Top
Image Alt

تحديد من يتقيد بالرواية باللفظ ولا يتصرف فيها ا

  /  تحديد من يتقيد بالرواية باللفظ ولا يتصرف فيها ا

تحديد من يتقيد بالرواية باللفظ ولا يتصرف فيها ا

وقد حدد العلماء من يتقيد من الرواة باللفظ ولا يتصرف فيها, فيروي أحيانًا بالمعنى:

فالقاسم بن محمد ومحمد بن سيرين ورَجاء بن حَيْوة كانوا يعيدون الحديث على حروفه.

وقال إبراهيم النخعي لعمارة بن القعقاع: إذا حدثتني فحدثني عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير؛ فإنه حدثني مرة بحديث ثم سألته بعد ذلك بسنين، فلم يخرم منه حرفًا.

فكانوا يعرفون من يروي باللفظ؛ إذا تكررت منه الرواية في مراحل مختلفة لا تتغير الألفاظ، ومن يروي بالمعنى؛ إذا تكررت منه الرواية في مواقفَ مختلفة، أحيانًا يحصل تبدل في الألفاظ مع اتحاد المعنى.

وقال منصور لإبراهيم النخعي: ما لسالم بن الجعد أتم حديثًا منك؟ قال: لأنه كان يكتب. فمما ساعد على الرواية باللفظ كتابة الحديث, ثم روايته من المكتوب.

وقال عبد الملك بن عمير: إني لأحدث الحديث, فما أدع منه حرفًا.

وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أنص للحديث من الزهري.

وفي (التاريخ الصغير) للبخاري: كان طاوس يعد الحديث, حرفًا حرفًا.

ولم تنحصر الرواية باللفظ في هؤلاء؛ بل كانت الأغلب الأعم من الرواة في روايتهم, إلا في كلمات نادرة يذكرها الراوي على الشك, أو يضطر -بسبب هذا الشك- إلى استبدال اللفظ بلفظ آخر يقوم مقامَه.

فالقاسم بن محمد أكثر رواياته عن عائشة <, ومن خصائص رواياته بالمتابعة لها: قِصر الحديث الذي يرويه وتحديده، واختصاصه ببيان حكم شرعي أو أمر محدد.

ومن نماذج ذلك: ما رواه أبو داود بسنده عن القاسم, عن عائشة < أنها قالت: “فتلتُ قلائدَ بُدْن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي, ثم أشعرها وقلدها، ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة؛ فما حَرُم عليه شيء كان له حلًّا”، وروى أبو داود بسنده عن القاسم وعن إبراهيم، زَعَم ابن عون أنه سمعه منهما جميعًا، ولم يحفظ حديث هذا من حديث هذا، ولا حديث هذا من حديث هذا، قال: قالت أم المؤمنين -أي: عائشة: “بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهدي؛ فأنا فتلت قلائدها بيدي من عِهْن كان عندنا، ثم أصبح فينا حلالًا, يأتي ما يأتي الرجل من أهله”.

وظهر من المقارنة أن ابن عون روى رواية إبراهيم ولم يروِ رواية القاسم، وأن إبراهيم روى بالمعنى في حدود النص، وأن القاسم في روايته التزم النص بحروفه.

وروى ابن حبان بسنده عن عروةَ, عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من التمس رضا الله بسخط الناس؛ رضى الله عنه وأرضَى الناسَ عنه, ومن التمس رضا الناس بسخط الله؛ سخط الله عليه وأسخط عليه الناسَ)).

وروى بسنده عن ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أرضى الله بسخط الناس؛ كفاه الله الناس, ومن أسخط الله برضا الناس؛ وكَله الله إلى الناس))؛ فالمعنى واحد واللفظ مختلف، ولفظ القاسم أحكم ولفظ عروة مسهب مفصل، ويظهر أنه روى بالمعنى ولم يروِ باللفظ.

وروى الطبراني في (الكبير) بسنده عن مكحول أنه قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع؛ فقلنا له: يا أبا الأسقع، حدثنا بحديث سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس فيه وَهْم ولا تزيد ولا نسيان، قال: “هل قرأ أحدكم الليلة من القرآن شيئًا؟ فقلنا: نعم، وما نحن له بالحافظين جدًّا؛ إنا لنزيد الواو والألفَ وننقص، قال: فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألون حفظه، وأنتم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون؛ فكيف بأحاديثَ سمعناها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عسى ألا نكون سمعناها منه إلا مرة واحدةً؟! حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى”.

ومراد واثلة -رضي الله عنه-: أنهم يحدثون -أي: الصحابة- بما يحفظون؛ لكن إذا تعذر عليهم من لفظ المسموع التمسوا ما يقوم مقامه، ولم يكن واثلة من فقهاء الصحابة أو المشتغلين برواية الحديث ونقده، أو ممن دعا له الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن يحفظ ما سمع؛ ومع ذلك ربط بين حفظه للحديث وحفظه للقرآن الكريم, وأن الخطأ في رواية الحديث يندر ولا يخرج عن مضمونه ولا يبتعد عن لفظه؛ كما يحدث من الخطأ لحافظ القرآن.

