Top
Image Alt

تتمة الحديث عن: ما جاء في رضاعة الكبير

  /  تتمة الحديث عن: ما جاء في رضاعة الكبير

تتمة الحديث عن: ما جاء في رضاعة الكبير

عن ابن جريج قال: أُخْبرتُ أنّ عمر بن الخطاب رضي الله  عنه جاءه أعرابي فقال: إنّ امرأتي قالت: خفّف عني من لبني، قال: أخشى أن يُحرّمك علي، قالت له: لا، فخفّف عنها ولم يدخل بطنه، وقد وجد حلاوته في حلقه، فقالت: اعذب، ومعنى اعذب أي: ابتعد عني ولا تقربني، فقد حرمت عليك، فقال عمر رضي الله  عنه: هي امرأتك، فاضربها.

ومنها: عن عبد الله بن عمر قال: ((جاء رجل إلى عمر، فقال: كانت لي وليدة وكنت أطأها، فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها، فدخلت عليها، فقالت: دونك، فقد والله أرضعتها، فقال عمر: أوجعها وَأْتِ جاريتك، فإنما الرضاع رضاع الصغير)).

قال الجمهور -أصحاب الحولين: قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] قالوا: فجعل تمام الرضاعة حولين، فدلّ على ألّا حكم لما بعدهما، فلا يتعلّق به التحريم. قالوا: وهذه المدة هي مدة المجاعة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه  وسلم، وقصر الرضاعة المحرمة عليها. قالوا: وهذه مدة الثدي، الذي قال فيها صلى الله عليه  وسلم: ((لا رضاع إلا ما كان في الثدي)) أي: في زمن الثدي، أي: في وقت الرضاعة قبل الفطام.

قالوا: وأُكّد ذلك بقوله صلى الله عليه  وسلم: ((لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان في الثدي قبل الفطام)) فهذه ثلاثة أوصاف للرضاع المحرّم، ومعلوم أن رضاع الشيخ الكبير عارٍ من هذه الأوصاف الثلاثة، قال الجمهور: وأصرح من هذا حديث ابن عباس رضي الله  عنهما قال: ((لا رضاع إلا ما كان في الحولين)) قالوا: وأكّد هذا أيضًا حديث ابن مسعود رضي الله  عنه: ((لا يحرم من الرضاعة إلّا من أنبت اللحم وأنشز العظم)) وقد تقدّم هذا الحديث.

ومن المعلوم أنّ رضاع الكبير لا ينبت لحمًا، ولا ينشز عظمًا، قال الجمهور أيضًا: ولو كان رضاع الكبير محرّمًا؛ لما قال النبي صلى الله عليه  وسلم لعائشة، وقد تغيّر وجهه، وكره دخول أخيها من الرضاعة عليها، لمّا رآه كبيرًا، فقال صلى الله عليه  وسلم: ((انظرن من إخوانكنَّ)) فلو حرم رضاع الكبير لم يكن فرق بينه وبين الصغير، ولما كره ذلك، وقال صلى الله عليه  وسلم: ((انظرن من إخوانكن))، ثم قال: ((فإنما الرضاعة من المجاعة)) وتحت هذا من المعنى، خشية أن يكون قد ارتضع في غير زمن الرضاع، وهو زمن المجاعة، فلا ينشر الحرمة، فلا يكون أخًا.

هذا ما ذهب إليه الجمهور في هذه المسألة، ولكن ذهبت طائفة إلى أن رضاع الكبير يثبت به التحريم، وقد قال بذلك عائشة رضي الله  عنها، ويُروى عن عليّ -كرم الله وجهه- وعن عروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، وهو قول الليث بن سعد، وبه قال ابن حزم الظاهري، واستدلوا على ذلك بحديث سهلة بنت سهيل، وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الرضاع باب رضاعة الكبير، كما أخرجه أيضًا أبو داود في سننه في كتاب النكاح، وأخرجه أيضًا النسائي في كتاب النكاح باب رضاع الكبير، كما أخرج هذا الحديث ابن ماجه في كتاب النكاح، كلهم عن عائشة رضي الله  عنها قالت: ((جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه  وسلم فقالت: يا رسول الله، إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم، وهو حليفه، فقال النبي صلى الله عليه  وسلم: أرضعيه، قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسّم رسول الله صلى الله عليه  وسلم وقال: قد علمت أنه رجل كبير)). زاد عمرو في حديثه: ((وكان قد شهد بدرًا)) وفي رواية ابن أبي عمر ((فضحك رسول الله صلى الله عليه  وسلم)).

