Top
Image Alt

تدليس الإسناد: أنواعه، وحكمه

  /  تدليس الإسناد: أنواعه، وحكمه

تدليس الإسناد: أنواعه، وحكمه

أقسام التدليس: ينقسم التدليس إلى قسمين:

القسم الأول: تدليس الإسناد.

القسم الثاني: تدليس الشيوخ.

أولًا: تدليس الإسناد:

تعريفه: اختلف العلماء في تعريف تدليس الإسناد؛ فمنهم من ضيّق مفهوم التدليس، ومنهم من توسَّع فيه، وهذه تعريفاتهم:

التعريف الأول: أن يروي الراوي عمن قد سمع منه ما لم يسمع منه، موهِمًا سماعه منه، كأن يسمع الراوي من شيخه مائة حديث، ثم يروي عنه خمسين حديثًا أخرى بواسطة بينه وبين شيخه، ثم يروي هذه الأحاديث كلها عن شيخه مباشرة بدون ذكر الواسطة التي بينه وبين شيخه في الخمسين حديث الأخرى التي لم يسمعها منه، وفي هذا التعريف تضييق لمفهوم التدليس؛ لأنه لا بد من أن يكون الراوي المدلِّس سمع ممن دلس عنه أحاديث بالفعل، وسمع أحاديث أخرى عنه بواسطة، فأسقط الواسطة التي بينه وبين شيخه في تلك الأحاديث التي لم يسمعها منه مباشرة بلفظ يُوهم أنه سمعها منه مباشرة من غير واسطة بينهما، وإلى هذا التعريف ذهب أبو بكر البزار وأبو الحسن ابن القطان، وأبو عمر بن عبد البر، وغيرهم.

قال الحافظ العراقي: قال أبو الحسن بن القطان في تعريف تدليس الإسناد: هو أن يروي عمن قد سمع منه ما لم يسمع منه من غير أن يذكر أنه سمعه منه، قال: والفرق بينه وبين الإرسال هو أن الإرسال روايته عمن لم يسمع منه، وقد سبق ابن القطان إلى ذلك أبو بكر البزار.

التعريف الثاني: أن يروي الراوي عمن لقيه ولم يسمع منه، موهِمًا سماعه منه، وهذا التعريف أعم من التعريف الأول؛ لأنه لم يشترط السماع بين الراوي ومن دلَّس عنه، كما يفهم من هذا التعريف أن التدليس لا يقع إلا بين راويين التقيا بالفعل، وإن كان لم يحصل لأحدهما السماع من الآخر، وإلى هذا التعريف ذهب ابن الصلاح وارتضاه الحافظ العراقي وشيخ الإسلام بن حجر، وهو أولى التعاريف بالقبول.

قال ابن الصلاح: تدليس الإسناد: هو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه موهِمًا أنه سمعه منه.

قال الحافظ بن حجر: تدليس الإسناد: أن يروي عمن لقيه شيئًا لم يسمعه منه، بصيغة محتملة، ويلتحق به من رآه ولم يجالسه.

التعريف الثالث: أن يروي عمن عاصره ولم يلقَه، موهمًا أنه قد سمعه منه، وهذا التعريف أعم من التعريف الثاني؛ لأنه لم يشترط اللقاء بين الراوي ومن دلَّس عنه، بل اكتفى بالمعاصرة فقط، وإلى هذا التعريف ذهب ابن الصلاح والنووي.

قال الحافظ بن حجر: التدليس يختص بمن روى عمن عُرف لقاؤه إياه، فأما إن عاصره ولم يعرف أنه لقيه فهو المرسل الخفي، ومن أدخل في تعريف التدليس المعاصَرة ولو بغير لُقيا لزمه دخول المرسل الخفي في تعريفه، والصواب التفرقة بينهما.

التعريف الرابع: أن يُحدث الرجل عن الرجل بما لم يسمع منه بلفظٍ لا يقتضي تصريحًا بالسماع.

