تابع مراحل الدعوة الإسلامية، وأقسام الكفار بعد الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
أ. مراحل الدعوة، والإذن بالقتال:
روى البيهقي وغيره عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: “لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة، وشمّروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم من كل جانب، حتى كان المسلمون لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: تُرى نعيش حتى نبيت مطمئنين لا نخاف إلا الله عز وجل؟” فأنزل الله عز وجل قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [ النور: 55].
وكانت اليهود والمشركون من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأمرهم الله سبحانه وتعالى بالصبر والعفو والصفح، فقال عز وجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور} [آل عمران: 186]، {فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور} أي: قطعه قطع إيجاب وإلزام.
وقد قال الله عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة: 109] أي: أن محمدًا رسول الله يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ } أي: الإذن بقتالهم.
قال العلماء: لما قويت الشوكة واشتد الجناح، أذن الله عندئذ في القتال للمسلمين، ولكنه لم يفرضه عليهم، فقال سبحانه وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز} [الحج: 39، 40]، {أُذِنَ لِلَّذِينَ} يعني: رخص، وقد وعدهم بالنصر كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم.
ويقول العلماء: ثم فُرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم فقط، قال عز وجل: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِين} [البقرة: 190]، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة حتى يكون الدين لله، قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} أي:جميعًا {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} [التوبة: 36]. وقال -عز من قائل-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} [البقرة: 216]، وكان القتال محرمًا، ثم صار مأذونًا فيه، ثم مأمورًا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورًا به لجميع المشركين.
وروى الإمام أحمد، والترمذي وغيرهم: أن أول آية نزلت في القتال هي قول الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} ، وعن أبي هريرة، وغيره رووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويؤتوا الزكاة، ويأكلوا ذبيحتنا، ويصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك؛ فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وحسابهم على الله، قيل: وما حقها؟ قال: زنًا بعد إحصان، أو كفر بعد إسلام، أو قتل نفس فيُقتل بها)).
ب. أقسام الكفار بعد الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ثم كان الكفار معه صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ثلاثة أقسام:
القسم الأول: صالحهم، ووادعهم على ألّا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم.
القسم الثاني: حاربوه ونصبوا له العداوة.
القسم الثالث: تركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يئول إليه أمره، وأمر أعدائه، ثم من هؤلاء من يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصاره، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن؛ ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون، فعامل صلى الله عليه وسلم كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه سبحانه وتعالى فصالح يهود المدينة، وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، فنقض العهد الجميع، وكان من أمرهم ما سيعرض له العلماء عند دراستهم لموضوع الغزوات -إن شاء الله.
أما أهل العقد والصلح؛ فقد أمره الله سبحانه وتعالى أن يقيم لأهل العقد والصلح بعهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنبذ العهد، وأمره أن يقاتل من نقض عهده، ولما نزلت سورة براءة، نزلت ببيان هذه الأقسام كلها، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يقاتل الكافرين حتى يعطوه الجزية، أو يدخلوا في دين الإسلام، وأمره بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة والبرهان.
وأمره عز وجل في سورة براءة أيضًا بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عهودهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام:
الأول: قسم أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له.
الثاني: قسم لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم.
الثالث: قسم لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، وكان لهم عهدٌ مطلق، فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت الأربعة قاتلهم، وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله عز وجل: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]. فـ {الْحُرُمُ}هنا هي أشهر التسيير، أولها: يوم الأذان وهو العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها: العاشر من ربيع الآخر، وليست هي الأربعة المذكورة في قوله عز وجل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]. فإن تلك واحدٌ فردٌ، وثلاثةٌ سردٌ: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ولم يُسَير المشركين في هذه الأربعة، فإن هذا لا يمكن؛ لأنها غير متوالية، وإنما هو أجّلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم، فقاتل الناقض لعهده، وأجل من لا عهد له، أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته؛ فأسلم هؤلاء كلهم، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم، وضرب على أهل الذمة الجزية.
استقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصار الكفار قسمين: أهل ذمة آمنون، وأهل حرب وهم خائفون منه، وصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب.