذت تلك الجريدة -بعد أن آلت إلى شركة مالية كان أبرز أعضائها من اليهود- على عاتقها مهمّة الترويج للفكر الصهيوني على مستوى العالم كلِّه. كما أنشأ اليهود جرائد “الديلي تلجراف” في عام 1855م، واشتراها اليهوديان: “ليفي” و”ليفي لاوش”. هذا في بريطانيا استولوا على الصحافة، استولوا على البنوك، استولَوْا على شركات الأموال. تسلّلوا إلى مناطق التأثير السياسي من خلال المناصب القيادية كمنصب رئيس الوزراء، وعضوية مجالس الشيوخ، ومجالس العموم، ومجالس اللوردات؛ بحيث كانوا أغلبية حتى إذا حدث تصويت على أيّ شيء يستطيعون أن يكونوا بأصواتهم أغلبية أو يؤثروا ليحصلوا على الأغلبية.
في فرنسا مثلًا، وجدنا أن اليهود قد لعبوا دورًا بارزًا في قيام الثورة الفرنسية، سواء تحت ستار الماسونية العالمية والشعارات التي رفعوها حينذاك شعار: حرية، إخاء، مساواة، وكان تمويل هذه الثورة بواسطة اليهود من إنجلترا، منهم على سبيل المثال: “بنيامين جولد سميد” وأخيه “أبراهام” و”موسى” وصهره السير “موسى مونتفري”. ومن ألمانيا جمعوا لها أموالًا يهودية من هناك، وبدأ تغلغل الحركة الصهيونية في مناصب الدولة في فرنسا حتى وجدنا في النصف الأول من القرن العشرين عدّة مناصب مهمّة تولاها أفراد ينتمون إلى الحركة الصهيونية السياسية بفكرهم وأعمالهم. ووجدنا رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزراء، ورئاسة الحزب الشيوعي، وكثيرًا من الوزارات يتولاها أفراد ينتمون إلى الفكرة الصهيونية. هذا في مجال السياسة في فرنسا.
في مجال الصحافة، أنشأت الحركة الصهيونية عدّة صحف ركّزت على تضليل الرأي العام فيما يتّصل بحركة اليهود في أرض فلسطين، وإظهار أن اليهود مغلوبون على أمرهم، وأنهم مستضعفون في الأرض، وأنهم مطرودون، وأن العرب يعاملونهم بقسوة و … و … إلى آخره. وزيّنت بعضَ الأشخاص حتى تولّوا مناصب حسّاسة خدموا من خلالها الحركة الصهيونية في فرنسا. واستطاعت هذه الحركة أن تحوّل باريس إلى مدينة الترف واللهو والدّعارة. وكثرت فيها بيوت الأزياء والخمارات باعتبار أن هذا اللون من السلوك أفضل وسيلة من وجهة نظر الصهيونية، ليستذلّوا من خلالها الشخصيات السياسية والقادة والمسئولين بصورة غير مباشرة. وعن طريق الإغراء بالمرأة من خلال هذه الوسائل، كسروا أعناق كثير من المشتغلين بالفكر السياسي في فرنسا.
إذا انتقلنا إلى ألمانيا، نجد أنّ اليهود تمكّنوا من مناصب حسّاسة وبخاصة في الوزارات، كما لعبوا دورًا مهمًّا في هزيمة ألمانيا في الحرب الأولى؛ لأنها لم تستطع أن تعطيَهم فلسطين وطنًا خالصًا لهم في الحرب العالمية؛ ولأن “هتلر” أراد أن يطهِّر ألمانيا من سلطة الصهيونية، ولم ينسوا موقف “هتلر” والساسة الألمان من الحركة الصهيونية، وحركة المحارق والأفران التي نصبها لهم “هتلر”، وموقف الحركة النازية من اليهود. ونستطيع أن نقول: إن هناك أكثر من وزارة في ألمانيا كان يهيمن عليها أفراد صهاينة. وزارة المالية كان يهيمن عليها “شفرو برنشتين”، وزارة الداخلية هيمن عليها “بروس فرند”، وزارة العدل كانت يهودية مائة في المائة. وفي مقاطعات أخرى من ألمانيا، كانت الحركة الصهيونية تسيطر عليها بكثير من أبنائها.
في روسيا لم تغمض أعين الصهيونية عن المدّ الروسي في القرن العشرين، ولذلك أخذت تعمل في أحضان القيصرية الروسية على نشر الفكر الصهيوني في ربوع روسيا. وعملوا على قلب نظام الحكم ونسبة ذلك إلى اليهود حتى يتحقق لهم ما يريدون. وكانت لهم يد طولى في الثورة البلشفية سنة 1917م. وتولّى زمام الحُكم في هذه البلاد اليهود لفترة من الزمن. ونستطيع أن نرصد في الأيام الأولى للانقلاب العسكري عدد الوزراء الصهاينة الذين تولَّوا هذه المناصب في الاتحاد السوفيتي أو روسيا آنذاك، حتى إنَّه لم يمض عامٌ على الانقلاب البلشفي في سنة 1917م حتى وجدنا نفوذ اليهود في روسيا على النحو الذي يلفت النظر؛ بحيث نجد أنّ أوّل حكومة بعد الثورة مباشرة كان عدد وزرائها 22 وزيرًا كان منهم 17 صهيونيًّا، وكانت لجنة الشئون الداخلية 64، كان منهم 45 صهيونيًّا. لجنة الشئون الخارجية كانوا 17، كان منهم 13 صهيونيًّا. لجنة الشئون المالية 30 عضوًا، منهم 26 صهيونيًّا. ولو أخذنا نستقرئ اللجان الحزبية في الحزب الشيوعي الروسي واللجان الداخلية لهذا الحزب، نجد أنَّ معظم لجان هذا الحزب كانوا إمّا يهودًا وإمّا صهاينة، لنعلم مدى تغلغل النفوذ الصهيوني في الاتحاد السوفيتي.
وقد كتب بعض المحلِّلين لهذه الظاهرة: أنّ نسبة اليهود في الوظائف المهمّة في روسيا كانت نحو 80% من الوظائف. وظلَّ هذا النفوذ اليهودي الصهيوني قائمًا في روسيا حتى أسقطها “غورباتشوف” في نهاية القرن العشرين. وما زال نفوذ الصهيونية قائمًا فيها حتى الآن.
وما نلاحظه من تأييد لبعض الحقوق العربية، أو بعض الحقوق الفلسطينية، أو محاولة إظهار العداء لإسرائيل، أو معارضتها في مجلس الأمن، ما هو إلا ضرب من التضليل للرأي العام، وللتمكين للنفوذ الشيوعي في بلاد العرب، ولاستنزاف موارد المسلمين من ناحية، حتى إذا كُشف النقاب تبين حقيقة الموقف الروسي، فلا ننسى أبدًا أنها الدولة الأولى التي اعترفت بإسرائيل لحظة ميلادها بعد أمريكا مباشرة؛ بل إن البعض يرى أنها اعترفت بميلاد الدولة الصهيونية قبل أمريكا. هذا في روسيا.