Top
Image Alt

ترجمة أبي بكر الصديق، وبعض مواقفه

  /  ترجمة أبي بكر الصديق، وبعض مواقفه

ترجمة أبي بكر الصديق، وبعض مواقفه

هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن كعب بن تميم بن مرة، وكنيته: أبو بكر، وعُرِفَ في الجاهلية باسم عبد الكعبة، ولكن الرسول صلى الله عليه  وسلم سمَّاه عبد الله، وكان يلقب عتيقًا، وعتيق معناه: عتيق من النار أي: عتق من النار بإسلامه؛ ولدخوله في هذا الدين العظيم، حيث كان أول مَن دخل في هذا الدين من الرجال. أبوه يكنى أبا قحافة، وأما أمه فهي أم الخير، سلمة بنت صخر بن عامر. وبالنسبة لسنه فقد وُلِدَ بعد رسول الله صلى الله عليه  وسلم بسنتين.

قبل أن نخوض في تفاصيل شخصية أبي بكر الصديق رضي الله  عنه نود أن نلفت النظر أننا أمام قمة من القمم العظيمة، وأن التاريخ لم يعطها حقها كما يجب، يعني: لا ننكر أن هناك كتاباتٍ كثيرة عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله  عنه، لكننا لا نجد مثل هذا الكم الهائل والضخم من الكتابات عن أبي بكر الصديق، كما هي عن الفاروق عمر بن الخطاب.

وبالرغم من أن شخصية الصديق نعتبرها شخصية مرحلية مهمة في تاريخ الإسلام والمسلمين، في عظمة هذا الدين، وحضارة هذا الدين، بل وبقاء هذا الدين، فَمَن يجرؤ أن يقيم مثل هذه الشخصية العظيمة التقييم الذي يليق بها، ويضعها في المكانة التي يجب أن توضع بها. فعاوننا الله على ذلك.

الصفات العامة للصديق رضي الله  عنه:

كان الصديق طيبَ العشرة، جميل المجلس، حسن الخلق، ذا عفة واضحة، وفي تواضع جم، صفات عظيمة جدًّا جمعت بينه وبين الحبيب المصطفى صلى الله عليه  وسلم.

كذلك من صفاته العامة -وهذه نقطة مهمة- أنه كان عالمًا بالأنساب، فالصديق كانت له علاقة ومعرفة بالأنساب -أي: أنساب العرب- وهذه النقطة كانت مهمة بالنسبة للصديق وبالنسبة الإسلام في بداية عهده، وتُعَرِّف المسلمين على غيرهم من القبائل في الجزيرة العربية، ومن ثم كان للصديق دوره في هذه النقطة.

بالنسبة لعمل أبي بكر: معروف أنَّ الصديق كان يعمل بالتجارة وبالأخص تجارة الثياب، وكان يدير هذه التجارة بصدق وبأمانة، مما دعا قريشًا أن تلزمه بموضوع الأشناق -والأشناق: هي ديات قريش في الجاهلية- يعني: أن أبا بكر تحمل ديات قريش في الجاهلية؛ نظرًا لعظيم مكانته وموضعه عندهم في تلك المرحلة.

نلاحظ أن أبا بكر شارك رسول الله صلى الله عليه  وسلم في بعض الصفات، سواء الصفات الخُلقية، أو الصفات الفكرية، فسنجد أن الصديق رفض بعض صفات الجاهلية مثل: شرب الخمر، وأن هذه الصفة كانت تجمعه مع رسول الله صلى الله عليه  وسلم، حيث كان لا يميل إلى ذلك ويرفضه، ويجد أنه من العِفة أن يتعفف الإنسان، وأن يترك شرب الخمر، وعندما سئل عن ذلك، قال: “أنا أصون عرضي، وكرامتي”.

كذلك نستطيع أن نقول: إنه حدث بينه وبين رسول الله صلى الله عليه  وسلم نوع من التوافق الفكري في كثير من القضايا التي كانت معروفة في ذلك العصر، وفي تقارب سني أيضًا، فقد ذكرنا أنه ولد بعد رسول الله صلى الله عليه  وسلم بعامين.