قال ابن عبد البر: واختلفوا في حديث الرجل عمن لم يلقه، مثل مالك عن سعيد بن المسيب؛ فقالت فرقة: هذا تدليس؛ لأنه لو شاء لسمى من حدثه، كما فعل في كثير مما بلغه عنه، قالوا: وسكوت المحدِّث عن ذكر من حدثه مع علمه به دُلسَة.

أولى هذه التعريفات الأربعة بالقبول هو التعريف الثاني، وهو الذي ارتضاه الحافظ العراقي، وانتصر له شيخ الإسلام الحافظ بن حجر، وبيّن أنه مذهب الشافعي وغيره من العلماء، وقد سبق ذلك بالتفصيل.

ملحوظة: يُلاحظ أن المدلس يروي الأحاديث التي لم يسمعها ممن دلس عنهم بلفظٍ يُوهم أنه سمعها منه لذلك يستخدم في ذلك ألفاظًا تحتمل السماع وغير السماع كـ”عن” و”قال” و”أن فلانًا قال”، فيقول: “عن فلان” أو: “قال فلان كذا” أو “أن فلانًا قال كذا” فهذه الألفاظ ليست نصًّا في السماع، بل تحتمل السماع وغير السماع لأنه لو استخدم فيما لم يسمع لفظًا هو نص في السماع كسمعت أو حدثني لا يكون بذلك مدلسًا بل يكون كذابًا إذا تعمد ذلك وحديثه يدخل في باب الحديث الموضوع.

أنواع تدليس الإسناد: ينقسم تدليس الإسناد إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأول: تدليس التسوية:

وهو أن يُسقط الراوي المدلس شيخ شيخه؛ لأنه صغير السن أو ضعيفٌ، أو لكونه ثقة عنده ضعيفًا عند غيره من علماء الجرح والتعديل ويكون شيخه كبيرًا ثقة، فأراد الراوي بإسقاط شيخ شيخه من الإسناد -تزيين الإسناد وتجويده، ولكنه حين أسقط شيخ شيخه من الإسناد استعمل في الرواية أحد الصيغ الموهمة باتصال الإسناد.

قال الحافظ العراقي: صورة تدليس التسوية أن يروي حديثًا عن شيخ ثقة، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف عن ثقة، فيأتي المدلِّس الذي سمع الحديث من الثقة الأول فيُسقط الضعيف الذي في السند، ويجعل الحديث عن شيخه الثقة عن الثقة الثاني بلفظٍ محتمل، فيسوي الإسناد كله ثقات.

مثال ذلك: أن الوليد بن مسلم كان يروي عن الأوزاعي عن نافع، وبين الأوزاعي ونافع راوٍ آخر هو عبد الله بن عامر الأسلمي، فكان الوليد يُسقط عبد الله بن عامر من الإسناد؛ لكونه ضعيفًا.

يلاحظ في المثال السابق أن الوليد بن مسلم قد أسقط عبد الله بن عامر بين الأوزاعي ونافع، والأوزاعي لم يصح له سماع من نافع، وإن كان قد جمعهما زمان واحد.

فشرط تدليس التسوية: أن يكون الشيخ قد اجتمع مع شيخ شيخه الذي أسقطه المدلِّس من الإسناد.

قال الحافظ السيوطي: قال ابن القطان: والتحقيق أن يقال: متى قيل تدليس التسوية- فلا بد أن يكون كلٌّ من الثقات الذين حُذفت بينهم الوسائط في ذلك الإسناد- قد اجتمع الشخص منهم بشيخ شيخه في ذلك الحديث، وإن قيل: تسوية بدون لفظ التدليس- لم يحتج إلى اجتماع أحد منهم بمن فوقه، كما فعل مالك؛ فإنه لم يقع في التدليس أصلًا، ووقع في هذا، فإنه يروي عن ثور عن ابن عباس، وثورٌ لم يلقه، وإنما روى عن عكرمة عنه، فأسقط عكرمة لأنه غير حجة عنده، وعلى هذا يفارق المنقطع؛ لأن شرط الساقط هنا أن يكون ضعيفًا، فهو منقطع خاص، وسُمي هذا النوع من التدليس بتدليس التسوية؛ لتسوية الراوي المدلس بين الثقة وغير الثقة؛ حيث حذف الراوي الضعيف من بين الثقتين.

