تحديد المفاهيم تحديدًا قاطعًا، بنفي ما يخالفها أو يعارضها في أذهان السامعين
من ملامح هذه المناهج في عصره e: تيسير تحمّل السنة وتحصيلها بالنسبة للصحابة، وهو يمثل الجهد الذي بذله الرسول e في توصيل الحديث، وفي الاطمئنان إلى انتشاره انتشارًا صادقًا كاملًا بين الصحابة.
ومن مظاهر تيسير الحصول على الحديث: تحديد المفاهيم تحديدًا قاطعًا، بنفي ما يخالفها أو يعارضها في أذهان السامعين:
فعن أبي هريرة أن رسول الله e قال: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع، قال رسول الله e: ((المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته، ويأتي قد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا، فيقعد فيقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقتص ما عليه من الخطايا أُخذ من خطاياهم فطرح عليه، ثم طُرح في النار)).
فمثل هذا المفهوم الذي تحدد بناءً على المقارنة بين ما عند الصحابة, وما قدمه إليهم الرسول e ييسّر معرفة ما جاء به الرسول e لارتباطه بما كان عندهم، والاختلاف بين نظراتهم قبل أن يطّلعوا على الحقيقة الدينية، والحقيقة الدينية في ذاتها، ومن أجل ذلك لم يكن الحديث مجرد سردٍ من الرسول e ليحفظوه أو يعوه، بل كان ربطًا بين حياتهم بما هي عليه، وبين الوضع الإسلامي الذي يُراد منهم أن يتحولوا إليه.
عن أنس > أنه قال: قال رسول الله e: ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: ((تحجزه أو تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصره)) والرسول e هنا ذكر حقيقة مستغربة مخالفة لما يفهمه الناس، فسُئل عما استغربوه من هذه الحقيقة، فبيّن لهم المفهوم الجديد للنصرة، وهو المنع بدلًا من المعاونة عندما يحتاج الأمر إلى المنع، ويحدد واجب المسلم في الأحوال المختلفة، وبخاصة في الحال التي يظن أنه لا يلزمه شيء فيها أو بالنسبة إليها.
وقد أعطى الرسول e الدليل العقلي على الحكم الشرعي في بعض الأحيان؛ فتحًا لأبواب الاجتهاد وتدريبًا عليه؛ فعن ابن عباس { أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي e فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: ((نعم، حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت قاضية؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء)).
فالرسول e لم يكتفِ ببيان الحكم، وإنما ربطه بقواعد عقلية عن طريق القياس المعتمد، الذي يمكن استعمال مثله في مثل هذا الموطن، فلم يكتفِ بتلقين الحكم وإنما فتح طريق الوصول إلى مثله، ودعّمه بالدليل المعتمد؛ لكي لا يسأل الناس عن السر في هذا الحكم أو عن السبب فيه.
وعن أبي بكرة > أن الأقرع بن حابس قال للنبي e: إنما بايعك سُراق الحجيج من أسلم وغفار ومزينة وجهينة! فقال النبي e: ((أرأيت إن كان أسلم وغفار ومزينة وجهينة خيرًا من بني تميم ومن بني عامر وأسد وغطفان، خابوا وخسروا؟)) قال: نعم، قال: ((والذي نفسي بيده، إنهم لأخير منهم)) فالرسول e واجه هذا الادعاء من الرجل في التحقير من بعض الناس بما كان منهم في الجاهلية وزال في الإسلام؛ واجهه ببيان أنهم خيرٌ ممن يظن فيهم الخير، وأن من يظن فيهم الخير خابوا وخسروا بالنسبة لهؤلاء إن لم يَصلوا إلى مرتبتهم أو يعملوا بمثل عملهم، وهذه طريقة مهمة أيضًا في التعليم؛ لأنها تستنطق المتعلم بالحكم قبل إصداره، بأن يُعرَض عليه الأمر، ثم يبدي رأيه فيه ثم يبين له أن ما رآه لا ينطبق على ما قاله، أو على من قال فيهم القول، وإنما ينطبق خلافه عليهم وعلى غيرهم.
وكل هذه الوسائل وما سيأتي من الوسائل مهم جدًّا لتحصيل العلم بالنسبة للمتحمل، وأيضًا لبذل الجهد من المعلم والتمييز بين المعلمين في وسائل التعليم، وأيضًا في وضع مناهج التعليم للوصول إلى أقصى ما يمكن من انتشار العلم, ونقله بالنسبة إلى الأجيال الحاضرة والمستقبلة.