كذلك كانت للصديق مشاركة أخرى -وهي من مفارقات القدر- حيث كان الصديق جارًا لرسول الله صلى الله عليه  وسلم في حي عرف بـ”حي التجار”، حيث كان يسكن هذا الحي التجار المعروفون في قريش، فكان الصديق يسكن في هذا الحي، كما كانت تسكن في هذا الحي السيدة خديجة رضي الله  عنهما فعندما قام صلى الله عليه  وسلم بالتجارة أو بالعمل في تجارتها، ارتبط بها وتزوجها.

إسلام أبي بكر الصديق:

من المعروف أنَّ أبا بكر هو أول المؤمنين من الرجال، أول مَن دخل الإسلام من الرجال هو أبو بكر الصديق، ومعروف أن أول من دخل الإسلام من النساء هي السيدة خديجة، ومن الصبيان هو علي بن أبي طالب رضي الله  عنه، وهناك حديث لرسول الله صلى الله عليه  وسلم يقول فيه: ((ما دعوت أحدًا -أي: إلى الإسلام- إلا كانت له كَبوة، غير أبي بكر))، يعني: إذا دعوت أحدًا إلى الإسلام لا بد أنه تردد بعض الشيء، أخذ وأعطى في نفسه مثلًا، إلا أن أبا بكر الصديق بمجرد أن دعاه رسول الله صلى الله عليه  وسلم أقبل على هذا الدين العظيم، ودخل في هذا الدين العظيم، وأعلن إسلامه من أول لحظة، هذا هو معنى كلام رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

وقد كانت هناك علاقة قوية ربطت بين رسول الله صلى الله عليه  وسلم وبين أبي بكر الصديق. ويذكر في هذا أنه حدث خلاف بين الصديق والفاروق عمر، فجاء الصديق إلى رسول الله صلى الله عليه  وسلم وقد عَرَفَ رسول الله بهذا الخلاف، فرئي بعض الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه  وسلم وقال صلى الله عليه  وسلم: ((إن الله بعثني إليكم -يعني: يا معشر قريش- فقلتم: كَذَبْتَ -يعني: كذبوه ورفضوا أمر الدعوة- وقال أبو بكر: صدقتَ))، يعني: هو الوحيد الذي قال لي: صدقت، ليس هذا فحسب، ((ولكن الصديق واساني بنفسه، وماله))، يعني: لم يكتفِ بتصديقه، ولكنه واسَى رسول الله صلى الله عليه  وسلم في أمر الدعوة بنفسه وماله. يقول رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟!))، وهذا يدل على مدى العلاقة والحب والخلة التي كانت تربط بين رسول الله صلى الله عليه  وسلم وبين أبي بكر الصديق.

وأيضًا يقول فيه رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه بها، ما خلا أبا بكر))، يعني: أي واحد كان له فضل أو يد، أو دور في خدمة الإسلام والمسلمين، أو في خدمة رسول الله صلى الله عليه  وسلم وهذا الدين العظيم، إلا وكافأنه على ما صنع، إلا أبا بكر ما كافأناه على ما صنع: ((فإن له عندنا يدًا، يكافئه الله تعالى بها يوم القيامة))، يعني: لا يكافئ أبا بكر على ما صنع في خدمة الإسلام والمسلمين إلا اللهُ يوم القيامة، فلا يستطيع أحدٌ أن يكافئه على ما قَدَّم.

وهذه معلومات مهمة بالنسبة لموضوع مكانة أبي بكر الصديق، وأثر أبي بكر الصديق في الدعوة الإسلامية، ودوره في هذا الدين العظيم.

أثر أبي بكر الصديق في الدعوة:

عندما دخل أبو بكر الإسلام لم يكتفِ بكونه دخل الإسلام، ولكنه كان جهازًا إعلاميًّا متحركًا؛ لنشر هذا الدين والدعوة لهذا الدين، فنجد أبا بكر الصديق يدعو للإسلام كلَّ مَن كانت له به عَلاقة جيدة أو طيبة، أو يستشعر فيه أنه من النفوس التي يمكن أن تُقبل على هذا الدين دعاه إلى الإسلام، ومن ثم فقد كان أبو بكر سببًا في إسلام جملة من كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه  وسلم فعلى سبيل المثال لا الحصر: كان الصديق سببًا في إسلام عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله  عنهم كل هؤلاء كان أبو بكر الصديق هو السبب في إسلامهم، وفي دخولهم لهذا الدين العظيم، فرضي الله عن أبي بكر الصديق.