وحفظ الآخرين يجبُر ما يحصل من زيادة حرف أو نقصه في رواية راو فيما رواه؛ بحيث لا يكاد يغيب حرف من السنة عند من يجمع روايات الحديث الواحد عن الصحابة، وروايات واثلة قليلة، والطريق إليه غير متيسر أو مستوفٍ غالبًا شروط القبول المعتمدة؛ ولكن النظر فيما روي عنه يدل على أن المعنى عنده: ما يطابق الألفاظ الواردة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تمام المطابقة, إلا في أحرف يسيرة تحمل نفسَ المعنى الذي تحمله الألفاظ الأصلية بغير فرق.

روى أحمد بسنده عن بشر بن حيان أنه قال: جاء واثلة بن الأسقع ونحن نبني مسجدنا؛ فوقف علينا فسلم ثم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مَن بنى مسجدًا يصلى فيه؛ بنى الله U له في الجنة أفضل منه))، وروي عن غيره: “مثله” و”مثله في الجنة أفضل منه”، فروى بالمعنى.

وروى الطبراني عن مكحول عن واثلة, أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لا تمنعوا عباد الله فضل الماء والكلأ، ولا نارًا؛ فإن الله جعلها متاعًا للمُقْوين, وقوةً للمستضعفين” ولم يرد هذا التعليل للنار عن غيره؛ مما يدل على أنه استحضر القرآن في روايته للحديث, فذكر هذه الجملة بالمعنى.

وروى بسنده عن مكحول عن واثلة أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله يبعث الملائكة يوم الجمعة على أبواب المساجد, يكتبون القوم: الأول، والثاني، والثالث، والرابع، والخامس، والسادس؛ فإذا بلغوا السابع كانوا بمنزلة من قرَّب العصافير”، والمعنى صحيح؛ لكن لم يبلغ الصحابة في الترتيب هذا, وإنما وقفوا عند من قرب الدجاجة، وهذه الروايات لا تختلف عن الروايات المحفوظة بحروفها من الصحابة في المعنى، وإن اشتملت على بعض الألفاظ المغايرة مع الموافقة في صلب الموضوع.

وكان واثلة واعيًا إذا قص أو أخبر عن حادثة، روى الطبراني بسنده عن عمرو بن عبد الله الحضرمي عن واثلة أنه قال: “خرجت مهاجرًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما أقبل الناس من بين خارج وقائم؛ فجعل رسول -صلى الله عليه وسلم- لا يرى جالسًا إلا دنا إليه, فسأله: ((هل لك من حاجة؟))، وبدأ بالصف الأول، ثم الثاني، ثم الثالث حتى دنا إليَّ، فقال: ((هل لك من حاجة؟)) فقلت: نعم يا رسول الله. قال: ((وما حاجتك؟)) قلت: الإسلام، فقال: ((هو خير لك))، قال: ((وتهاجر؟))، قلت: نعم، قال: ((هجرة البادية أو هجرة الباتّة؟)) قلت: أيهما أفضل؟ قال: ((هجرة الباتة, وهجرة الباتة أن تثبت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وهجرة البادية أن ترجع إلى أهلك وعليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومكرهك ومنشطك، وأَثَرة عليك)). قال: فبسطت يدي إليه فبايعته، قال: فاستثنى لي حين لم أستثنِ لنفسي فيما استطعت.

قال: ونادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك؛ فخرجت إلى أهلي, فوافيت أبي جالسًا في الشمس مستدبرها, فسلمت عليه بتسليم الإسلام، فقال: صبوتَ؟ فقلت: أسلمتُ، فقال: لعل الله يجعل لك ولنا فيه خيرًا. فرضيتُ بذلك منه؛ فبينا أنا معه إذ أتتني أختي تسلم عليَّ، فقلت: يا أختاه، زوّديني زادَ المرأة أخاها غازيًا؛ فأتتني بعجين في دلو، والدلو في مِزْوَد؛ فأقبلتُ وقد خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعلت أنادي: ألا من يحمل رجلًا له سهمه؟ فناداني شيخ من الأنصار فقال: لنا سهمه على أن نحمله وطعامه معنا، فقلت: نعم، سر على بركة الله.

فخرجت مع خير صاحب لي, زادني حُمْلانًا على ما شرط، وخصني بطعام سوى ما أطعم معه؛ حتى أفاء الله علينا فأصابني قلائص -أي: جمال صغيرة- فسقتُهنّ حتى أتيته وهو في خبائه، فدعوته فخرج؛ فقعد على حقيبة من حقائب إبله -أي: ما يُركب عليها فوق الجمل- ثم قال: سقهن مدبرات؛ فسقتهن مدبرات، ثم قال: سقهن مقبلات؛ فسقتهن مقبلات، فقال: ما أرى قلائصك إلا كِرَامًا، قلت: إنما هي غنيمتك التي شرطتُ لك، فقال: خذ قلائصك يا ابن أخي، فغير سهمك أردنا” أي: أردنا الثواب من الله, ولم نرد جزاء دنيويًّا على حملك وعلى إطعامك.

فهذه الرواية -على طولها- يظهر فيها حسن التصوير والوعي والإحاطة بجميع أجزائها، والتنسيق بين أحداثها؛ مما يدل على أن واثلة -رحمه الله ورضي عنه- كان واعيًا لما يروي متحملًا له، وكان تغييره لبعض الألفاظ عند الحاجة إلى ذلك، وأنه كان يوسع على غيره في الرواية، ولم يروِ الصحابة بالمعنى إلا حال الضرورة.

error: النص محمي !!