تاريخ الكعبة المشرّفة، ومكانتها عند العرَب
ومِن المُناسب جدًّا، أنْ نذكر تاريخ الكعبة المشرَّفة، قِبْلة الموحِّدين عبر العصور والدهور.
نُبذة عن فضائل الكعبة المُشَرَّفة وتاريخها:
لقد جعل الله -تبارك وتعالى- البيتَ مثابةً للناس، وأمنًا للخائفين، وجعله قِبلة للموحدين مِن لدُن آدم إلى أنْ يرِثَ الله الأرض ومَن عليها.
واختُلف فِي أوَّل مَنْ قام ببناء الكعبة المشرَّفة، ويتحصَّل ممَّا قِيل فِي بنائها عبْر التاريخ: أنها بُنيت عشْر مرَّات:
المرة الأولى: بناء الملائكة لها:
ذكر الأزرقي فِي (تاريخ مكة): أنَّ الملائكة هم أوَّل مَنْ بنى الكعبة، قبْل خلق آدم بألْفَي عام.
وذكَر أنَّ الله -تبارك وتعالى- أمَر ملائكته وقال لهم: ابنوا لي بيتًا فِي الأرض بمثاله -أي: البيت المعمور- وبقدْره، فأمر الله تعالى مَنْ فِي الأرض مِن خلْقه أنْ يطوفوا بهذا البيت كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.
المرة الثانية: بناء آدم للكعبة بعْد هبوطه مِن الجَنَّة:
اختُلف فِي المكان الذي أُهبط فيه آدم: فقِيلَ: بالهند، وقِيلَ: بسرنديب. وحواء بجدة. وروي أنه لما أُهبط قال: يا رب، ما لي لا أسمع أصوات ملائكتك ولا حسَّهم؟ قال الله تعالى: خطيئتك يا آدم، ولكن اذهب، فابن لي بيتًا وطُف به، واذكرْني حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي، فذهب آدم عليه السلام إلى مكة، فبنى البيت الحرام مِن خمسة أجبل مِن لبنان، وطور زينا “جبل بالقدس”، وطور سيناء، والجودي -يطلُّ على الفرات، وهو الذي رست عليه سفينة نوح، عليه السلام- وجبل حراء.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: “وكان أوَّل مَنْ أسَّس البيت وصلَّى فيه وطاف: آدم عليه السلام وكان طواف آدم سبعة أسابيع باللَّيل، وخمسة أسابيع بالنَّهار”.
وكان مِن دعاء آدم عليه السلام عند الملتزم: “اللهم إنك تعْلم سِرِّي وعلانيتي؛ فاقبلْ معذرتي، وتعلَم ما فِي نفسي وما عندي؛ فاغفر لي ذنوبي، وتعْلم حاجتي؛ فأعطني سؤلي، اللهم إني أسألك إيمانًا يُباشر قلبي، ويقينًا صادقًا حتى أعلم أنه لن يُصيبني إلا ما كتبتَ لي، والرِّضى بما قضيت عليَّ”.
فأوحى الله تعالى إليه أنه أجاب دعوته، ولن يدعوه أحَد من ذريته بهذا الدعاء إلا أجابه. وهذا الدعاء موقوف على عبد الله بن أبي سليمان.
المرة الثالثة: بناء أولاد آدم لها:
فقد ذكر البيْهَقِيُّ والسُّهيليُّ فِي كتابه (الروض الأُنف): أنَّ أوَّل مَنْ بناها: شيث بن آدم عليه السلام، وقال الفاسي فِي كتابه (شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام): ولعل السبب عند مَنْ قال: إن شيثًا أوَّل مَنْ بنى الكعبة: كون بنائه كان بالطين والحجارة، بخلاف بناء آدم، فإنه كان بناء الأساس وضع عليه الخيمة التي كان يطويها.
المرة الرابعة: عمارة الخليل عليه السلام:
وهذا البناء ثابتٌ بالقرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة. ونقل الأزرقي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “أنَّ أوَّل مَنْ بنى الكعبة هو: إبراهيم الخليل عليه السلام”، وجزم بذلك ابن كثير وقال: لم يجئ خبر عن المعصوم أنَّ البيت كان مبنيًّا قبل الخليل.
وقال فِي (سبل الهدى والرشاد): وفي كلام ابن كثير نظرٌ، للآثار التي تدلُّ على بناء الملائكة وآدم لها.