حكم تدليس التسوية:

قال الحافظ العراقي: هذا القسم شرُّ أقسام التدليس؛ لأن الثقة الأول قد لا يكون معروفًا بالتدليس، ويجده الواقف على السند كذلك بعد التسوية، فقد رواه عن ثقة آخر، فيَحكم له بالصحة، وفي هذا غررٌ شديد.

قال الحافظ السيوطي: قال العلائي: وبالجملة فهذا النوع أفحش أنواع التدليس مطلقًا وشرها.

قال الحافظ العراقي: هو قادح فيمن تعمد فعله.

وقال شيخ الإسلام بن حجر: لا شك أنه جرحٌ وإن وصف به الثوري والأعمش، فالاعتذار أنهما لا يفعلانه إلا في حقِّ من يكون ثقة عندهما ضعيفٌ عند غيرهما.

قال الحافظ العراقي: وممن نقل عنه أنه كان يفعل ذلك بقية بن الوليد.

قال ابن أبي حاتم في (العلل): سمعت أبي… وذكر الحديث الذي رواه إسحاق بن راهويه، عن بقية، حدثني أبو وهب الأسدي، عن نافع، عن ابن عمر، حديث: “لا تحمدوا إسلام المرء حتى تعرفوا عقدة رأيه” فقال أبي: هذا الحديث له أمرٌ قل أن يفهمه، وروى هذا الحديث عُبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن أبي فروة، عن نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم وعبيد الله بن عمرو كنيته أبو وهب، وهو أسدي، فكناه بقية، ونسبه إلى بني أسد كي لا يفطن له، حتى إذا تَرك استحق ابن أبي فروة ألا يهتدى له، قال: وكان بقية من أفعل الناس لهذا.

وممن عُرف به أيضًا الوليد بن مسلم، قال أبو مسهر: كان الوليد بن مسهر يحدِّث بأحاديث الأوزاعي عن الكذّابين، ثم يدلسها عنهم.

ملحوظة هامة: لا يُعتبر الحديث الذي في إسناده راوٍ يُدلس تدليس التسوية- متصلَ الإسناد إلا إذا صرح الراوي المدلس بأنه سمع شيخه وكذا من بعده إلى آخر الإسناد، ولا يكفي أن يُصرِّح الراوي المدلس بسماع شيخه فقط، ليكون الإسناد متصلًا، وذلك لأن من يُدلس تدليس التسوية لا يُسقط شيخه، بل يسقط شيخ شيخه الضعيف، كما سبق.

أطلق بعض العلماء على تدليس التسوية التجويد، فيقولون: جوَّده فلان؛ أي: ذكر ما في الإسناد من الأجواد، وحذف غير الأجواد ليُحسّن بذلك الإسناد ويجوّده.

النوع الثاني: تدليس العطف:

قال الحافظ السخاوي: هو أن يصرّح الراوي بالتحديث عن شيخ له، ويعطِف عليه شيخًا آخر له، ولا يكون سمع ذلك المروي منه؛ أي: من الشيخ الذي عطفه، سواء اشتركا في الرواية عن شيخ واحد أم لا.

وشرط ابن حجر في تدليس العطف أن يكون المعطوفُ والمعطوف عليه قد اشتركا في الرواية عن شيخ واحد، وبذلك يكون الراوي قد دلّس في ذكر المعطوف؛ لأنه لم يسمع منه ما حدّث به.

مثال ذلك: أخرج الحاكم في معرفة علوم الحديث أن جماعة من أصحاب هشيم اجتمعوا يومًا على ألا يأخذوا منه التدليس، ففطن لذلك فكان يقول في كل حديث يذكره: حدثنا حصين ومغيرة عن إبراهيم. فلما فرغا قال لهم: هل دلست لكم اليوم؟ فقالوا: لا، فقال: لم أسمع من مغيرة حرفًا مما ذكرته، إنما قلتُ: حدثني حصين ومغيرة غير مسموع لي.