كذلك كان لأبي بكر الصديق موقف عظيم من مجموعات الرقيق التي كانت منتشرة في مكة، ومجموعات المستضعفين الذين كانوا يحيَوْن في مكة، فتذكر الروايات والمصادر التاريخية أن جملة ما أنفقه أبو بكر الصديق في عِتق هؤلاء الأرقاء، وتحريرهم وإخراجهم من ذل العبودية إلى الحرية، وصل إلى خمسة وثلاثين ألف درهم، أنفق هذه الأموال في هذا العصر مع شح المال وقلته، حيث كان يساوم مُلاكَ هؤلاء العبيد على حريتهم، وعلى أن يطلقوا حريتهم ويطلقوهم، فعندما كان يتفق معهم يدفع هذا القدر من المال ويحرر هذا العبد؛ ليصير حرًّا، ومن أشهر هؤلاء الذين حررهم الصديق، هو سيدنا بلال بن رباح مؤذن الرسول صلى الله عليه  وسلم وهي قصة معروفة.

تجارة الصديق في ظل الإسلام:

لقد مارس أبو بكر التجارة قبل الإسلام، وأبقى على هذا الأمر بعد الإسلام، وبالأخص تجارة الثياب.

لكن هنا لنا وقفة: من المعروف أن التاجر له رأس مال يتحرك به، لكن أهم من رأس المال أن التاجر يحتاج إلى علاقات جيدة بالآخرين؛ حتى يروج لتجارته، وحتى يتعرف عليه الناس، وحتى يقبل عليه الناس، فيشترون منه، ومن ثم تروج هذه التجارة ويكسب الأموال، الموقف الذي اتخذه أبو بكر الصديق بدخوله الإسلام، وإقباله على هذا الدين ودعوة الناس له، إلى آخر هذه المواقف، من الطبيعي أن تتأثر تجارة أبي بكر الصديق بهذه المواقف؛ لأن القرشيين أو المكيين كانوا على الكفر، ولم يدخلوا الإسلام، ومن الطبيعي وقتها أنهم سوف يكونون حجرَ عثرة أمام تجارة أبي بكر، وسوف يوقفون هذه التجارة، ولن يساعدوا على نموها أو الشراء منها، أو أو… إلى آخره.

وبالطبع كان أبو بكر على علم بهذا الأمر، ويعرف أنه بعلاقته برسول الله صلى الله عليه  وسلم وبدخوله الإسلام، وبالدعوة لهذا الدين، سوف يخسر الكثير من التجارة ومن الأموال، ولكن الصديق آثَرَ أن يتاجر تجارة أخرى هي التجارة مع الله سبحانه وتعالى، وفضَّل التجارة مع الله على تجارة الأموال، هو لم يوقف تجارته، ولكنه يعلم أن الرازق هو الله، والمعطي هو الله، ومن ثم لم يتأثر بهذه النقطة، ولم يحسب لها حسابًا، واستمر في تجارته واتكل على الله سبحانه وتعالى في هذا الأمر. وهذا الأمر يعد قمةً في التضحية وذروة الإيمان، توكل كامِلٌ ومطلق على الله سبحانه وتعالى.

ويذكر في هذا: ما حدث في إحدى الغزوات عندما طلب رسول الله صلى الله عليه  وسلم من الموسرين من المسلمين، أن يتصدقوا لإحدى الغزوات، وأن ينفقوا عليها، فما كان من الصديق إلا أن أتَى بكل ماله بهذه الصورة، ووضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه  وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((وماذا تركت لأهلك يا أبا بكر؟))، قال له: “تركت لهم الله ورسوله”.