وعن عائشة أنّ سالمًا مولى أبي حذيفة، كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فأتت -تعني: ابنة سهيل- النبي صلى الله عليه  وسلم فقالت: ((إنّ سالمًا قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوه، وإنّه يدخل علينا، وإني أظنّ أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئًا، فقال لها النبي صلى الله عليه  وسلم: أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة، فرجعت، فقالت: إني قد أرضعته، فذهب الذي في نفس أبي حذيفة)).

وعن زينب بنت أم سلمة قالت: قالت أم سلمة لعائشة رضي الله  عنها: ((إنّه يدخل عليك الغلام الأيفع)) الأيفع: هو الذي قارب البلوغ ولم يبلغ، وجمعه أيفاع، وقد أيفع الغلام ويفع وهو يافع، قالت: ((إنه يدخل عليك الغلام الأيفع، الذي ما أحبّ أن يدخل عليّ، قال: فقالت عائشة: أما لك في رسول الله صلى الله عليه  وسلم أسوة، قالت: إنّ امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله، إن سالمًا يدخل عليّ، وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه  وسلم: أرضعيه حتى يدخل عليك)).

عن زينب بنت أبي سلمة تقول: سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه  وسلم تقول لعائشة: ((والله ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغنى عن الرضاعة، فقالت: لِمَ؟ قد جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه  وسلم فقالت: يا رسول الله، إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه  وسلم: أرضعيه، فقالت: إنه ذو لحية، فقال: أرضعيه، يذهب ما في وجه أبي حذيفة، فقالت: والله ما عرفته في وجه أبي حذيفة)).

وعنها أيضًا، أنّ أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه  وسلم كانت تقول: ((أبى سائر أزواج النبيصلى الله عليه  وسلم أن يُدخلن عليهنَّ أحدًا بتلك الرضاعة -تقصد رضاعة الكبير- وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلّا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه  وسلم لسالم خاصّة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة، ولا رئينا)).

وهذا الحديث ساقه أبو داود في سننه سياقة تامّة مطوَّلة، فرواه من حديث الزهري عن عروة عن عائشة وأم سلمة رضي الله  عنهما، أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان تبنّى سالمًا، وأنكحه ابنة أخيه هندًا بنت الوليد بن عتبة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله صلى الله عليه  وسلم زيدًا، وكان من تبنّى رجلًا في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث ميراثه، حتى أنزل الله تعالى في ذلك: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] فردّوا إلى آبائهم، فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري، وهي امرأة أبي حذيفة، فقالت: ((يا رسول الله، إنّا كنا نرى سالمًا ولدًا، وكان يأوي معي، ومع أبي حذيفة في بيت واحد، وكان يراني، وقد أنزل الله تعالى فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال رسول اللهصلى الله عليه  وسلم: أرضعيه، فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة)).

فبذلك كانت عائشة رضي الله  عنها تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبت عائشة رضي الله  عنها أن يراها ويدخل عليها، وإن كان كبيرًا خمس رضعات، ثم يدخل عليها، وأبت ذلك أم سلمة، وسائر أزواج النبي صلى الله عليه  وسلم أن يُدخلن عليهنّ أحدًا بتلك الرضاعة من الناس، حتى يرضع في المهد، وقلنا لعائشة: ((والله ما ندري، لعلها كانت رخصة من النبي صلى الله عليه  وسلم لسالم دون الناس)).

قلت: فإن قيل: كيف تُرضعه من ثدييها وهو كبير؟ ومجرّد النظر إليه محرم، فمن باب أولى يكون المصّ منه أشد حرمة، قلت: المراد من قوله: ((أرضعيه)) أي: احلبي اللبن في إناء وأعطيه له ليشربه، فلا إشكال في ذلك. واستدلّوا أيضًا ببعض فتاوى الصحابة بهذا، ومنها ما روي عن سالم بن أبي الجعد ومجاهد، أنّ أباه أخبره، أنه سأل عليًّا فقال: إني أردت أن أتزوّج امرأة قد سقتني من لبنها وأنا كبير، فقال عليّ: لا تنكحها، ونهاه عنها، فهذا الأثر استدلّ به من قال: إنّ رضاعة الكبير يثبت بها الحرمة.