وذكر السخاوي هذه الرواية وقال: فلما فرغ -أي: هشيم- قال: هل دلست لكم شيئًا؟ قالوا: لا، فقال: بلى، كلُّ ما حدثتكم عن حصين فهو سماعي، ولم أسمع من مغيرة شيئًا.

وهذا محمولٌ على أنه نوى القطع، ثم قال: وفلان؛ أي: وحدََّث فلان.

النوع الثالث: تدليس القطع:

هو أن يُسقط الراوي أداة الرواية، ويقتصر على اسم الشيخ فقط، فيقول: فلان، ويُسمَّى هذا النوع بتدليس الحذف أيضًا.

مثال ذلك: قال علي بن خشرم: كنا عند ابن عيينة فقال: الزهري، فقيل له: حدثك الزهري؟ فسكت، ثم قال: الزهري، فقيل له: أسمعته من الزهري؟ فقال: لا، لم أسمعه من الزهري، ولا ممن سمعه من الزهري، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري.

النوع الرابع: تدليس السكوت:

وهو أن يذكر الراوي أداة الرواية، كحدثنا، ثم يسكت، ثم يذكر المروي عنه فيقول: فلان.

قال الحافظ السخاوي: وقد مثَّله الحافظ بن حجر في (نكته على ابن الصلاح) بما في (الكامل) لابن عدي وغيره عن عمر بن عبيد الطنافسي أنه كان يقول: حدثنا، ثم يسكت وينوي القطع، ثم يقول هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، غير أن الحافظ بن حجر يسمّي هذا النوع بتدليس القطع كما قال السخاوي.

قال الحافظ السيوطي: ومن أقسامه أيضًا -أي: من أقسام تدليس الإسناد- ما ذكر محمد بن سعيد عن أبي حفص عمر بن علي المقدمي: أنه كان يدلس تدليسًا شديدًا، يقول: سمعتُ وحدثنا، ثم يسكت، ثم يقول: هشام بن عروة. وهذا هو تدليس السكوت.

قال الحافظ السيوطي بعد أن ذكر هذه الأقسام: قال شيخ الإسلام -أي الحافظ بن حجر: وهذه الأقسام كلها يشملها تدليس الإسناد، فاللائق ما فعله ابن الصلاح من تقسيمه قسمين فقط.

قسّم ابن الصلاح التدليسَ إلى قسمين:

القسم الأول: تدليس الإسناد، وله عنده صورتان كما سبق.

القسم الثاني: تدليس الشيوخ. وسيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى.

قال البقاعي: التحقيق أنه ليس لنا إلا قسمان: الأول: تدليس الإسناد، والثاني: تدليس الشيوخ، ويتفرع على تدليس الإسناد تدليس العطف وتدليس الحذف، أما تدليس التسوية فيدخل في تدليس الإسناد وتدليس الشيوخ، فتارة يصف الراوي المدلِّس شيوخ السند بما لا يعرفون به من غير إسقاط؛ فيكون تسوية الشيوخ، وتارة يُسقط الضعفاء فيكون تسوية السند.

حكم تدليس الإسناد:

اختلف العلماء في الحكم على الرواة المدلسين وعلى أحاديثهم، وسنعرض مذاهبهم فيما يأتي:

المذهب الأول: ذهب فريق من العلماء إلى ذم الرواة المدلِّسين، واعتبار التدليس جرحًا قادحًا فيهم وفي روايتهم، فحكموا على أحاديثهم بالضعف مطلقًا، سواء بيَّنوا السماع أم لا، دلسوا عن الثقات أم عن الضعفاء. وممن قال بذلك الإمام شعبة بن الحجاج وفريق من المحدِّثين والفقهاء، حتى أن جماعة ممن احتجوا بالمرسل ذهبوا إلى هذا الرأي.