هذا هو الإيمان، وهذه هي ذروة الإيمان التي أرادها الله من المسلمين، وهذه هي شخصية أبي بكر الصديق.

موقف الصديق في الهجرة، وكيف هاجر؟

طلب أبو بكر من رسول الله صلى الله عليه  وسلم الإذن في الهجرة -وهنا ملمح بسيط: أن تحرك المسلمين لم يكن بصورة فيها شيء من التلقائية أو البلهنية، لكنهم يستأذنون من رسول الله صلى الله عليه  وسلم قبل أن يتركوا مكة، حتى يهاجروا إلى المدينة، وهذا ما كان من أبي بكر الصديق- ماذا كان موقف الرسول؟ قال له: ((يا أبا بكر، لا تعجَلْ، لعل الله يجعل لك صاحبًا))، وأبو بكر كان من الناس الذين عندهم مشاعر حساسة، ومرهفة وعالية، فاستشعر كما لو أن رسول الله صلى الله عليه  وسلم يلمح له بأنه قد يكون هو رفيقه في هذه الهجرة، ففرِح الصديق رضي الله  عنه وأعَدَّ راحلتين؛ حتى يتحرك بهما عندما يُؤذَن لرسول الله صلى الله عليه  وسلم في الهجرة.

ونود أن نشير إلى أن أبا بكر الصديق وكلَّ أسرته، كانوا في خدمة الرسول صلى الله عليه  وسلم وفي خدمة الدعوة، وفي خدمة الهجرة، وحدث الهجرة.

وسوف يتبين لنا ذلك فيما بعد.

بدأت حركة الهجرة من بيت أبي بكر، من باب خلفي في بيت أبي بكر، تحرك أبو بكر ورسولُ الله صلى الله عليه  وسلم في بداية رحلتهما إلى الهجرة.

وكان إعداد الطعام من مسئولية السيدة أسماء بنت أبي بكر، والإتيان بالأخبار ونقلها إلى أبي بكر الصديق ورسول الله صلى الله عليه  وسلم. وهما في الغار كانَا مسئولية عبد الله بن أبي بكر، يتسمَّع الأخبار في مكة، ويأتي لهما بها.

وكان خادمه عامر بنُ فهيرة يمشي بالأغنام على ذلك الطريق الذي يصل إلى الغار، بحيث يمحو الآثار -آثار الأقدام التي يمكن أن تصل إلى الغار، أقدام عبد الله وخلافه، فتقوم الأغنام بمحو هذه الآثار- وهذا يؤكد على أن أبا بكر الصديق وآل بيته وأسرته كلهم، كانوا في خدمة رسول الله صلى الله عليه  وسلم وفي خدمة هذا الدين، وفي خدمة حادث الهجرة.

كذلك من المواقف التي تذكر للصديق أثناء الهجرة: أنه ما ترك رسول الله صلى الله عليه  وسلم قط، فإذا استشعر أن الخطر يكون من أمامه يمشي من أمامه، وإذا استشعر أن الخطر من خلفه يأتي من خلفه، وإذا استشعر أنه من جانبه يأتي بجانبه، وهكذا كان دائمَ الحرص على رسول الله صلى الله عليه  وسلم مضحيًا بنفسه وروحه في سبيل رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

وتذكر الروايات التاريخية أنهما عندما أتيَا إلى الغار، وقبل أن يدخلَا إليه، طلب الصديق من رسول الله صلى الله عليه  وسلم واستأذنه أن يدخل هو الغار أولًا، وأن يطمئن إلى أن الغار خالٍ من الهوام ومن الحشرات التي يمكن أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه  وسلم، وبعد ذلك أدخل رسولَ الله صلى الله عليه  وسلم إلى الغار.

ويُذكر في ذلك أيضًا: أن قريشًا تحركت، وأقبلت إلى مكان الغار، وأن الصديق حزِن حزنًا شديدًا عندما رآهم، وأخبر رسول الله صلى الله عليه  وسلم بحزنه، وهنا قال له رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((لا تحزن يا أبا بكر، ما بالك باثنين اللهُ ثالثهما)).