ومنها أيضًا، ما رُوي عن ابن جريج قال: سمعت عطاء يسأل: قال له رجل: سقتني امرأة من لبنها بعدما كنت رجلًا كبيرًا، أأنكحها؟ قال: لا، قلت: وذلك رأيك، قال: نعم، قال عطاء: كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها. وهذا ما ذهب إليه من قال بأنّ رضاع الكبير يقتضي التحريم مطلقًا، وأجابوا على أدلة الجمهور بأجوبة في غاية الضعف.

قال الشوكاني: “وأجاب القائلون بأنّ رضاع الكبير يقتضي التحريم مطلقًا، وهم من تقدّم ذكرهم، عن هذه الأحاديث فقالوا: أمّا حديث: ((لا يحرم من الرضاعة إلّا ما فتق الأمعاء)) فأجابوا عنه بأنه منقطع، ولا يخفى أن تصحيح الترمذي والحاكم لهذا الحديث يدفع علَّة الانقطاع، فإنهما لا يصححان ما كان منقطعًا إلّا وقد صحّ لهما اتصاله، كما تقرّر ذلك في علم الاصطلاح، أنّ المنقطع من قسم الضعيف، وأجابوا عن حديث: ((لا رضاع إلا ما كان في الحولين)) بأنه موقوف كما تقدّم، ولا حجة في الموقوف، وبما تقدَّم من اشتهار الهيثم بن جميل بالغلط، وهو المنفرد برفعه، ولا يخفى أنّ الرفع زيادة يجب المصير إليها، على ما ذهب إليه أئمة الأصول، وبعض أئمة الحديث، إذا كانت ثابتة من طريق ثقة، والهيثم ثقة كما قاله الدارقطني، مع كونه مؤيدًا بحديث جابر.

وأجابوا عن حديث: ((فإنما الرضاعة من المجاعة)) بأن شرب الكبير يؤثّر في دفع مجاعته قطعًا، كما يؤثّر في دفع مجاعة الصغير أو قريبًا منه، وأُورد عليهم أنّ الأمر إذا كان كما ذكرتم من استواء الكبير والصغير، فما الفائدة في الحديث، وتخلَّصوا عن ذلك بأنّ فائدته إبطال تعلّق التحريم بالقطرة من اللبن، والمصة التي لا تُغني من جوع، ولا يخفى ما في هذا من التعسُّف، ولا ريب أن سدَّ الجوعة باللبن الكائن في ضرع المرضعة، إنما يكون لمن لم يجد طعامًا ولا شرابًا غيره. وأمّا من كان يأكل ويشرب، فإن هذه الشربة من اللبن لا تسدّ جوعته عند الحاجة، بل لا يسد جوعته إلّا الطعام والشراب، وكون الرضاع مما يمكن أن يسدّ به جوعة الكبير أمرٌ خارج عن محل النزاع، فإنه ليس النزاع فيمن يمكن أن تسدّ جوعته به، إنما النزاع فيمن لا تسدّ جوعته إلّا به.

وهكذا أجابوا عن الاحتجاج بحديث ((لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم)) فقالوا: إنه يُمكن أن يكون الرضاع كذلك في حق الكبير ما لم يبلغ أرذل العمر، ولا يخفى ما فيه من التعسف أيضًا، يبقى أن نقول: ما هو الفهم الصحيح لحديث التحريم برضاعة الكبير؛ لأن هذا الحديث لا شك في صحته، فإجماع أئمة الحديث على صحته قائم؛ حيث أجمعوا على صحة هذا الحديث سندًا ومتنًا، وهو حديث كما تقدّم موجود في (صحيح مسلم)، وظاهر هذا الحديث يدل على أن رضاعة الكبير تحرّم، وهذا يعارض الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن رضاعة الكبير لا تحرّم، وهذا الظاهر فيه غير مراد.

error: النص محمي !!