قال ابن الصلاح: أما القسم الأول -أي: تدليس الإسناد- فمكروه جدًّا، ذمه أكثر العلماء، وكان شعبة من أشدهم ذمًّا له، فروينا عن الشافعي الإمام عن شعبة أنه قال: التدليس أخو الكذب، وروينا عنه أنه قال: لأن أزني أحب إليّ من أن أدلِّس.

وإذا كان شعبة قد سوى بين التدليس والكذب وفضَّل الزنا عليه، فهذا يدل على أن التدليس حرامٌ، بل من أكبر الكبائر.

 قال ابن الصلاح: وهذا من شعبة إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه والتنفير منه ثم اختلفوا في قبول رواية من عُرف بهذا التدليس فجعله فريق من أهل الحديث والفقهاء مجروحًا بذلك، وقالوا: لا تقبل روايته بحالٍ؛ بيَّن السماع أو لم يبين.

قال الحافظ السخاوي: وحكى هذا القول القاضي عبد الوهاب في (الملخَّص) فقال: التدليس جرحٌ، فمن ثبت تدليسه لا يُقبل حديثه مطلقًا، قال: وهو الظاهر على أصول مالك.

وقيده ابن السمعاني بما إذا سُئل الراوي المدلس فلم يُخبِر باسم من يروي عنه، ولم ينفرد شعبة بن الحجاج بذمِّ التدليس بل شاركه في ذلك عبد الله بن المبارك، وزاد ابن المبارك: إن الله لا يقبل التدليس.

المذهب الثاني: ذهب جماعة من العلماء -وهم جمهور مَن قَبِل الحديث المرسل واحتج به- إلى قبول التدليس مطلقًا، سواء صرّح الراوي المدلِّس بالسماع أم لا؛ قياسًا على قبول الحديث المرسل، ومن ثمّ لم يعتبروا التدليس جرحًا في الراوي تُرَد به روايته.

نقل الخطيب هذا المذهب في (كفايته) عن خلق كثيرين من أهل العلم، قال: وزعم أن نهايةَ أمره أن يكون مرسلًا، ولكن قياس التدليس على الإرسال أمرٌ ليس بسديد؛ لأن هذا قياسٌ مع الفارق؛ لأن الانقطاع في الحديث المرسل ظاهر جلي، أما الانقطاع في الحديث المدلَّس فخفيٌّ غامض؛ لما فيه من إيهام اتصال الإسناد.

وإذا كان القول بالاحتجاج بالحديث المرسل لم يَسلم من النقد، فكيف يَسلم القول بالاحتجاج بالحديث المدلَّس من النقد؟!.

المذهب الثالث: ذهب جماعة من العلماء إلى أن التدليس لا يُقبل إلا إذا عُرف الراوي المدلِّس بأنه لا يُدلس إلا عن الثقات؛ كسفيان بن عيينة، فإنه كان يُدلِّس، ولكن لم يدلس إلا عن ثقة، وهذا ليس خاصًّا بابن عيينة، ولكن كل من عرف أنه لا يُدلِّس إلا عن ثقة قُبِل تَدْليسُه.

قال ابن عبد البر: من عُرِف بالتدليس وكان من المتسامحين في الأخذ عن كل أحد- لم يُحتج بشيء مما رواه حتى يقول: أخبرنا أو سمعت، وهذا إذا كان عدلًا ثقة في نفسه.

وإن كان ممن لا يروي إلا عن ثقته استُغني عن توثيقه، ولم يُسأل عن تدليسه. وعلى ما ذكرته لك -أكثر أئمة الحديث؛ وهذا يعني أن الراوي إذا كان لا يُدلس إلا عن ثقة قُبِل تدليسه.

قال الحافظ السخاوي: قال ابن عبد البر: ذهب أكثر أئمة الحديث إلى التفصيل؛ فمن كان لا يدلِّس إلا عن الثقات كان تدليسه عند أهل العلم مقبولًا وإلا فلا.