كل هذه المواقف إن دلت فإنما تدل على عظمة الصديق، وعلى دور الصديق، وعلى أثر الصديق في هذه الدعوة وفي هذا الدين.

موقف أبي بكر الصديق في مدينة رسول الله صلى الله عليه  وسلم:

إن الملازمين أو الذين كانوا على صلة بأخبار الفرس والروم، ويعرفون أن دولتي الفرس والروم يستخدمون لقب الوزارة والوزير، كانوا يطلقون على أبي بكر الصديق وزيرَ محمد صلى الله عليه  وسلم.

إن الصديق لازم الرسول صلى الله عليه  وسلم في مر العيش وحلوه، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله، ومعروف حادث الهجرة: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40]، وقد نزل في ذلك قرآن يتلى إلى يوم القيامة، كذلك كانَا ثاني اثنين في العريش يوم بدر، وقف مع رسول الله صلى الله عليه  وسلم وأخذ يهون على رسول الله صلى الله عليه  وسلم وهو يدعو ويلح في الدعاء، ومعروف هذا القصص الذي ورَدَ يوم بدر.

كذلك كانت معه الراية السوداء في غزوة تبوك، راية رسول الله صلى الله عليه  وسلم وكانت سوداء في غزوة تبوك.

كذلك من المواقف العظيمة في حياة الصديق: أنه كان هو أمير الحج العام التاسع من الهجرة النبوية، عندما وقعت أول حجة في الإسلام، فقد أمَّر فيها رسول الله صلى الله عليه  وسلم أبا بكر الصديق، ولم يخرج رسول الله صلى الله عليه  وسلم في هذه الحَجة، وهي أول حجة.

وقد تعددت الأقوال في ذلك، بعضها يقول: إنه كان عام الوفود، فقد كانت الوفود تأتي لرسول الله صلى الله عليه  وسلم لكي تعلن إسلامها، وبعض الأقوال قالت: إن تأخر رسول الله صلى الله عليه  وسلم في الحج؛ حتى يبين أن الحج كان على التراخي وليس على السرعة، والأقوال في ذلك كثيرة، ولكن ما يعنينا أن الصديق كان هو أول من أمر بإمارة الحج في عصر رسول الله صلى الله عليه  وسلم، وعلى يد رسول الله صلى الله عليه  وسلم كان هذا في العام التاسع بالهجرة.

ومن أعظم مواقف الصديق ومن أهم المواقف على الإطلاق، هو صلاته بالمسلمين عندما مرِضَ رسول الله صلى الله عليه  وسلم. فلما اشتد المرض بالحبيب، قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((أمروا أبا بكر، فليصل بالناس، أو مروا أبا بكر فليصل بالناس)). وكان للسيدة عائشة موقف من هذه الأمر، حيث قالت لرسول الله صلى الله عليه  وسلم: “إن أبا بكر رجل أسيف أو حزين، لا يملك نفسه عند قراءة القرآن”، يعني: أرادت أن يختار رسول الله صلى الله عليه  وسلم رجلًا آخرَ، فقال رسول الله: ((يأبَى الله ويأبى رسولُ الله صلى الله عليه  وسلم إلا أن يكون أبو بكر))، هو الذي يصلي بالناس لعظم مكانته، وعظم دوره، وسوف نرى أن هذا الموقف كان تأهيلًا للصديق حتى يكون هو خليفة المسلمين بعد ذلك، وإن لم يكن تصريحًا بذلك، ولكنه فيه بعض الإشارة لهذا الأمر.