المرة الخامسة والسادسة: عمارة العماليق، ثم جُرهم:
روى الأزرقي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: “أوَّل مَنْ بنى البيت إبراهيم، ثم انهدم، فبَنتْه جُرهم، ثم العماليق. ثم هُدم، فبنتْه قريش”.
وقال الفاسي فِي (شفاء الغرام): هذا يقتضي أن جُرهمًا بَنَتْ البيتَ قبل العمالقة، ورجَّح المحبُّ الطبري فِي (القرى): أنَّ بناء العمالقة للبيت كان قبل جُرهم.
وقال السهيليُّ فِي (الروض الأنف): قِيلَ: بأنه بُنِيَ فِي أيام جُرهم أكثر مِن مرة.
المرة السابعة: عمارة قصيِّ بن كلاب، جَدُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:
ذكر الزبيرُ بن بكار فِي كتابه (نسبُ قريش)، عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود، قال: بلغني أنَّ قصيَّ بن كلاب بنى الكعبة بعد بناء إبراهيم، ثم بنتْه قريش.
وبذلك جزم الماوردي فِي كتابه (الأحكام السلطانية)، قال: فكان أوَّلُ مَنْ جدَّدَ بناء الكعبة مِن قريش بعد إبراهيم عليه السلام قصيَّ بن كلاب، وسقفها بخشب الدوم وجريد النخل.
المرة الثامنة: عمارة قريش لها:
وذلك ثابت فِي السُّنَّة النبويَّة الشريفة، وقد حضره صلى الله عليه وسلم وعُمره خمس وثلاثون سنةً؛ وهو قول محمد بن إسحاق، وقِيلَ: ابن خمس وعشرين، وهو قول موسى بن عقبة صاحب (المغازي). وقِيل غير ذلك… وسيأتي تفصيل ذلك -إن شاء الله تعالى- عندما نتناول حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة والأعمال التي قام بها.
المرة التاسعة: بناء عبد الله بن الزبير لها:
وذلك بسبب الوهْنِ الذي أصابها مِن جراء حجارة المنجنيق سنة (64هـ)، التي كانت تُضرب بها من قِبل الجيش الذي أرسله يزيد بن معاوية لقتل عبد الله بن الزبير الذي رفض بيْعة يزيد، فلما رفع عنه الحصار، قام بهدم الكعبة، وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام وأدخل فيها ما أخرجته قريش بسبب تقصير النفقة عندها، وجعل ابن الزبير للكعبة بابيْن، وكان ذلك سنة خمس وستين.
وقد اعتمد ابن الزبير على حديث عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: ((لولا أنَّ قومكِ حديثو عهدٍ بالجاهلية لهدمْتُ الكعبة، وألزقْتها بالأرض، وجعلتُ لها بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا، ولزِدْتُ ستَّة أذرع مِن الحِجر فِي البيت؛ فإنَّ قريشًا استقْصرت ذلك لمَّا بنَت البيْت)). الحديث أخرجه الإمام مسلم.
المرة العاشرة: عمارة الحَجَّاج بن يوسف:
وذلك بعد قتْل عبد الله بن الزبير سنة (73هـ)، أمَر عبدُ الملك بن مروان الحَجَّاج بهدْم الكعبة، وإعادتها على بناء قريش والوضع الذي كانت عليه فِي زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن علان أنَّ الكعبة تداعت وسقطت بسبب السِّيُول، فبناها السلطان مراد خان العثماني سنة (1040هـ).
الحَجَر الأسود:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الحَجَرَ وَالمَقَامَ يَاقُوْتَتَانُ مِنْ يَاقوتِ الجنَّةِ، طمَسَ اللهُ نُوْرَهُمَا؛ ولَوْلَا أنْ طَمَسَ نُوْرَهُمَا لَأضَاءَ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ)). أخرجه الإمام أحمد فِي مسنده.
وفي حديث آخر عن عبد الله بن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نزل الحجر الأسود مِن الجنَّة وهو أشدُّ بياضًا مِن اللَّبَنِ، فسوَّدتْه خطايا بني آدم))، أخرجه الترمذي.
وروى الدارمي فِي مسنده: ((أنَّ الحجَرَ يَشهد يوم القيامة لِمن استلَمه بحقٍّ)).
وأخرج البخاري ومسلم: ((أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يُقبِّل الحجَر ويَسْتلمه))، وروي كذلك: ((أنَّه سَجَد عليه))، كما فِي الترمذي، وعن ابن عباس قال: “الحجر الأسود يَمينُ الله فِي الأرض”.