السبب الذي حمل هؤلاء الأئمة الأجلاء الثقات على التدليس، وإن كانوا لم يدلسوا إلا عن ثقات:

 إن السبب في ذلك يرجع إلى أنهم رأوا الذين أسقطوهم من الإسناد ثقات في نظرهم ضعفاء عند قوم آخرين، فحذفوهم من الإسناد حتى يسلم الإسناد من نقد المخالفين له، واستعملوا في الحذف بعض الصيغ الموهمة باتصال الإسناد.

لكن مهما كانت وجهة نظر المدلس في شيخه أو شيخ شيخه، فإن الأسلم له ولغيره أن يورد الإسناد بتمامه واضحًا جليًّا؛ ليرى كل ناقد فيه ما يراه.

المذهب الرابع: ذهب فريق من العلماء إلى أن ما رواه المدلس من الأحاديث بلفظ محتمل كأن يقول: “عن فلان” أو “قال فلان” وغير ذلك، ولم يبين فيه السماع والاتصال حكمه حكم المرسل من الحديث، أما ما رواه المدلس وبيَّن فيه السماع والاتصال كأن يقول: سمعت أو أخبرنا أو حدثنا وغير ذلك من الصيغ التي هي نصٌّ في السماع والاتصال فهو مقبول محتج به.

وفي الصحيحين أحاديث من رواية المدلسين رووها بالعنعنة، غير أنه تبين اتصالها من وجه آخر عندهم، وسيأتي ذلك في آخر المبحث، وهذا هو الرأي الصحيح الذي صححه الأئمة كالشافعي وابن الصلاح والنووي وغيرهم، وهو الذي عليه عمل أئمة الحديث في مصنفاتهم، وارتضاه صاحب الصحيحين في صحيحيهما.

المذهب الخامس: ذهب بعض العلماء إلى أن من كان تدليسه نادرًا قُبل تدليسه، وأما من كثر منه التدليس فلا يُقبل تدليسه، قال الحافظ السخاوي: إن كان وقوع التدليس من الراوي نادرًا قبلت عنعنته ونحوها وإلا فلا. وهو ظاهر جواب ابن المديني، فإن يعقوب بن شيبة قال سألته عن الرجل يدلس: أيكون حجة فيما لم يقل فيه حدثنا؟ فقال: إذا كان الغالب عليه التدليس فلا.

كيف يثبت التدليس على الراوي؟:

من ثبت عليه التدليس -ولو مرة واحدة في حديث واحد- صار في عداد المدلسين، ولا يشترط أن يتكرر ذلك منه ليكون مدلسًا.

قال الإمام الشافعي: ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته. وسبق هذا القول بتمامه قبل ذلك.

قال الإمام النووي بعد أن ذكر حكم تدليس الإسناد: ثم هذا الحكم في المدلس جارٍ فيمن دلس مرة واحدة ولا يشترط تكرار ذلك منه.

بم يعرف تدليس الإسناد؟:

يعرف تدليس الإسناد بما يأتي:

  1. أن يعترف الراوي المدلس أنه لم يسمع هذا الحديث من ذلك الشيخ الذي رواه عنه.
  2. أن يروي الراوي المدلس نفس الحديث مرة أخرى، فيُدخل بينه وبين ذلك الشيخ الذي روى الحديث عنه أولًا راوٍ آخر، وينضم إلى ذلك قرائن تدل على أنه لم يسمعه من شيخه الذي رواه عنه أولًا باللفظ المحتمل، ثم إنه لا بد من هذه القرائن التي تدل على أن الراوي لم يسمع الحديث من شيخه، فليس مجرد إدخال راوٍ بينه وبين شيخه في الرواية الثانية دالٌّ على التدليس؛ لاحتمال أن يكون الراوي سمعه من شيخه مرة وسمعه من شيخ شيخه مرة أخرى، فرواه مرة هكذا ومرة هكذا، وهذا موجود لا يُستغرب.
error: النص محمي !!