وموقف السيدة عائشة رضي الله  عنهم لم يكن ردًّا لكلام رسول الله صلى الله عليه  وسلم؛ ولكن نظرًا لأنها تخوفت أن يشعر الناس بالتشاؤم من الصديق رضي الله  عنه؛ خاصةً لو كانت إرادة الله قد أذنت بوفاة رسول الله صلى الله عليه  وسلم بعد ذلك، فكان أبو بكر إمام المسلمين في الصلاة، فَأَمَّ الناس في الصلاة، وحدث أن رسول الله صلى الله عليه  وسلم في اليوم الذي توفي فيه، خرج للناس في الصلاة، وفرح المسلمون به، وكادوا أن يُفتنوا في صلاتهم، وتحرك أبو بكر ليدع مكان الإمامة لرسول الله صلى الله عليه  وسلم ظنًّا منه أن رسول الله صلى الله عليه  وسلم قد عُفِيَ وتعافَى، وأنه يمكن أن يؤم الناس، فأشار له رسول الله صلى الله عليه  وسلم بأن يستمر في صلاته، تقول بعض الروايات: أنه -أي: الرسول صلى الله عليه  وسلم أشار له بالاستمرار في الصلاة، وصلى بجوار الصديق، فصلى أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه  وسلم وصلى الناس بصلاة أبي بكر.

موقف الصديق رضي الله  عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه  وسلم:

إذا كان ما ذُكر فكرة عامة عن الصديق في حياة النبي، ماذا كانت مواقف الصديق بعد وفاة النبي صلى الله عليه  وسلم؟

هناك مجموعة مشاهد يجب أن نتوقف أمامها كثيرًا، بل يجب أن يتوقف التاريخ أمامها كثيرًا، وهي منعطفات خطيرة في تاريخ الإسلام والمسلمين وقف لها أبو بكر كالأسد، وأعطاها حقها كما يجب أن يكون، وألهمه الله سبحانه وتعالى بالحق والصواب فيها، فحافظ على هذا الدين، وحافظ على هذه المِلة، وأبقى على أصولها نقيةً واضحةً إلى يوم الدين، ولولا أبو بكر لتميعت الأمور -والعياذ بالله- وفقد الإسلام كثيرًا من مبادئه، لولا أبو بكر الصديق ومواقفُ أبي بكر الصديق التي اتسمت بالقوة والصرامة وبالحسم؛ لأنها النقاط الأولى في حياة الدين وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه  وسلم وأي تميع كان يمكن أن يكون التزامًا بعد ذلك من جماعة المسلمين، فيفقد هذا الدين مكانته وعظمته.

المشهد الأول:

كان مشهد وفاة الرسول صلى الله عليه  وسلم وحالة المسلمين، فقد أُصيب المسلمون بهلع شديد واضطراب شديد، عندما علموا بوفاة رسول الله صلى الله عليه  وسلم وتطايرت الأخبار بذلك، فاهتزت النفوس، وتقلقلت القلوب والأرواح، وصار الناس بين مصدق ومكذب، هل يمكن أن يتوفى رسول الله صلى الله عليه  وسلم؟! إلى آخر كل ذلك. ومعلوم القصة الشهيرة الخاصة بالفاروق عمر بن الخطاب، وكيف أنه توعَّد الناس، وتوعد مَن يقول: إن رسول الله صلى الله عليه  وسلم قد توفي.

دخل الصديق أبو بكر مسجدَ رسول الله صلى الله عليه  وسلم، ودخل غرفة ابنته السيدة عائشة، ودخل على رسول الله صلى الله عليه  وسلم فكشَفَ وجهه الشريف، وقبَّله، وقال له تلك القولة المؤثورة: “أما الموتة التي كتب الله عليك، فقد ذقتها يا رسول الله، ثم لن يصيبك بعدها موتة أبدًا”، هكذا قال الصديق للحبيب النبي صلى الله عليه  وسلم. وبعد أن قبَّله، خرج إلى جموع الناس، وَهُم ما زالوا في حالة الهلع وفي حالة الخطب الشديد، وهذا التردد، وكان الفاروق ما زال واقفًا في موقفه يتوعد ويتهدد مَن يقول على رسول الله صلى الله عليه  وسلم: أنه توفي، فقال له الصديق: “على رِسلك يا عمر”، وأقبل على جماهير المسلمين قائلًا: “أيها الناس، مَن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت”.

كلمات من نور حفظها الزمان للصديق، منعطف خطير في حياة الإسلام وحياة أمة المسلمين والمسلمين؛ لأنه كان لو قدر الله لو زاغت العقول، لمُيع هذا الدين، وذهب أصل عظيم من أصوله، ولكن الله هيأ لهذا الدين أبا بكر في هذه المرحلة؛ ليصحح المسيرة، وحتى تستمر المسيرة وتستمر الأمة على نهجها السليم والصحيح الذي وضعه النبي صلى الله عليه  وسلم.

المشهد الثاني:

مشهد آخر أيضًا حدث فيه خلاف وكان للصديق رضي الله  عنه دوره في الابتعاد عن هذا الخلاف، أو حسم هذا الخلاف، وهو مكان الدفن، أين يدفن رسولُ الله صلى الله عليه  وسلم؟ وأين يوارَى هذا الجسمانُ الطاهرُ الشريفُ؟

ترددت الأقوال والكلمات، ولكن الصديق كان يحفظ حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه  وسلم وهو: ((ما قبض نبي إلا ويدفن حيث مات))، من رحمة الله سبحانه وتعالى بالأمة أن هيأ الله لها أبا بكر الصديق، وحفظ أيضًا هذا الخلاف، وقضى على هذا الخلاف، واستقر رأي الأمة على أن يدفن الرسول صلى الله عليه  وسلم في غرفة السيدة عائشة -رضي الله  عنها.

أيضًا لا يُنسى مواقفه في إنفاذ جيش أسامة، وكيف أنه أصر على أن يطبق ما قاله الرسول صلى الله عليه  وسلم حرفيًّا في هذا الأمر، ومعروف الآثار العظيمة التي ترتبت على إنفاذ جيش أسامة، وسوف يأتي الحديث عن هذا الأمر بالتفصيل إن شاء الله تعالى، وبحول الله وقوته.

كذلك إصراره جَعْل القيادة لأسامة، وألا يتغير أمر من تلك الأمور التي أقرها رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

كذلك من الأمور العظيمة الجسورة: موقفه من المرتدين، وكيف دخل حروب الردة ولم يتورع في هذا الأمر، كذلك موقفه من مانعي الزكاة.

وهناك خلاف كبير كان مع عمر على أساس أن هؤلاء مسلمين، وأنهم لم يرتدوا ولم يتركوا الإسلام، ولكنهم ما زالوا على إسلامهم وإن كانوا يريدون أن يعبثوا ببعض أركان الإسلام، وهي الزكاة، ذهب الفاروق لرأي عدم محاربتهم وعدم قتالهم، وهم مسلمون وليس هناك ما يدعو لقتالهم.

ولكن الصديق وقف موقفًا حازمًا صارمًا، جازمًا قاطعًا، أبقَى لأركان هذا الدين أهميته العظمى والقصوى، بحيث أن تصير هذه الأركان سلاسلَ من ذهب، لا يستطيع أي مسلم أن يفرط فيها بعد أن تصرف أبو بكر بهذه الصورة وبهذه الطريقة، فقد حافظ على أركان الإسلام؛ لتبقى نقية طاهرة جوهرية في هذا الدين إلى يوم الدين، لا يستطيع أي عابث مهما حاول أن يعبث بها، فاستقرت الأمور على هذه الصورة؛ نظرًا لموقف الصديق رضي الله  عنه.

فقد رأَى الصديق أنَّ الفاروق يحاول أن يقصر الحروب على الردة، وألا يتعرض لمانعي الزكاة، فشدَّه الصديق وعاتبه عتابًا شديدًا، وقال له: “ما لك يا عمر؟! أجبار في الجاهلية، خوار في الإسلام؟”، هكذا قال له: أتكون جبارًا في الجاهلية، ومعروف بجبر وقوتك وبطشك في الجاهلية، وعندما تكون مسلمًا وفي ظل الإسلام وراية الإسلام، يأتيك الخوار ويأتيك الضعف والوهن، هل هذا يمكن أن يكون؟ كيف نتسامح مع مَن منعوا الزكاة، وقال قولته الشهيرةَ: “والله لو منعوني عَقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله، لقاتلتهم عليه”.

ومن هنا بقيت لأركان الإسلام عظمتها وأهميتها ومكانتها في هذا الدين أبدَ الدهر، حتى يبعث الله الخلق، وحتى تقوم القيامة.

error: النص محمي !!